
محمد جمال الدين
لا أرض أخرى
هل تُصلح السينما ما عجزت عنه السياسة؟! سؤال من الممكن أن تأتى الإجابة عليه من خلال الفيلم الوثائقى (لا أرض أخرى) إنتاج مشترك بين دولة فلسطين والنرويج، إخراج الرباعى باسل عدرا، وحمدان بلال (فلسطينيان)، ويوفال أبراهام، وراحيل تسور (إسرائيليان)، وهم بالمناسبة ناشطون وداعمون للقضية الفلسطينية، ولذا تأتى محاولات الرباعى لتقديم فيلم ليكون بمثابة رد فعلٍ مقاوم فى طريق البحث عن العدالة المحرمة على الشعب الفلسطينى من جراء الاعتداءات الممنهجة التى ترتكب ضده منذ عام 1948، الفيلم لم يكتفِ بحصد جائزة الأوسكار كأفضل فيلم وثائقى طويل، لكنه حصد أيضا جائزة الجمهور فى برنامج (البانوراما) المصاحب لمهرجان جائزة الأوسكار لأفضل فيلم وثائقى.
الفيلم يوثق معاناة الفلسطينيين فى بلدة (مسافر يطا) جنوب الخليل، جراء اعتداءات الاحتلال الإسرائيلى المتكررة، من خلال الناشط الفلسطينى الذى هو فى ذات الوقت أحد مخرجيه باسل عدرا، وهو يقاوم التهجير القسرى للعائلات الفلسطينية فى مسافر يطا، بالإضافة إلى عمليات هدم المنازل والمساكن التى ينفذها الاحتلال فى بلدته. كما يسلط الفيلم الضوء على قصة عائلة فلسطينية تهجّرها حكومة الاحتلال من منزلها فى المسافر لصالح التوسع الاستعمارى فى المنطقة. مع هذا الواقع المؤلم تنشأ حالة من الألفة بين باسل وأبراهام، تتحول الى صداقة، لكن علاقتهما تواجه تحديات بسبب الفجوة العميقة بين ظروف معيشة كلٍّ منهما. وهذا ما أكداه عندما سلطا الضوء على الواقعين المتوازيين اللذين يعيشان فيه، فأبراهام لديه لوحة أرقام إسرائيلية صفراء تسمح له بالسفر إلى أى مكان بينما باسل محاصر فى منطقة تضيق بشكل مستمر بالنسبة للفلسطينيين، وهذا تحديدا ما جعل باسل يناشد قادة وشعوب العالم الحر بضرورة المساعدة فى إنهاء الصراع الفلسطينى الإسرائيلى المستمر باتخاذ إجراءات جدية لوقف الظلم ووقف التطهير العرقى للشعب الفلسطينى، ولذلك اتهم باسل وأبراهام الولايات المتحدة الأمريكية بعرقلة التوصل لحل، التى خرج رئيسها الحالى مطالبا بضرورة تهجير الفلسطينيين من وطنهم، لهذا شهد حفل تسليم الجائزة تصريحا لأبراهام الذى كان يقف بجانب باسل فوق خشبة مسرح دولبى فى هوليوود، يقول: (صنعنا هذا الفيلم، فلسطينيون وإسرائيليون، لأن أصواتنا معا أقوى. نرى بعضنا البعض، ونرى الدمار الوحشى الذى حل بغزة وشعبها والذى يجب أن ينتهى، واحتجاز الرهائن الإسرائيليين الذين اختُطفوا فى السابع من أكتوبر ويجب إطلاق سراحهم أيضا)، وتابع: (عندما أنظر إلى باسل، أرى أخى، لكننا غير متساويين. نعيش فى نظام حاكم حيث أنا حر بموجب القانون المدنى وباسل يخضع للقانون العسكرى الذى يدمر حياته ولا يستطيع السيطرة عليها)، وقال: (هناك طريق مختلف. حل سياسى دون تفوق عرقى، مع ضمان الحقوق الوطنية لكلا شعبينا. ولا بد أن أقول فى أثناء وجودى هنا فى أمريكا إن السياسة الخارجية فى هذا البلد تسهم فى قطع هذا الطريق)، مختتما كلمته بقوله:(ولماذا؟ ألا ترون أن حياتنا متداخلة؟ وأن شعبى يمكن أن يكون آمنا حقا إذا كان شعب باسل حرا وآمنا حقا؟ هناك سبيل آخر. لم يفت الأوان بعد للحياة).
بالطبع تجنبت كافة وسائل الإعلام الإسرائيلية إلى حد كبير تناول الفيلم الذى يوثق تدمير إسرائيل للمنازل الفلسطينية فى الضفة الغربية، واقتصر الأمر على بعض التغطيات المتفرقة فى وسائل الإعلام اليسارية فى إسرائيل، التى تقف ضد حكومة مجرم الحرب نتنياهو.
وفى رد فعل على فوز الفيلم بجائزة الأوسكار، هاجم وزير الثقافة الإسرائيلى (ميكى زوهار) منح الفيلم الجائزة، حيث قال فى تغريدة له على منصة «إكس» نقلتها صحيفة (تايمز أوف إسرائيل) إن فوز فيلم (لا أرض أخرى) بجائزة أوسكار يعد لحظة حزينة لعالم السينما وبدلاً من عرض التعقيد فى واقعنا، اختار مخرجو الأفلام ترديد الروايات التى تشوه صورة إسرائيل فى العالم. وأضاف زوهار: (إن حرية التعبير قيمة مهمة، ولكن تحويل تشويه إسرائيل إلى أداة للترويج الدولى لا يعد إبداعاً، إنه تخريب لدولة إسرائيل). كما انتقدت القناة الـ14 الإسرائيلية هذا الفوز، ووصفت الفيلم بأنه (وثائقى معادٍ لإسرائيل)، مضيفة أن (هوليود تثبت مجددًا أنها اختارت الوقوف إلى جانب الطرف الآخر).
كما واجه فيلم «لا أرض أخرى» الكثير من المعاناة فى الولايات المتحدة، وذلك لأنه لم يعثر على أى موزع على الرغم من الإشادات العديدة التى حصل عليها، خوفا بالطبع من اللوبى الصهيونى الذى يسيطر على كافة مناحى الحياة فى المجتمع الأمريكى.
أخيرا من المؤكد أن فوز فيلم (لا أرض أخرى) بجائزة الأوسكار 2025 لأفضل فيلم وثائقى طويل، أثار حالة من الفرح والفخر بين جمهور منصات التواصل الفلسطينية والعربية، فى حين أنه أثار غضبًا وانتقادات لدى الجانب الإسرائيلى، إلا أنه عكس أيضا تحولًا فى كيفية تلقى العالم للرواية الواقعية الفلسطينية، فالفيلم ساهم فى فضح جرائم الاحتلال الإسرائيلى من تهجير قسرى وهدم للمنازل والمستشفيات ودور العبادة وتجويع وإبادة ارتكبت فى حق الشعب الفلسطينى، وما مَنْعُ عرضه فى أمريكا إلا تأكيدا لما تناوله الفيلم، لذلك أطالب بضرورة مشاهدته ونشره على نطاق واسع، تقديرًا لجهود فريق العمل، الذى وثّق بشجاعة معاناة أهالى (مسافر يطا) لسنوات طويلة، أملا أن يسهم ذلك فى زيادة الوعى العالمى بالممارسات الإسرائيلية فى الأراضى المحتلة، لعله ينجح فى الوصول إلى حل لإنهاء هذا الصراع الذى عجزت كل الطرق والوسائل السياسية عن حله..