
تحية عبدالوهاب
الحقيقة مبدأ.. أهمية أن تُطرح أرضًا
كل من يهتم بالعمل السياسى أو حتى من يهتم بالقراءة فى المتغيرات السياسية الدولية سيجد أن سوريا أصبحت محط التركيز وبؤرة الأحداث الدولية متخطية بذلك فلسطين، أوكرانيا وكوريا الجنوبية.. قد يرى البعض ذلك باعتباره الحدث الأجدد أو لأنه غير المتوقع أو لعله الأسرع؛ فالأمر لم يأخذ أكثر من عشرة أيام حتى سقطت دمشق فى يد الجماعات المسلحة المتطرفة دينيًا، وتبع ذلك إنهاء كامل للجيش العربى السورى تزامنًا مع استيلاء أبو محمد الجولانى على السلطة فى مشهد دموى قاتم.
ما طُرح أرضًا هو سوريا وليس نظام الأسد!! وهنا تجدر الإشارة إلى أننا نستطيع جدا بل هو حقنا الكامل أن نرفض الوجهين (الأسد والجولانى) طُرحت سوريا أرضًا عندما تفتتت لأقليات أو أكثريات طائفية، طُرحت أرضًا عندما تم استغلالها من قِبل بعض القوى الإقليمية معًا فى الأرض والثروة وازدياد النفوذ، طُرحت أرضًا عندما تآمرت عليها بعض الدول العربية بدافع الانتقام ومراراته أحيانًا وبدافع حلم/ طمع/ هوس ارتقاء سلم القوى الإقليمية أحيانًا أخرى.. طُرحت سوريا أرضًا عندما أصبح أمام الشعب السورى خياران لا ثالث لهما؛ إما الأسد بفساده وقمعه وتبعيته وإما الجولانى بتطرفه ووحشيته وفساده وتبعيته أيضًا.. النتيجة واحدة وهى أن سوريا طُرحت أرضًا وما تزال فى حالة الصدمة.
أرض يحكمها العملاء أمام الجميع فضربها الكيان الصهيونى لينهى جميع قدراتها العسكرية على مسمع ومرأى من العالم- كما فعل فى فلسطين- وطن بلا جيش يحميه ويتحكم به الآن رجل لا يرى فى الكيان الصهيونى عدوا- ذاهب للتطبيع- وينتظر إشارة الاستخبارات الأمريكة والتعليمات التركية قبل أن يتخذ أى قرار، يحاول أن يتنصل أو يتبرأ من لقبه الذى سمى نفسه به طيلة 25 عاما « الجولانى» حتى لا يطالبه أحد بتحرير واستعادة الجولان؛ ولكن عن أى جولان نتحدث الآن بعد أن أصبح الجيش الصهيونى على مشارف دمشق والفرات! علينا أن نتحدث عن أهمية طرح سوريا أرضًا بالنسبة لواشنطن، تل أبيب وأنقرة.. كذلك سيناريوهات المراحل القادمة.
الجولانى ما هو إلا مجرد بيدق فى يد واشنطن أولًا ثم أنقرة ثانيا، وهذا يحدث بتمام علمه ودرايته، فهو ليس فى غيبوبة عن الوعى بل يجيد اللعب بأدواته مع من يحركونه، إضافة إلى دعم صحفى وإعلامى من الدول العربية المستفيدة من سقوط سوريا، توضح المؤشرات أن الجولانى سوف يتلقى دعمًا على المستويين الإقليمى والدولى. فبالإضافة إلى الدعم التركى الكامل، حتى إن روسيا تتحدث حول مسارات للحوار مع الفصائل المسلحة لضمان أمن المصالح الروسية فى سوريا، خاصةً قاعدتى الجيش الروسى فى طرطوس وحميميم وكذلك محاولة إتمام اتفاق روسى أمريكى حول أوكرانيا حيث يرتبط بقاء تلك القواعد بمدى التزام الفصائل المسلحة باتفاقية وقّعها بشار الأسد حول استضافة هذه القواعد عام 2015، ومدتها 50 عامًا قابلة للتجديد 25 عامًا أخرى.. الكل يبحث من مصالحه المباشرة.
ولا نُغفل أن هناك إشارات كثيرة من الولايات المتحدة حول استعدادها لرفع «الجولانى» ورفاقه من قوائم الإرهاب الأمريكية والدولية بعد أن رصدت واشنطن فى السابق 10 ملايين دولار للقبض على الجولانى؛ ومن شأن هذا الموقف الأمريكى أن يؤدى الدور الأكبر فى تغيير كثير من المواقف المترددة تجاه حكومة الفصائل السورية المسلحة.
إذن علينا جميعًا أن نعود إلى تفكيك وتحليل شخصية الجولانى وتركيبته الفكرية وبنائه الحركى والوقوف على حقيقة أن من يدخل الجماعات الأيديولوجية المتطرفة مثل داعش والقاعدة لا يخرج منها، ويظل أسيرًا لأفكارها وتوجهاتها مهما تغيرت الملابسات محاولة الانسلاخ من الاسم الحركى والعودة إلى الاسم المدنى، خاصة فى منظومته السلوكية الخاصة والتى تؤكد صعوبة تغيير طريقة التفكير أو الأيديولوجية الخاصة بالجماعات السورية المسلحة، وستجد أن العنف هو الأصل والمُنطَلق الرئيسى للجولاني فهو من هزم كل المنافسين له بالقوة فى إدلب خلال الشهور القليلة الماضية، بل وكل المقاتلين فى صفوفه مواقفهم الدائمة تسعى لقتل الذين يختلفون معهم فى الفكر. وعليه ستجد أنه من المستحيل على شخص كالجولانى، الذى قاتل بجانب أبو مصعب الزرقاوى وأبوبكر البغدادى، أن يكون شخصًا مختلفًا بعد أن وصل إلى الحكم وباتت لديه سلطات هائلة. ما يفعله الجولانى ورفاقه الآن هو «التقية السياسية» لكسب دعم وتأييد القوى الوطنية والخارجية، وبعد ذلك يعودون إلى سلوكياتهم المعروفة فى القتل والانتقام.
اللافت أيضًا هو أنه لا تزال عناصر وقيادات الفصائل المسلحة السورية تتلقى دعمًا خارجيًا، وهذا ما يفسر حصولها على السلاح والذخيرة والطائرات المُسيَّرة والصواريخ المضادة للدروع التى اجتاحوا بها دفاعات الجيش السورى. والكارثة التى لا يتم تداولها كثيرًا هى تهنئة تنظيم القاعدة للجولانى بالرغم من تأكيد الأخير انفصاله وخلافه مع القاعدة، فضلًا عن أن الجماعات الأصولية وذات الأيديولوجيات المتطرفة وحواضنها الشعبية كانت الأكثر سعادة وترحيبًا بسيطرة الفصائل المسلحة على الحكم فى سوريا.
هنا نضع ملاحظة أخرى وهى شكوى الائتلاف الوطنى لقوى الثورة والمعارضة السورية من أن اختيار محمد البشير رئيس الحكومة المؤقتة وخطوات تشكيل الحكومة الحالية لم يتم التشاور حولها بين الفصائل المسلحة والائتلاف، وهى بالتأكيد «مقدمة سلبية» نظرًا لتاريخ الائتلاف الوطنى السورى الذى تشكل مع الأيام الأولى للمظاهرات ضد الأسد عام 2011، ويُنظر إليه على أنه أكبر تجمع للقوى المدنية والعسكرية السورية التى عارضت الأسد على مدار سنوات، وخاضت أيضًا معه جولات المفاوضات الكثيرة فى جنيف وأستانة وسوتشى. والتى يرى الجولانى أنها مجرد هراء، هذا التجاهل المتعمد للائتلاف الوطنى السورى هو ولا شك رسالة مبكرة برغبة «هيئة تحرير الشام» فى الانفراد بالحكم؛ نظرًا لوجود قوى مدنية وعلمانية كثيرة فى الائتلاف الوطنى. وهو ما يزعج القوى الإسلامية المتطرفة وعلى رأسها جماعة الإخوان المسلمين. وهو ما يبرر الاختيار المُنتقد للبشير رئيسا للحكومة المؤقتة فى ظل انتمائه لجماعة الإخوان المسلمين وكونه مقربًا من الشرع؛ مما يشير إلى أن الاختيار جاء لأسباب شخصية وليس بمعيار التوافق والقبول من الجميع. إذَن، تذهب سوريا إلى النموذج الطالبانى وهو ما يتسق تمامًا مع أفكار ورؤية الجماعات المسلحة التى تقول إنها تريد إنشاء جمهورية إسلامية سورية وتدعى أنها ستراعى حقوق الأقليات، ودون الاعتداء على أصحاب المذاهب الأخرى بناءً على تطبيق صحيح الدين كما تقول. وهو خطاب قريب جدًا من حركة طالبان فى أفغانستان. ووفق هذا السيناريو، ستكون «هيئة تحرير الشام» ومعها التيار السلفى القلب الصلب لهذا المشروع.. وهو ما لا يتنافى على الإطلاق مع تقسيم سوريا إلى دويلات أو استقطاع مساحة لصالح الأكراد وأخرى لتركيا وفق «حدود الدم»، و«إعادة هندسة خرائط المشرق العربى»، كما تحدث عنها كل من البريطانى برنارد لويس والأمريكى رالف بيترز. وفى ظل الأطماع الإقليمية والدولية فى سوريا؛ فإن هذا السيناريو ليس مستبعدًا على الإطلاق.
ولهذا هناك أهمية قصوى لدى البعض تحتم طرح سوريا أرضًا، أما نحن فى مصر فنرى العكس تماما فإن استقرار سوريا المدنية على كامل أراضيها وبكامل قدراتها العسكرية وكذلك العراق هو إحياء لنسرى الشرق العربى اللذين لا تستغنى عنهما حامية العرب الأقوى والأكبر.
حفظ الله مصر.. حفظ الجيش
تحيا مصر.