الأحد 17 نوفمبر 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري
رئيس مجلس الإدارة
هبة الله صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري
‏ترامب وتغيير أمريكا  على طريقة قيصر روما!‏

‏ترامب وتغيير أمريكا على طريقة قيصر روما!‏

أتصور أن أكثر الناس إحساسًا بالصدمة بعودة دونالد ترامب إلى المكتب البيضاوى فى البيت ‏الأبيض هم الإعلاميون والفنانون والكتاب والمفكرون، لا أقصد خارج الولايات المتحدة وإنما ‏داخل الولايات المتحدة نفسها، خاصة أن الفوز كان كاسحًا فى المجمع الانتخابى، 312 صوتًا ‏له مقابل226 صوتًا لكامالا هاريس، يعنى ( 58 %، مقابل 42 %)، بفارق 16 %، بينما ‏التصويت الشعبى لا يعكس هذا الفارق الهائل، فلم يتجاوز 2.2 %، أى حوالى ثلاثة ملايين ‏و300 ألف صوت زيادة لترامب عن هاريس، من إجمالى 147 مليون ناخب تقريبًا أدلوا ‏بأصواتهم!، والمدهش أن ترامب كسب الانتخابات الأمريكية فى 2016 وكان خاسرًا ‏التصويت الشعبى بثلاثة ملايين ومئة ألف صوت، لكن المجمع الانتخابى صوت له (306 ‏مقابل 232).‏



ونستطيع أن نصف «التصويت ببساطة بأن الولايات الأكثر تعليمًا وثقافة هى التى صوتت ‏لكامالا هاريس، وهى تسع ولايات فى الساحل الشرقى، وثلاث ولايات فى الساحل الغربى، ‏بينما ولايات الوسط والجنوب هى التى صوتت لدونالد ترامب، مع الأخذ فى الاعتبار أن ثمة ‏ولايات مغلقة على الحزب الجمهورى مثل فلوريدا،تكساس، تينيسى، كناتيكت،الباما، وست ‏فرجينيا، وايومينج، وإيداهو.‏

ولهذا لم يكن غريبًا أن نقرأ مقالًا مثيرًا فى جريدة نيويورك بوست، يصف هذه الحالة ‏بعنوان عجيب: بفوز ترامب..أعلن الأمريكيون العاديون..استقلالهم عن النخبة.‏

وقال الكاتب كيفين روبرتس: لم تكن الانتخابات تدور حول ترامب الذى كان كيانًا معروفًا ‏منذ عام 2015، أو كامالا هاريس أو جو بايدن اللذين قبلا تبادل المنصب، ووضح أنهما كانا ‏مجرد ثوب فارغ فى آلة حزب أحادى، لقد انتهت الانتخابات إلى شيء أكثر جوهرية، وهى ‏انتفاضة الأمريكيين وإعلان الاستقلال عن السلطة المركزية فى العاصمة واشنطن، لقد ‏انتهى عصر تلاعب النخبة، لقد أخبرونا أن الجريمة انخفضت وأن التضخم لم يعد ذا أهمية ‏وأن وفيات إدمان المخدرات تراجعت، وأن الهجرة تحت السيطرة، ولم يكن ذلك صادقًا.‏

فوز ترامب يعنى أن الشعب الأمريكى الذى يشعر كثير منهم بعدم الأمان فى الشارع، ‏ويحزنون على أحبائهم الذين تناولوا جرعة زائدة من المخدرات، أو تعرضوا للأذى من ‏الأجانب غير الشرعيين لا يصدقهم، ويعنى أننا إذا طورنا السياسات المحافظة اليوم، يمكننا ‏أن نجعل أمريكا أكثر أمانًا وأكثر فضيلة وأكثر ازدهارًا لأطفالنا، أن حركتنا شاملة متنوعة، ‏تتشكل من المديرين التنفيذيين، 60 % من أعضاء اتحاد سائقى الشاحنات، يهود نيويورك، ‏مسلمى ديترويت، البروتستانت الإنجليين فى ولاية كارولينا الشمالية، الكاثوليك التقليديين فى ‏ولاية بنسلفانيا، أباطرة النفط فى تكساس، وسود على بيض على لاتينيين، والسؤال: ما الذى ‏يوحد هذه الحركة الشاملة؟، الجواب بسيط جدًا: الأمريكيون يريدون استعادة بلادهم، يريدون ‏العودة إلى العقل والحكم الذاتى والحياة الطيبة، وكما حدث فى الانتخابات الساحقة عام 1984 ‏عندما أعاد الأمريكيون انتخاب الرئيس رونالد ريجان لهزيمة الشيوعية، أعادوا انتخاب ‏ترامب لهزيمة الدولة العميقة.‏

يجب أن تنتقل هذه المعركة من ساحة الأفكار المجردة إلى خنادق المؤسسات التقليدية، ‏الوكالات الفيدرالية، الجدران الحدودية، قاعات مجالس إدارات الشركات، مقرات الولايات، ‏ومجالس إدارات المدارس المحلية!!‏

دعوة سافرة إلى قلب الأوضاع فى أمريكا أو تحريض يقترب من الغوغائية، وهذا ليس غريبًا ‏من جريدة محافظة عمرها 223 سنة، تحولت من صحيفة عريضة محترمة إلى صحيفة ‏تابلويد شعبية مثيرة تحت ملكية «روبرت مردوخ نيوز كورب» فى سنة 1975، وتوزع الآن ‏‏150 ألف نسخة يوميًا.‏

والإثارة فى المقال ليست فى الألفاظ العاطفية الهادرة، لكن فى الأحكام المطلقة، ويخيل لى أن ‏الكاتب رسم الرئيس المنتخب دونالد ترامب على هيئة حاكم مطلق جامح فى تصرفاته، كأنه ‏قيصر رومانى فى الإمبراطوية القديمة، يمسك فى يده بكل مقاليدها، من أول إدارة الجيش ‏إلى تشغيل العبيد فى تمهيد الطرق وبناء الجسور، وأن ترامب سيدير الولايات المتحدة كما لو ‏أنه يلعب «ميكانو» يفكها ويعيد تركيبها على مزاجه، وعلى رغبة «الحركة الشاملة» التى ‏انتخبته، وهذه أوهام لا علاقة لها بالواقع، أمريكا ليست روما القديمة، وليست جمهورية موز ‏يحكمها مستبد طاغية فى ثياب أنيقة عصرية، يشير بيمناه فتمضى الدولة إلى اليمين، يشير ‏بيسراه فتمضى الدولة إلى اليسار، أمريكا دولة صعبة جدًا فى إدارتها وتسيير أمورها، بسبب ‏تعدد مراكز القوى فيها، البنتاجون أو الجيش الأمريكى اللاعب الأقوى من خلف الستار، ‏البيت الأبيض، الكونجرس بمجلسيه الشيوخ والنواب، وجماعات الضغط والتكتلات الصناعية ‏الكبرى التى تتحكم ماليًا فى الانتخابات مثل كارتيل السلاح والترفيه والإعلام والمعلومات ‏والدواء..إلخ، ومن يتصور أن ترامب حين يجلس خلف المكتب البيضاوى فى البيت الأبيض ‏سوف يقلب الدنيا رأسًا على عقب سواء بنعومة وعلى مهل أو بقرارات صادمة وبسرعة، فهو ‏واهم، ويغفل العناصر المتشابكة الداخلة فى صناعة القرارات الاستراتيجية فى الولايات ‏المتحدة.‏

وواهم أيضًا من يتصور أن الفارق الكبير 16% الذى فاز به ترامب فى المجمع الانتخابى ‏على المرشحة الديمقراطية يعنى انتهاء الاستقطاب الحاد فى المجتمع الأمريكى، بل العكس ‏هو الصحيح، فالهوة تتسع فى التفضيلات السياسية والقيم الاجتماعية وحتى أنماط الحياة ‏الشخصية، فقط يمكن القول أن النتائج ألقت ستارة شفافة مؤقتة على التوترات السياسية ‏المشتعلة، ويشى تحليل نتائج التصويت بأن ولايات الساحل الشرقى من حدود كندا إلى ‏ولاية فيرجينيا، مع ولايات الساحل الغربى تشكل مجتمعًا مختلفًا تمامًا ثقافيًا واجتماعيًا وعلميًا ‏عن بقية الولايات الأمريكية فى الوسط والجنوب، كما هناك تناقضات صارخة بين المناطق ‏الحضرية والمناطق الريفية بالرغم من سهولة المواصلات والاتصالات التى جعلت من ‏الكون كله قرية صغيرة، وأيضًا بين المجموعات العرقية والإثنية المختلفة، والطبقات ‏الاجتماعية والاقتصادية.‏

مثلًا على عكس مقال نيويورك بوست عبر مشاهير عن خيبة أملهم لنجاح ترامب، فهو فى ‏تصوراتهم يتكلم قبل أن يفكر، يتصرف قبل أن يحسب، ينطلق قبل أن يحدد وجهته، يشبه ‏رشاشًا آليًا يعمل طول الوقت بلا صمام أمان، وله خزانة ضخمة رصاصها لا ينفد، من هؤلاء ‏بيونسيه، وجينيفر لوبيز وجوليا روبرتس وبروس سبرينجستين، ومغنية الراب «كاردى بي» ‏التى كتبت على إنستجرام وهى تتابع نتيجة الانتخابات «أكرهكم بشدة»!، وكتبت الفائزة ‏بالأوسكار «جيمى لى كيرتس «ابنة النجم الكبير تونى كيرتس»: أنها عودة إلى زمن أكثر ‏تقييدًا، يخشى البعض أن يكون قاسيًا، وأن الأقليات ستصبح أكثر خوفًا»!‏

أما الممثل جون كوزاك فكتب على صفحاته بشبكات التواصل الاجتماعي: حقيقة البلاد تختار ‏تدمير نفسها، التصويت لمغتصب مجرم مدان ونازى هى علامة على العدمية العميقة!‏

وكتب المؤلف المرموق ستيفن كينج: هناك لافتة يمكنك رؤيتها فى العديد من المتاجر، التى ‏تبيع عناصر جميلة للمشاهدة والاقتناء، لكنها هشة تنكسر بسهولة، يمكنك قول الشيء نفسه ‏عن الديمقراطية!‏

ووبخت المغنية إيثل كين كل من صوت لترامب وتمنت له : آمل أن لا تجد السلام أبدًا!‏

ولا نجد أبلغ من عبارة المؤلف البريطانى فيليب بولمان فى وصف الحالة الأمريكية: وداعًا ‏أمريكا.. كان من الجميل معرفتك!‏

إذن الاستقطاب الحاد ما زال فاعلاً فى المجتمع الأمريكي، حتى وصل إلى العائلات ‏والأصدقاء والأزواج فى غرف النوم، صداقات تقطعت، علاقات عائلية تجمدت، وقد رصد ‏بحث جرى فى انتخابات 2016 أن السيدة بيرنى ماكورميك هجرت بيتها وطلبت الطلاق من ‏زوجها، بعد زواج دام 22 عامًا، لأن بيل حسب قولها للباحث فى وكالة رويتر: بيل ارتكب ‏جريمة التصويت لترامب، وتصويته خيانة لى، وقد تكون هذه أول خيانة فى التاريخ داخل ‏صندوق الانتخابات، ولا أعرف هل حدث مثلها فى الانتخابات الأخيرة أم لا؟

‏عمومًا كلمات وأقوال هؤلاء الرافضين لترامب هى رسالة قوية إليه، بأنه ليس لاعبًا وحيدًا، ‏حتى لو كان رئيس الفريق، هو منظم أعمال الفريق، له رأى، له فكر وقرار، لكنه ليس ‏صاحب الفريق ومالكه، وقراره ليس منفردًا، وسيرجع فيها إلى مؤسسات كثيرة وجماعات ‏ضغط كثيرة، قد توافق عليه أو تعدله أو ترفضه.‏

وهذه آلية العمل فى واشنطن، فلا ترامب قيصر، ولا أمريكا جمهورية موز!‏>