الخميس 19 ديسمبر 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري
رئيس مجلس الإدارة
هبة الله صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري
سوريا..  رحلة إجبارية إلى المجهول!‏

سوريا.. رحلة إجبارية إلى المجهول!‏

لو كان فيلمًا سينمائيًا عن أسطورة سقوط ديكتاتور فينيقى غبى بالطريقة التى انهار بها حُكم ‏بشار الأسد فى سوريا، ما صدقناه وربما هتفنا ضد المُخرج والسيناريست والممثلين والمنتج ‏ودار العرض، واتهمناهم بالغش والتدليس والخيال الأحمق!‏



بل إن بشار الأسد نفسه لم يُصدّق أن حُكمه ينهار كبيت عنكبوت، وكاد عقله يذهب بغير ‏رجعة، فلم يعد يسمع أو يتكلم أو يأمر أو يفهم، وبدت له نصائح مستشاريه صدَى صوت من ‏فضاء بعيد، بأن يصدر بيانًا يتعهد فيه بعدم ترشيح نفسه مرة أخرى، أو يخرج على الناس ‏معلنًا تنازله عن السلطة، وظل على جموده وصمته إلى أن ركب الطائرة فارًا بعائلته إلى ‏موسكو!‏

هذه السهولة المفرطة فى الانهيار تطرح سؤالاً ساذجًا: إذا كان نظام الأسد مخوخًا إلى حد ‏العفن، وجيشه أجوفَ إلى حد الخواء؛ فكيف دامت هذه الحرب الأهلية 14 عامًا، قُتل فيها ما ‏يقرب من 700 ألف سورى، وتشرد أكثر من عشرة ملايين فى أربعة أرجاء المعمورة؟

بالطبع أى تفسير متعجّل لهذا «الاستسلام» الواهن لـ«دولة» أمام الفصائل المعارضة ‏والميليشيات المسلحة؛ قد لا يكون دقيقًا، فالأوراق المخفية أكثر من الأوراق المكشوفة عن ‏اقتصاد مدمر، ونزوح بَشرى، وسوء أحوال معيشية، وظروف بائسة معقدة وإحباط عام، ‏وروح معنوية فى الحضيض تمثلت فى هروب آلاف الجنود من الجيش فى السنوات الخمس ‏الأخيرة..‏

المدهش أن كل هذه العناصر السلبية الهائلة كانت موجودة وممتدة منذ سنوات، فقط أضيف ‏إليها عنصر جديد هو «غياب» حزب الله اللبنانى عن المشهد السورى، بعد انكفائه فى حرب ‏شرسة ضد العدو الإسرائيلى فى جنوب لبنان، والتى خسر فيها المئات من قياداته والكثير من ‏مواقعه، ويبدو أن حزب الله كان هو الدرع التى كان بشار الأسد يحتمى بها، وليس الحرس ‏الثورى الإيرانى، وحين تركته الدرع وعاد إلى وطنه الأم، رأت هيئة تحرير الشام والفصائل ‏المسلحة الأخرى أن الفرصة باتت سانحة للانقضاض على نظام الأسد المعتل فاقد أسباب ‏الحياة، فتفاهمت بالرغم من كل تناقضاتها وتجاهلت خلافاتها الأيديولوجية مؤقتًا، وانقضت ‏عليه منهيةً خمسين سنة من أسوأ العصور فى تاريخ سوريا الحديث.‏

هل كان المطلوب أولاً تخريب سوريا وإعادتها مئة سنة إلى الوراء قبل أى تغيير فيها؟، ‏الوقائع تؤكد ذلك؛ فقبل أن تمر بضع ساعات على دخول الميليشيات المسلحة إلى دمشق رافعة ‏علامات النصر، كانت إسرائيل قد بدأت فى القضاء المبرم على قوة سوريا العسكرية، ‏اقتحمت المنطقة العازلة فى هضبة الجولان السورية واستولت عليها، حتى صارت ‏قواتها على حدود دمشق، تقريبًا على مسافة 35 كليومترًا، ودمرت الصواريخ الإسرائيلية كل ‏وحدات البحرية، وأغارات طائراتها بكثافة وعنف غير مسبوقين على مطاراتها العسكرية ‏وأبادتها بكامل طائراتها، وضربت مخازن الأسلحة والذخيرة.. باختصار باتت سوريا تحت ‏سيطرة أحمد الشرع الشهير بـ«أبو محمد الجولانى» وميليشياته وفصائله المسلحة مثل أرملة ‏عاجزة عارية مستباحة! ‏

وأتصور أن أى تحليلات عن موقف روسيا من الانهيار أو كيف تصرفت إيران هو نوع من ‏الثرثرة الفارغة، فالقوة الأكثر فاعلية على الأرض كانت (الولايات المتحدة وإسرائيل) ‏وتركيا، الولايات المتحدة تنفذ مشروع المحافظين الجُدُد، فى تفتيت المنطقة العربية إلى ‏كنتونات وصراعات طائفية، وتركيا تحاول كبت الرغبة الكردية فى منطقة حكم ذاتى فى ‏سوريا على غرار كردستان العراق، أو دولة مستقلة، حتى لا تتمدد هذه الرغبة إلى أكراد ‏تركيا وتتحول إلى عمل، ناهيك عن بعض المطامع الخفية فى الجزء الملاصق لـ«لواء ‏الإسكندرونة».‏

لم تفكر هذه الفصائل والميليشيات المنتصرة فى الدفاع عن سوريا ولو بالكلمات؛ وإنما تفكر ‏وتخطط وتستعجل تصفية الحسابات مع النظام السابق، وتجهز قائمة أولية، بأسماء من ‏ستطاردهم فى الأيام المقبلة؛ انتقامًا لما فعلوه بالشعب السورى، وقد نشر أحمد الشرع الشهير ‏بـ«أبو محمد الجولانى» بيانًا على شبكات التواصل الاجتماعى يتعهد فيه بمكافآت لمن يدلى ‏بمعلومات عن كبار ضباط الجيش والأمن المتورطين فى جرائم حرب.. المدهش أن «الجولانى» ‏نفسه متهم فى جرائم حرب حين كان عضوًا فى تنظيم القاعدة ثم داعش، وكانت مكافأة ‏الولايات المتحدة لمن يُبَلغ عنه عشرة ملايين دولار، ولا تزال المكأفاة سارية، ولم تلغها ‏واشنطن حتى الآن، لكنها لم تعد تهتم بالقبض عليه وهى تراه أمامها رائحًا غاديًا؛ بل ‏تستضيفه فضائياتها وتحاوره عن مستقبله ومستقبل سوريا الممزقة!‏

وتصريحات «الجولانى» بالثأر والمحاسبة جاءت عكس رسائله الودودة التى بَشّر بها، مع بدء ‏عملياته العسكرية فى 27 نوفمبر الماضى، واستيلاء الميليشيات على حلب؛ بأن سوريا مقبلة ‏على عهد جديد آمن للجميع.‏

وبدلاً من أن تعمل الفصائل المعارضة المنتصرة على «لَمّ شمل» كل السوريين، على غرار ‏ما فعله نيلسون مانديلا، فى جنوب إفريقيا، بإغلاق الملفات القديمة بكل ما فيها من أوجاع ‏ودماء وطائفية، وفتح صفحة خالية من تصفية الحسابات والثارات والجروح المنكوءة، يبدو ‏أنها ستمضى فى الطريق التقليدى لأى ميليشيات عسكرية، طريق السلطة أهم من الوطن، فتدفع ‏به إلى المجهول، وتغرقه فى بحر الظلمات، وبالطبع تصفية إسرائيل لقدرات سوريا ‏العسكرية برًا وبحرًا وجوًا تحت رعاية هذه الميليشيات وصمتها المريب هو أول قفزة فى ‏بحر الظلمات!‏

يبدو أن هؤلاء المعارضين لم يفرّقوا بين سوريا الوطن، وسوريا نظام الأسد، ولم يدركوا أن ‏الوطن يظل وطنًًا مَهما كانت المظالم فيه، ولا يمكن قبول الاستعانة بأعدائه للتخلص من حكم ‏فاسد وطغيان مستعر، فالعدو سرطان أكثر شراسة، لا يتوقف إلا بموت الوطن!‏

‏ والسؤال المُلح الآن: كيف تتوزع «غنائم» سوريا على فصائل المعارضة والميليشيات ‏المسلحة؟، وما هو المقابل الذى سيتقاضاه يرضى رعاة هذه الفصائل والميليشيات؟

عمومًا؛ تواجه سفينة سوريا أربعة تحديات كبرى..‏

الأول: السلطة.. مَن سيمسك بها؟، وكيف يصل إليها؟، وكيف يضمن عدم وجود جماعات ‏مسلحة قادرة على تحدى حكمه؟، والأخطر: كيف سيجرى تقاسم السلطة بين ائتلاف الفصائل ‏والميليشيات؟، وماذا عن المعارضين الذين لم يكونوا جزءًا من المعارضة المسلحة؟، الأرجح ‏أن أحمد الشرع (الجولانى)، سيصبح رئيس سوريا الجديدة؟، فهل سيحتفظ بلقب الجولانى أم ‏ينزعه بعد أن استولت إسرائيل على بقية الجولان؟!‏

الثانى: ماذا ستفعل السلطة الجديدة مع الحكم الذاتى فى المنطقة الكردية ووحدات حماية ‏الشعب الكردى فيها؛ خصوصًا أن بعض فصائل المعارضة ترفض الحكم الذاتى؟، وفى حالة ‏الخلاف كيف تحصل الحكومة الجديدة على اعتراف دولى؛ وبخاصة من الاتحاد الأوروبى ‏والولايات المتحدة؟

الثالث: ما هو النظام السياسى الذى سوف تؤسِّسه المعارضة وهى تيارات مختلفة، بين الرؤية ‏المنادية بالشريعة الإسلامية دستورًا للبلاد والتى يمثلها هيئة تحرير الشام والفصائل الجهادية ‏وبين الرؤى الليبيرالية والديمقراطية التى يمثلها الجيش الوطنى السورى الذى انشق عن ‏جيش الأسد بعد انتفاضة 2011؟ وفى حالة تشكيل حكومة محافظة دينيًا ما هى القوانين التى ‏ستشكل الاقتصاد والسياسة الخارجية؟

الرابع: إعادة بناء البلاد بعد التخريب الشديد الذى لحق بها.. فالأحوال الاقتصادية المتردية لا ‏يمكن أن تصنع استقرارًا، وإذا دامت قد تندلع قلاقل واضطرابات تعيد شبح الحرب الأهلية ‏مجددًا.‏

بالطبع لن تستطيع السلطة الجديدة بناء الجيش السورى مجددًا، فالعراق الذى فقد جيشه قبل ‏عشرين عامًا لم يستطع استرداده حتى الآن، وأيضًا لا يمكنها حماية سوريا من أى أطماع ‏إسرائيلية جديدة؟، وسوريا فعليًا مقسّمة على الأرض بين إسرائيل وتركيا والأكراد!‏

باختصار؛ تبدو الأوضاع صعبة ومعقدة والتداعيات خطيرة، وتنذر بصراع وعدم استقرار قد ‏يستمر زمنًا غير قصير، وقطعًا لها تأثيرات على الدول العربية المجاورة؛ وبخاصة فى العراق ‏ولبنان، وستفرض عليهما مخاطر أمنية كبيرة؛ بسبب هشاشة أوضاعهما السياسية ‏والاقتصادية.‏

باختصار؛ إن نهاية حكم عائلة الأسد، الذى كان وبالاً على سوريا يمكن أن يكون فرصة، ‏ويمكن أن يكون رحلة إلى المجهول، فرصة لإعادة بناء أمة عظيمة تستنهض نفسها من ‏براثن أوضاع دولية وإقليمية شديدة الخطورة، فرصة يلزمها رؤية تعلو بـ«مصالح» الوطن ‏سوريا فوق أى طموحات شخصية، وقادرة على تجاوز «حسابات الماضى» بكل ماجرى فيه؛ ‏لتلم الشمل وتعزز التلاحم بين المجموعات المتنوعة وتشكل هياكل حكومية تعكس التنوع ‏العرقى والدينى والسياسى فى سوريا، وهى مهمة صعبة جدًا؛ لكنها ليست مستحيلة.‏

وإذا حدث العكس؛ فسوريا سوف تمضى فى رحلتها إلى المجهول؛ خصوصًا أن العرب ‏يتفرجون كأن الشام ليس عمودًا محوريًا فى أمنهم القومى!