هاني لبيب
مصر اولا.. الدين لله و«الفرحة» للجميع.. من أنتم.. حتى تفرضوا علينا دعواتكم الظلامية السوداء؟!
مع الاحتفال بعيد ميلاد السيد المسيح، تتجدد محاولات قلة قليلة جدًا من الظواهر الصوتية الموجَّهة على وسائل التواصل الاجتماعى للترويج للجدل والانقسام وإثارة النعرات الطائفية من خلال الترويج لبعض الفتاوَى التى تتحدث عن رفض التهنئة ببداية السنة الجديدة لكونها ميلادية وليست هجرية، وتعقبها الدعوات الدورية المكررة والمُملة بجواز عدم تهنئة المواطنين المسيحيين المصريين بعيد الميلاد، وتحريم مَن يقوم بذلك.
واقع الأمر، يؤكد أنه رغم محدودية هذه الدعوات الفاسدة والفتاوَى الشاذة؛ فإنها تستهدف زرع الفرقة وترسيخ الاختلاف فى المجتمع المصرى، وتحويله إلى مجتمع منقسم على أساس دينى وطائفى بغيض.
ولكن.. يظل الواقع المصرى، المتمثل فى التماسك التاريخى بين المواطنين المسيحيين والمسلمين المصريين.. يقف حائط صد قويًا أمام هذه الأفكار المنحرفة إنسانيًا قبل أى شىء آخر.
رفض الاختلاف..
أصبح من المعتاد منذ عدة سنوات، أن تشهد مواقع السوشيال ميديا موجات متكرّرة من التحريض على رفض التهنئة ببداية السنة الميلادية الجديدة، وربطها بشكل قسرى بالتهنئة بعيد الميلاد المجيد. هذه الفتاوَى ترتكز على خطاب يستند إلى تفسير ضيق جدًا للنصوص الدينية، ومحاولات إقصاء فئة كبيرة من المجتمع بحجج واهية غير منطقية.
الملاحظ؛ أنه يتم الترويج لهذه الدعوات باعتبارها فتاوَى لها مَرجعية.. رغم عدم دقة ذلك سواء على مستوى صحتها الفقهية أو فى استنادها لصحيح الدين. وتظل خطورتها فى تأثيرها، على غرار:
- تمزيق النسيج المصرى المتنوع ثقافيًا واجتماعيًا ودينيًا، واستمرار المحاولات المستميتة لتقسيم المجتمع بما يؤدى إلى تصدُّع وحدته وتطييف مزاجه العام.
- إضعاف قيم التسامح والتعايش والمصير الواحد، وهو التهديد الحقيقى لتآكل روح المَحبة والتعاون التى تجمع المواطنين المصريين منذ قديم الأزل.
- تشويه ملامح الدين الإسلامى من خلال تصدير صور ذهنية وانطباعات خاطئة.. تتطابق بشكل يمثل تغذية مرتدة لهذا الانطباع على مستوى العالم.
ورغم كل ما سبق؛ يظل تاريخنا المصرى حافلاً بمواقف تُظهر وحدة الشعب المصرى ضد الأزمات. وعلى مدار العقود، كانت المناسبات الدينية، سواء ذات الطابع المسيحى أو الإسلامى؛ بمثابة نموذج مجتمعى لتأكيد هذه الوحدة، وليست مناسبة للفرقة. ودليل ذلك احتفال جميع المواطنين المصريين فى الشوارع والمَنازل ببداية العام الجديد، مثلما سيحتفلون جميعًا بشهر رمضان الكريم.. كعادة كل عام.
عدم جواز التهنئة..
يروج البعض لفتاوَى عدم الاحتفال بقدوم العام الجديد أو بتهنئة المواطنين المسيحيين المصريين بأعيادهم.. لكون هذه التهنئة تتعارض مع العقيدة الدينية الإسلامية. ومع مرور سنوات طويلة من متابعتى لهذه الفتاوَى، أستطيع أن أرصد ملاحظتين لهما دلالة ومعنى.. الملاحظة الأولى: غياب الأدلة الفقهية.. فلا توجد أى نصوص صريحة معتبرة ومتفق عليها.. تحرّم التهنئة ببداية عام جديد أو بالأعياد والمناسبات الدينية.
الملاحظة الثانية: أن هناك قاعدة مرجعية إنسانية أن التهنئة بالأعياد الدينية هى تعبير عن الود والمَحبة والاحترام والتقدير بالدرجة الأولى، وليست إقرارًا بعقيدة دينية.
الأصل أنه لكل منّا إيمانه وعقيدته ودينه الذى يمثل له الحقيقة المطلقة التى لا تتأثر أو تهتز أو تختل لمجرد احتفال غيره بمناسبات ترتبط بعقيدته الدينية.. مثلما أحتفل أنا أيضًا بمناسبات ترتبط بإيمانى وعقيدتى.
مواقف وفتاوَى صريحة..
خلال السنوات الماضية، تصدت دار الإفتاء المصرية من خلال علمائها ورجالها المتخصِّصين؛ بإصدار العديد من الفتاوَى الدينية التى تؤكد المضمون الإنسانى للتهنئة بالأعياد. أذكر منها على سبيل المثال وليس الحصر نماذج حديثة من تلك الفتاوَى التى صدرت خلال الأيام القليلة الماضية؛ وتحديدًا منذ 21 ديسمبر 2024 وإلى الآن.
1 – (لا مانع شرعًا من تبادل التهنئة فى بداية الأعوام؛ لما فى ذلك من إشاعة الفرح والسرور بين الناس جميعًا، كما أنه لا يخفى على أحد ما فى بدايات تلك الأعوام من تجدد نِعَم الحياة على كل إنسان، وشُكر الله على ذلك مأمور به شرعًا؛ فقد قال تعالى: (وَاشْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ) [النحل: 114].
2 - نص جمعٌ من الفقهاء على استحباب التهنئة بقدوم الأعوام، والشهور؛ فقد نقل عن الحافظ المقدسى أنه قال: «الذى أراه أنه مباح لا سُنّة فيه ولا بدعة»، وقال ابن حجر الهيتمى: «وتُسَن التهنئة بالعيد ونحوه من العام والشهر على المعتمد»، وقال العلامة القليوبى: «التهنئة بالأعياد والشهور والأعوام، قال ابن حجر: مندوبة»، وقال اللبدى الحنبلى: «لا بأس بتهنئة المسلمين بعضهم بعضًا بمواسم الخيرات وأوقات وظائف الطاعات».
3 - لا مانع شرعًا من تهنئة غير المسلمين فى أعيادهم ومناسباتهم، وليس فى ذلك خروج عن الدين، فالمولى عز وجل لم يفرّق بين المسلم وغير المسلم فى المجاملة وإلقاء التحية وردها؛ قال تعالى: (وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا) [النساء: 86]، فالتهنئة فى الأعياد والمناسبات ما هى إلا نوع من التحية.
4 - نتقدم بخالص التهنئة للشعب المصرى الكريم، والأمّة العربية وجموع المسلمين فى العالم بمناسبة العام الجديد، داعين الله عز وجل أن يجعلها سَنة خير وبِرّ وتقوَى فى حياة الناس والمجتمع والعالم أجمع.
والملاحظ أن جميع تلك الفتاوَى قد انتهت بكلمات محددة هى (على عملك شهيد) و(هدنا الوعى والتنوير)، وهى تمثل.. إطارًا حاكمًا لرؤية دار الافتاء لقيمة تلك الفتاوَى وأهميتها.. فلا مانع شرعًا منها من جانب، وبأنها إشاعة للفرح والسرور من جانب آخر. فضلًا عن كونها قيمة إنسانية سامية.
ورغم كل ما سبق؛ فقد كان رد فعل هذه الفتاوَى مصحوبًا بآلاف التعليقات السلبية على السوشيال ميديا.. بما يعكس الاحتياج المُلح بدعم وتعزيز الوعى الدينى الصحيح بالتمسك بتجديد الفكر الدينى.. الذى ينتج عنه مثل تلك الخطابات الدينية التى تكرّس التمييز والطائفية والتعصب والتشدد والتطرف.
مفتى المَحبة والتسامح..
يؤكد ما سبق؛ ما صرّح به الأستاذ الدكتور نظير عياد «مفتى الجمهورية ورئيس الأمانة العامة لدُور وهيئات الإفتاء فى العالم» خلال لقاء صالون المركز الثقافى القبطى الأرثوذكسى الذى أدرته يوم الأحد 29 ديسمبر 2024 بعنوان «نهاية عام وبداية عام.. التسامح والمَحبة أساس البناء» تحت رعاية الأنبا إرميا «الأسقف العام ورئيس المركز». والذى أكد المفتى فيه على بعض المحددات الهامة، على غرار: إن الاختلاف والتنوع لا يمنع البناء والتقدم. وإن البناء الأمثل للمجتمعات من خلال الاتفاق بين الرسالات السماوية. وإن الكتب السماوية حدّثتنا عن الإقرار بالإله الواحد ووجوب عبادة هذا الإله. وإن هناك اتفاقًا بين الرسالات السماوية فى أصول العبادات مثل الصلاة والصيام والزكاة والحج.. والاختلاف فى الكيفية. ومن الخطأ أن نقول إن الأديان داعية إلى البغضاء أو نشر الكراهية. وإذا كنا نتحدث عن بنيان وعمران وتسامح؛ فلن يتحقق إلا بالمَحبة والتسامح.
المستفيد الفورى..
يبقى السؤال الأهم، وهو مَن المستفيد من هذه الفتاوَى؟ ومَن يقف وراء هذه الدعوات ولمصلحة مَن؟
ببساطة شديدة؛ المستفيد هو كل مَن يسعى لضرب استقرار المجتمع المصرى، سواء كانوا جماعات متطرفة تستغل الدين لتحقيق أهداف سياسية، أو أطرافًا خارجية تريد زعزعة التماسُك الوطنى لصالح أجندات وأهداف خاصة.
ولذا؛ تظل أبرز سمات مروجى هذه الأفكار.. أنهم ينتمون فى الغالب إلى جماعات تتبنّى فكرًا متشددًا.. يتعارض مع قيم المجتمع المصرى، ويستخدمون الدين كغطاء لتحقيق مكاسب سياسية أو لإثارة الفتن، ويعتمدون على وسائل السوشيال ميديا لنشر خطاب الكراهية والازدراء.
رفض شعبى..
تظل الحقيقة؛ أنه رغم محاولات تلك القلة القليلة الضالة من كارهى الفرح والسرور والسعادة؛ فإن المجتمع المصرى لا يزال يبحث عن البهجة ويحتفى ببداية سَنة جديدة فى أجواء من الفرح والتسامح. وشهدنا جميعًا أنه فى الساعات الأخيرة من ليلة 31 ديسمبر 2024، خرج المواطنون المصريون بأعداد كبيرة للاحتفال فى الشوارع والميادين.. متجاهلين مثل هذه الدعوات التى وصفت بالشاذة والغريبة عن قيم المجتمع.
احتشد المواطنون المصريون فى الشوارع للاحتفال بالعام الجديد، فى رسالة واضحة على رفض خطاب الكراهية. وشهدت الكنائس المصرية التهانى الكثيفة المتبادلة؛ تأكيدًا على قوة الوحدة الوطنية. كما تزينت الشوارع، وأُطلقت الألعاب النارية فى ميادين القاهرة والمحافظات.. مما يعكس روح الفرح المشتركة.
نقطة ومن أول السطر..
فتاوَى ودعوات تجريم التهنئة بالاحتفال ببداية العام الجديد أو بميلاد السيد المسيح؛ ليست سوى محاولات عقيمة لتقسيم المجتمع المصرى. ومع ذلك؛ فإن الفتاوَى الرسمية الصادرة عن دار الإفتاء، المدعومة بالنصوص الشرعية والتقاليد المصرية العريقة. تقف سدًا منيعًا ضد هذه الأفكار الظلامية.
يظل الرد الأمثل على هذه الفتاوَى والدعوات غير الإنسانية؛ هو نشر قيم المَحبة والتسامح والتعدد والتنوع وقبول الاختلاف، وتعزيز الوعى المجتمعى، والاستمرار فى الاحتفاء بمناسباتنا الوطنية والدينية كأبناء وطن واحد، لا يفرقهم دين أو عقيدة، وتجمعهم أرض واحدة دون إقصاء أو استبعاد أو تهميش أو تمييز.
وتظل أيضًا حاجتنا الفائقة الأهمية لتجديد الفكر الدينى المصرى فى سبيل الوصول إلى خطابات دينية متنوعة ومتعددة وطنيًا وإنسانيًا مع ثقافة السلام ضد كل أشكال خطابات الكراهية والازدراء.