مقاومة قلم.. بسيسو شاعر فلسطين «النارى»
وفاء وصفى
«نعم لن نموت ولكننا
سنقتلعُ القمع من أرضنا
هناكَ... هناكَ... بعيدًا بعيدْ...
سيحملنى يا رفاقى.. الجنودْ...
سيُلقون بى فى الظلامِ الرهيب
سيُلقون بى فى جحيمِ القيودْ
نعم لنْ نموتَ، ولكننا….
سنقتلع الموت من أرضنا
لقد فتشوا غرفتى يا أخى
فما وجدوا غيرَ بعضِ الكتبْ
وأكوامِ عظمٍ هم... إخوتى
يئنُّون ما بين أمٍّ... وأبْ
لقد أيقظوهم... بركلاتهمْ
لقد أشعلوا فى العيونِ الغضبْ
نعم لنْ نموتَ، ولكننا….
سنقتلع الموت من أرضنا
أنا الآن بين جنودِ الطغاةِ
أنا الآن أُسحبُ للمعتقلْ
وما زال وجهُ أبى ماثلًا
أمامى.. يُسلِّحُنى بالأملْ
وأمى.. تئن… أنينا طويلْ
ومن حولها إخوتى يصرخونْ
ومن حولهم... بعضُ جيراننا
وكلٌّ له... ولدٌ فى السجونْ
نعم لنْ نموتَ، ولكننا….
سنقتلع الموت من أرضنا
ولكنِنى رغم بطش الجنودْ
رفعتُ يدًا أثقلتها القيودْ
وصحتُ بهم: إننى عائدٌ
بجيشِ الرفاقِ... بجيشِ الرعودْ
نعم لنْ نموتَ، ولكننا….
سنقتلع الموت من أرضنا
هناكَ أرى عاملًا فى الطريقِ
أرى قائد الثورةِ المنتصر
يُلوِّحُ لى بيَدٍ من حديدْ
وأخرى تطاير منها الشررْ
نعم لنْ نموتَ، ولكننا….
سنقتلع الموت من أرضنا
أنا الآن بين مئات الرفاقِ
أشدُّ لقبضاتهم... قبضتى
أنا الآن أشعرُ أنى قوى
وأنى سأهزمُ... زنزانتى
نعم لنْ نموتَ، ولكننا….
سنقتلع الموت من أرضنا
نعم لنْ نموتَ، نعم سوف نحيا
ولو أكلَ القيدُ من عظمِنا
ولو مزقتنا سياطُ الطغاة
ولو أشعلوا النارَ فى جسمِنا
نعم لنْ نموتَ، ولكننا
سنقتلعُ الموتَ من أرضنا»
هكذا كانت مشاعر الشاعر والأديب «معين بسيسو» وهو رهن الاعتقال فى الخمسينيات فأصبحت كلمات قصيدة (الطريق الى الزنزانة) أو (نعم لن نموت) وقودًا حيًا يغذى المقاومة الفلسطينية خاصة ومقاومة اى احتلال عامة.
تلك القصيدة التى غناها الكثيرون من المطربين وأصبحت يتغنى بها الشعوب كما لو كانت نشيدًا ثوريًا يضخ فى شرايينهم القوة لمواجهة الظلم والاستبداد، فهى تؤكد أنه مهما طال الزمان ومهما كانت قسوة الاحتلال إلا أن النصر قادم لا محالة.
لقد كانت كلمات معين بسيسو نارية فى كل قصائده ففى قصيدته «لتقرع الأجراس لبلادى» يقول «تحجّرى يا صيحة الخناجر العريانة.... وراية الخيانة
فلن تجرّ بالسلاسل الخيام والمعسكرات
لن تجرّ أمهات
شعبى ومن شعورهنّ من عروقهنّ
فى يديك كالحبال
إلى مسيرة الفناء
مخالب البنادق التى أطلقتها كالوحوش
على ربيعنا الذى يعيش
فى الصدور لؤلؤا فى الصدف
أتحلمين !»
وهذه المشاعر ليست بغريبة على شخص مثل بسيسو فهو معين توفيق بسيسو والذى ولد فى شهر أكتوبر 1928 فى مدينة غزة، حى الشجاعية.
تلقى علومه الابتدائية فى مدارس غزة الحكومية وعاش فى مصر حيث خاض تجربة المسرح الشعرى، وهو شقيق الكاتب والأديب عابدين بسيسو، تزوج من صهباء البربرى، ورزق منها بثلاثة أبناء هم: توفيق، داليا، ومليكة.
فى سنة 1943 التحق بكلية غزة وتعرف فيها إلى الشاعر المعروف سعيد العيسى، الذى كان مدرسًا للغة العربية وأدبها بدأ النشر فى مجلة «الحرية» اليافاوية ونشر فيها أول قصائده عام 1946. التحق سنة 1948 بالجامعة الأمريكية بالقاهرة بعد ما أنهى دراسته فى كلية غزة، وتخرج عام 1952 من قسم الصحافة.
انخرط فى العمل الوطنى والديموقراطى مبكرًا، وعمل فى الصحافة والتدريس وفى 27 يناير 1952 نشر ديوانه الأول (المعركة).
عمل معين بسيسو كمدرس فى مدارس وكالة الغوث الدولية فى غزة، وأصبح سنة 1955 مديرًا لمدرسة مخيم جباليا ولقد شارك فى العمل الوطنى طيلة الوقت الأمر الذى أدى إلى اعتقاله وحبسه مرات عديدة فى تلك الفترة.
كان معين شيوعيًا فلسطينيًا وصل إلى أن أصبح أمينًا عامًا للحزب الشيوعى الفلسطينى فى قطاع غزة، وكان سمير البرقونى نائبًا للأمين العام مقيمًا فى القطاع، وفى عام 1988 عندما توحّد الشيوعيون الفلسطينيون فى حزبهم الموحد، أعلن بسيسو ذلك من على منبر المجلس الوطنى الفلسطينى الذى عُقد بالجزائر حينها، وظل معين عضو اللجنة المركزية للحزب حتى وفاته.
واجه معين بسيسو فى بداية عمره فترة احتلال بلاده من قبل الانتداب البريطانى وكان يواصل نضاله كلما تقدم بالعمر مما أدى إلى دخوله السجن واعتقاله مرات عديدة فى غزة والعراق ومصر حيث سجن فى المعتقلات بين فترتين الأولى من 1955 إلى 1957 والثانية من 1959 إلى 1963 وفى فترة اعتقاله تعرف على الكثير من المناضلين الفلسطينيين والعرب.
وبعد الإفراج عنه سنة 1963م توجه إلى بيروت حيث عمل فى مجلس الإعلام الموحد فى العام 1974 ونشر قصائده فى مجلة فلسطين الثورة وظل فى لبنان حتى حصار بيروت.
تلقى تعليمه فى كلية غزة، وقد تأثر، فى هذه الكلية، بالشاعر سعيد العيسى، وعلى يد هذا الشاعر تعلم الشعر وأصوله.
وتأثر أيضًا بالشاعر الفلسطينى أبى سلمى، كما كان لدراسته فى قسم الصحافة، فى الجامعة الأمريكية بالقاهرة، تأثير كبير على تشكل شخصيته الثقافية.
وفى فترات اعتقاله وحبسه كتب معين بسيسو بعضًا من قصائده التى تمت طباعتها فى ديوان شعر مع قصائد أخرى كتبها شعراء مصريون من داخل السجن وهم: زكى مراد، محمد خليل قاسم، محمود توفيق، التى كانت بعنوان «قصائد مصرية»، وكان الإهداء: إلى بطل التحرر الوطنى جمال عبدالناصر.
تنقل معين بسيسو فى كثير من مدن العالم وعواصمه، من أهم الأحداث التى حصلت فى تلك التنقلات هى الأسبوع الثقافى الفلسطينى الذى تم فى مدينة لندن عام 1984 ميلادى بمرافقة صديقه الأديب يحيى يخلف والذى اشترك فيه أيضًا محمود درويش، سميح القاسم، إميل حبيبى وغيرهم من الأدباء الفلسطينيين.
ولبسيسو أعمال شعرية كثيرة وهى المسافر (1952م)، المعركة والذى كان أول دواوينه الشعرية والذى نشر فى العام نفسه، الأردن على الصليب، 1958م، قصائد مصريّة 1960م، فلسطين فى القلب (1960م) مارد من السنابل 1967، الأشجار تموت واقفة 1964م، كرّاسة فلسطين 1966م، قصائد على زجاج النوافذ (1970م)، جئت لأدعوك باسمك 1971، الآن خذى جسدى كيسًا من رمل (1976م)، قصيدة طويلة 1983م.
كذلك كتب بسيسو أعمالًا شعرية درامية للتلفزيون وهى محاكمة ابن المقفع فى 7 ساعات ورسائل إلى العالم فى 12 ساعة من إخراج صلاح أبوهنود.
أما أعماله المسرحية فهى مأساة جيفارا، ثورة الزنج، شمشون ودليلة، الصخرة العصافير تبنى أعشاشها بين الأصابع ومحاكمة كتاب كليلة ودمنة.
كما أن له العديد من الأعمال النثرية أهمها مات الجبل، عاش الجبل (1976)، دفاعًا عن البطل (1975م) ودفاتر فلسطينية/ مذكرات 1978م) ويوميات غزة - غزة مقاومة دائمة 1971.
ولقد كتب بسيسو فى العديد من الجرائد والمجلات العربية منها فى جريدة الثورة السورية، جريدة فلسطين الثورة تحت عنوان نحن من عالم واحد.
كما شارك فى تحرير جريدة المعركة التى كانت تصدر فى بيروت زمن الحصار مع مجموعة كبيرة من الشعراء والكتاب العرب.
ولقد أسند لمعين بسيسو مناصب أدبية مختلفة ومهمات نضالية كثيرة فقد كان عضوًا فى المجلس الوطنى الفلسطينى، وعضوًا فى الأمانة العامة لاتحاد الكتاب والصحفيين الفلسطينيين كما ربطته بكتاب الاتحاد السوفيتى (سابقًا) علاقات حميمة، وقد تمثل ذلك فى المشاركات المختلفة فى اجتماعات اتحاد كتاب آسيا وإفريقيا، ومن خلال رئاسته لتحرير مجلة الاتحاد حصل بسيسو على جائزة اللوتس العالمية وكان نائب رئيس تحرير التى يصدرها اتحاد كتاب آسيا وإفريقيا.
كما حصل على أعلى وسام فلسطينى (درع الثورة) وكان مسئولًا للشئ ون الثقافية فى الأمانة العامة للاتحاد العام للكتاب والصحفيين الفلسطينيين وكان عضو المجلس الوطنى الفلسطينى ومُنح اسمه وسام الاستحقاق والتميُّز الفلسطينى عام 2015.
توفى بسيسو إثر نوبة قلبية فى أحد فنادق مدينة لندن يوم 23 يناير 1984، ففى تلك الرحلة عاش معين بسيسو قمة العطاء والتوهج ولقد كتب قصيدة بعنوان «السفر» بهدف إلقائها فى أمسية لندنية مشتركة مع صديقه محمود درويش، وسميح القاسم. إلا أن القدر لم يمهله فترك عالمنا فى تلك الأمسية.
عاش معين بسيسو ما يقارب السبعة وخمسين سنة، مناضلًا بكل المواقف، كان يكتب قصائده بحس وطنى وتجول فى حياته فى كثير من البلدان العربية والأجنبية، لقد شكّل موته هزة كبيرة فى وطنه فلسطين ورثاه كثير من الشعراء والقادة، وكانت أبلغ كلمات الرثاء تلك القصيدة التى رثاه فيها الصديق الشاعر سميح القاسم الذى لم يصدق أن معين بسيسو قد مات فقال أنه تماوت ولم يمت، وجاء ذلك فى قصيدة بعنوان «أنت تدرى كم نحبك، إلى المتماوت معين»
كوفيةٌ فى الريح تخفقُ
خصلةٌ من شعرك الوثنى
مشبعةٍ بملح البحر
تخفقُ
عندليبُ الروحَ يخفقُ»
لقد رحل بسيسو ولكنه ترك حروفًا نارية زرعت روح المقاومة فى شعب لا يملك الآن إلا تلك الحروف يصرخون بها «نعم لن نموت».