
نبيل عمر
ترامب وهتلر..غرور القوة مغلف بالأكاذيب!
لا أنكر أن الفكرة خطرت فى بالى قبل فترة، تحديدا مع قبعات دونالد ترامب الحمراء (أجعل أمريكا عظيمة مرة أخرى)، فالعبارة تشبه شعارات أدولف هتلر وهو يدغدغ مشاعر الألمان ويحثهم على الثأر من هزيمتهم فى الحرب العالمية الأولى، مما حدث لهم من إذلال وتنازلات فى معاهدة فرساى، لكننى استبعدت الفكرة، وقلت فى نفسي: ليس إلى هذه الدرجة.
صحيح أن ترامب قلب الدنيا رأسا على عقب فى بضعة أسابيع، بينما هتلر احتاج إلى عشرين سنة كاملة ليبدأ فى صناعة الفوضى العالمية، ويجب على الكاتب أن يلتزم بالتفكير العلمى المنظم والقيم العليا فى كل ما يكتب ولا يدع مشاعره الرافضة للرجل وتفكيره وسياساته تقوده، وإلا فقدت كتاباته قيمتها!، والأهم أن أمريكا هى التى تقود النظام العالمى الآن، وإن كانت قيادة رديئة وكفاءة عارية، ولم تهزم مثل ألمانيا فى حرب عالمية، وإن خسرت بعض الحروب الصغيرة فى فيتنام وأفغانستان، وفشلت فى أعمال «الشرطة الدولية» التى نفذتها فى كوريا والعراق!
لكن فكرة ترامب وهتلر اللعينة عادت مجددا بخدعة، وقالت لى: تعالى نلعب مع برامج الذكاء الاصطناعى؟، هززت رأسى كأننى أرفضها، ثم قلت: لا مانع، الدنيا الصيام، وتسلية الصيام بأفكار جديدة مع الذكاء غير الإنسانى، قد تكون ممتعة وتحمل مفاجآت عميقة.
وبأدب سألت برنامج «كوبايلوت»: هل توجد عناصر تشابه بين الرئيس دونالد ترامب والزعيم أدولف هتلر؟
أجاب كوبايلوت بتحفظ واضح: هذه مقارنة مثيرة للجدل، وعموما ينصح المؤرخون بالحذر عن رسم أوجه تشابه بين الشخصيات والأحداث التاريخية، بسبب اختلافات جوهرية فى الظروف والسياقات، لكن يمكن أن أشير إلى بعض التشابه:
- النزعة القومية ووعود الانتعاش الوطنى، وكلاهما استخدم هذا النوع من الخطابات، ووعدا بإعادة بلديهما إلى مواقع العظمة.
- التوسع فى الدعاية والتجمعات لتنمية قاعدة جماهيرية قوية للدعم ونشر رسائلهما.
- التنمر على الأقليات والمهاجرين وتحميلهما مشكلات زاعقة فى بلديهما.
- الهجوم على وسائل الإعلام وانتقادها بنشر أخبار كاذبة والتحيز ضدها.
- تجاهل المعايير الديمقراطية، وكلاهما متهم بتقويض الأعراف والمؤسسات الديمقراطية.
لكن من المهم أيضا أن نعترف بوجود اختلافات كبيرة بينهما، وتجاهلها يجعل المقارنة مضللة، وعموما هذا النوع من المقارنات بين الشخصيات السياسية يستخدم غالبا فى التربص وشيطنة الخصوم السياسيين، ويجب التعامل معه بحذر شديد وتفكير.
لم تعجبنى إجابة كوبايلوت، وأحسست أنه يراوغ إلى حد ما، فقررت أن أورطه فى أسئلة مباشرة، يصعب الفكاك منها.
وسألته: اذكر مقالات أو كتابات عن هذه التشابه؟
وخر صريعا وأخرج كل ما فى جوفه..مقالات وكتابات وكتب وأفلام تسجيلية، مثل فيلم (دونالد ترامب يعكس صعود أدولف هتلر إلى السلطة) للمخرج كين بيرنز، عرض كتاب «هل دونالد ترامب فاش؟» بقلم روبرت باكستون فى «نيويورك ريفيو بوكس»، «أوجه التشابه بين ترامب وهتلر» بقلم ويليام برانون، مقارنة بين نهجهما فى التلاعب الإعلامى والميول الاستبدادية..الخ.
تركت كوبايلوت، بعد أن شكرته على كلمة السر التى أدخل بها إلى عالم «ترامب– هتلر»!، وأسرعت إلى خطب أدولف هتلر، منذ بداياته فى العشرينيات إلى نهاياته فى الأربعينيات، رحت أقلب فيها، ولغرابة ما وجدت، هل يعقل أن دونالد ترامب اطلع على بعضها؟، لا وألف لا، ترامب رجل مال وأعمال، ويصعب أن تكون له اهتمامات ثقافية وتاريخية إلى هذه الدرجة، إذن من أين جاء التماثل فى العبارات؟
(نحن فى حاجة إلى دولة قوية، نعم أنا قادر على توحيد ألمانيا وقيادتها إلى العظمة، أعدكم بخلق فرص عمل وتحسين معيشة الألمان أى شخص يجرؤ على معارضتنا سنحوله إلى أشلاء، أتمنى من كل ألمانى أن يدرك أهمية ما نفعل، وينحنى برأسه إمام إرادة الرب الذى صنع فينا هذه المعجزة).
ماذا يقول ترامب للأمريكيين غير ذلك وإن كان هتلر خطيبا مفوها أكثر براعة وتأثيرا؟
لكن أغرب ما عثرت عليه كتاب عرضته جامعة شيفيلد البريطانية على موقعها فى 8 يونيو 2024، عنوانه فى غاية الإثارة ( ترامب وهتلر: دراسة مقارنة فى الكذب) للبروفيسور هينك دى بيرج، وهو هولندى الجنسية وأستاذ اللغة الألمانية بـ«شيفيلد»، والعرض كان اقتباسا من مقال نشرته الجارديان قبلها بأيام للكاتب دافيد سميث.
قبل أن ندخل فى التفاصيل، علينا أن نعرف أن صحيفة واشنطن بوست رصدت 30 ألف أدعاء كاذب أو مضلل خلال سنوات رئاسة دونالد ترامب الأولى، نعم أكثر من 30 ألف كذبة فى أربع سنوات، بمعدل 21 كذبة فى اليوم!
أما هتلر فهو مبتكر مفهوم الكذب الكبير، ومعناه أن الجماهير العريضة تقع فى الكذبة الكبيرة أسهل من الكذبة الصغيرة، لأنهم لا يستطيعون أن يعتقدوا أن شخصا مهما يمكنه أن يكذب بهذه الطريقة الفضيحة، وإذا أعلنوا عن شكهم فيه فقد يتعرضون لسخرية الآخرين.
نعود إلى الكتاب، يقارن فيه دى بيرج بين هتلر وترامب باعتبارهما فنانين فى الأداء السياسى والتواصل مع الجماهير، كما يُخضع أخلاقيات العمل وأسلوب الإدارة وغرائب الأطوار والنرجسية لدى الرجلين للفحص الدقيق.
ويؤكد دى بيرج أن كليهما كان صادقا فى كذبه على الجماهير، على رأى الممثل الأمريكى جورج بيرنز: أهم شىء فى التمثيل هو الصدق، وإذا استطاع المرء تزييف ذلك فقد حقق النجاح المذهل.
وشعار ترامب وهتلر كان واحدا «أجعل ألمانيا/ أمريكا عظيمة مرة أخرى»، ويعرفان جيدا كيف يجذبان الانتباه باستخدام النكات والإهانات واللغة المتطرفة، وهى أدوات تجعلهم دائما تحت الأضواء.
وكلٌ من هما وجد نفسه فى بيئة تناسبه وظروفًا يمكن أن يلعب عليها: ناخبون غير راضين عن أوضاعهم الراهنة لأسباب مختلفة، ويريدون تغيير النظام، وأمامهم مرشح مناهض للمؤسسة ويقول أنه سيقوم بإعادة هيكلتها.
وقد فسرت الصحفية الأمريكية سالينا زيتو أسباب نجاح ترامب فى أول انتخابات رئاسية فى عام 2016 فى تقرير نشرته مجلة (زا اتلانتك): «الصحافة تنقل عنه حرفيا لكن ليس بجدية، أنصاره يأخذونه على محمل الجد لكن ليس حرفيا».
أما المفاجأة فهى ما نشرته الكسندرا فييرمان فى مجلة «هارفارد بوليتكل ريفيو» يوم تنصيب ترامب رئيسا للولايات المتحدة، بعنوان مقارنة بين خطاب ترامب وأيديولوجية هتلر، وقالت فيه: كشخص ينحدر من أصول يهودية أشكنازية، تشعرنى المقارنة بين ترامب وهتلر بقلق وحزن بالغين، خطاب ترامب يعكس العنصرية، وخطاب هتلر جريمة ضد الإنسانية، ورددت عبارة «المهاجرون يسممون دماء الولايات المتحدة» أكثر من أربع مرات على لسان ترامب فى عام 2023، وفى كتاب هتلر «كفاحي» قال: إن جميع الحضارات العظيمة فى الماضى اندثرت، لأن العرق المبدع الأصلى مات بسبب تسمم الدماء.
ترامب يستخدم دوما خطابا معاديا للأجانب والمهاجرين والأقليات إلى حد وصفهم «حيوانات، وليسوا بشرا»، ويعتمد على التكتيكات التى استخدمها هتلر خلال صعوده إلى السلطة.
وانتهت الكاتبة إلى خلاصة: يجب اعتبار التشابه فى التجريد من الإنسانية بين ترامب وهتلر هو الأكثر إثارة للقلق، فقد يستخدم لتبرير الأفعال العنيفة ضد الإنسان الأضعف ، ويعزز المضى قدما إلى مزيد من تجريد البشر السود والمهاجرين من إنسانيتهم.
وسؤالى الآن: ماذا حدث فى المجتمع الأمريكي؟، وكيف تقهقرت المثل العليا والقيم الإنسانية إلى هذا الحد الرئاسى؟