مقاومة قلم.. «فدوى طوقان» الرومانسية الحالمة المقاومة بقلمها .. «حريتى»
وفاء وصفى
حريتى!
حريتى!
حريتى!
صوت أردده بملء فم الغضب
تحت الرصاص وفى اللهب
وأظل رغم القيد أعدو خلفها
وأظل رغم الليل أقفو خطوها
وأظل محمولًا على مد الغضب
وأنا أناضل داعيًا حريتى!
حريتى!
حريتى!
ويردد النهر المقدس والجسور
حريتى!
والضفتان ترددان: حريتى!
ومعابر الريح الغضوب
والرعد والإعصار والأمطار فى وطنى
ترددها معى:
حريتى! حريتى! حريتى!
سأظل أحفر اسمها وأنا أناضل
فى الأرض فى الجدران فى الأبواب فى شرف المنازل
فى هيكل العذراء فى المحراب فى طرق المزارع
فى كل مرتفعٍ ومنحدر ومنعطف وشارع
فى سجن فى زنزانة التعذيب فى عود المشانق
رغم السلاسل رغم نسف الدور رغم لظى الحرائق
سأظل أحفر اسمها حتى أراه
يمتد فى وطنى ويكبر
ويظل يكبر
ويظل يكبر
حتى يغطى كل شبر فى ثراه
حتى أرى الحرية الحمراء تفتح كل باب
والليل يهرب والضياء يدك أعمدة الضباب
حريتى!
حريتى
ويردد النهر المقدس والجسور:
حريتى!
والضفتان ترددان: حريتى!
ومعابر الريح الغضوب
والرعد والإعصار والأمطار فى وطنى
ترددها معى:
حريتى حريتى حريتى
هكذا تحدثت «أم الشعر الفلسطينى» عن حرية شعبها، وتحدثت عن غضب وطن يسعى للحصول إلى حريته لآخر نقطة دم ونفس فيه، مؤكدة أنهم سيموتون تحت وابل الرصاص وتحت نيران المدافع والبنادق إلا أنهم لن يستسلموا إلا بعد الحصول على حريتهم.
إنها «فدوى طوقان» الرومانسية الحالمة إلا أنها فى الوقت نفسه المقاومة بقلمها وشعرها بل إنها مثال حى للمقاومة، حيث أنها قاومت كل الظروف الصعبة التى نشأت فيها.
فقد ولدت فدوى طوقان فى مدينة نابلس، وتلقت تعليمها حتى المرحلة الابتدائية، حيث اعتبرت عائلتها مشاركة المرأة فى الحياة العامة أمرًا غير مقبول، فتركت مقاعد الدراسة واستمرت فى تثقيف نفسها بنفسها، ثم درست على يد أخيها شاعر فلسطين الكبير إبراهيم طوقان، الذى نمى مواهبها ووجهها نحو كتابة الشعر، كما شجعها على نشره فى العديد من الصحف العربية، وأسماها «أم تمّام».
ثم أسماها محمود درويش لاحقًا «أم الشعر الفلسطينى».
ومع أنها وقّعت قصائدها الأولى باسم «دنانير»، إلا أن أحب أسمائها المستعارة إلى قلبها كان «المطوّقة» لأنه يتضمن إشارة مزدوجة، بل تورية فصيحة إلى حال الشاعرة بالتحديد. فالمطوقة تعنى انتسابها إلى عائلة طوقان المعروفة، وترمز، فى الوقت نفسه، إلى أحوالها فى مجتمع تقليدى غير رحيم.
وقد توالت النكبات فى حياة فدوى طوقان بعدما توفى والدها ثم أخوها ومعلمها إبراهيم، وأعقب ذلك احتلال فلسطين إبان نكبة 1948، وقد تركت تلك المآسى المتلاحقة أثرها الواضح فى نفسية فدوى طوقان كما يتبين من شعرها فى ديوانها الأول وحدى مع الأيام. وفى الوقت نفسه فإن ذلك دفع فدوى طوقان إلى المشاركة فى الحياة السياسية خلال الخمسينيات من القرن الماضى.
سافرت فدوى طوقان إلى لندن فى بداية الستينيات من القرن الماضى، وأقامت هناك سنتين، وفتحت لها هذه الإقامة آفاقًا معرفية وإنسانية حيث جعلتها على تماسٍّ مع منجزات الحضارة الأوروبية الحديثة.
وبعد نكسة يونيو 1967، خرجت من قوقعتها لتشارك فى الحياة العامة فى نابلس، فبدأت بحضور المؤتمرات واللقاءات والندوات التى كان يعقدها الشعراء الفلسطينيون البارزون من أمثال محمود درويش وسميح القاسم وتوفيق زياد وسالم جبران وإميل حبيبى وللى كرنيك وغيرهم.
خلال حياتها، كانت فدوى طوقان واحدة من أبرز شاعرات فلسطين، إلى جانب كل من للى كرنيك وسميرة الخطيب وليلى علوش.
وفى مساء السبت الثانى عشر من شهر ديسمبر عام 2003 ودعت فدوى طوقان الدنيا عن عمر يناهز السادسة والثمانين عامًا قضتها مناضلة بكلماتها وأشعارها فى سبيل حرية فلسطين، وكُتبت على قبرها قصيدتها المشهورة:
كفانى أموت عليها وأدفن فيها
وتحت ثراها أذوب وأفنى
وأبعث عشبًا على أرضها
وأبعث زهرة إليها
تعبث بها كف طفل نمته بلادي
كفانى أظل بحضن بلادى
ترابًا، وعشبًا، وزهرة…
وعرفت فدوى طوقان أنها كانت الأكثر جرأة على الذات، والأكثر اندفاعًا فى البوح والاعتراف، ويكاد لا يجاريها فى هذا المضمار إلا الأديبة السورية غادة السمان.
ولم تخش كتابة سيرة حياتها والتى صدرت فى جزءين «رحلة جبلية رحلة صعبة» و«الرحلة الأصعب» والتى تُعد من أجمل كتب السير الذاتية والاعتراف التى نُشرت فى العقدين الأخيرين.
شغلت فدوى طوقان عدة مناصب جامعية، كان آخرها منصب أمينة السر فى مجلس أمناء جامعة النجاح الوطنية بنابلس. وقد شاركت فى مؤتمرات وندوات واجتماعات فكرية وأدبية على الصعيد العربى والعالمى.
كرست فدوى طوقان حياتها للشعر والأدب، وقد صدرت للشاعرة عدة مجموعات شعرية منها وحدى مع الأيام، دار النشر للجامعيين، القاهرة، 1952م، وجدتها، دار الآداب، بيروت، 1957م، أعطنى حبًا (1960م)، أمام الباب المغلق. 1967م، الليل والفرسان، دار الآداب، بيروت، 1969م، على قمة الدنيا وحيدًا. 1969م، تموز والشيء الآخر. 1987م واللحن الأخير، دار الشروق، عمان، 2000م.
وتُرجمت بعض أشعارها إلى لغات أجنبية عديدة كالإنجليزية والإيطالية والسويدية والفرنسية والألمانية والروسية والتركية والفارسية والعبرية.
ومن أشهر الموضوعات التى كتبت فيها طوقان هو حزنها على فقدها أخيها إبراهيم طوقان.
حيث كان معلمها الأول الذى أخرجها بتدريسه إياها مما كانت تعانيه من انعدام تقدير المجتمع لإبداعاتها ومواهبها، ويظهر أثر موت أخيها إبراهيم جليًا فى إهدائها له أغلب دواوينها أمهرتها بعبارة «إلى روح أخى إبراهيم» ويظهر أيضا من خلال كتابها «أخى إبراهيم» والذى صدر سنة 1946 إضافة إلى القصائد العديدة التى رثته فيها خاصة فى ديوانها الأول «وحدى مع الأيام».
أما الموضوع الأهم الذى شغلها هو «قضية فلسطين» فقد تأثرت فدوى طوقان باحتلال فلسطين بعد نكبة 1948 وزاد تأثرها بعد احتلال مدينتها نابلس خلال حرب 1967 فذاقت طعم الاحتلال وطعم الظلم والقهر وانعدام الحرية.
يقول عنها الأدباء المعاصرون لها «كانت قضية فلسطين تصبغ شعرها بلون أحمر قان ففلسطين كانت دائما وجدانًا داميًا فى أعماق شاعرتنا فيأتى لذلك شعرها الوطنى صادقًا متماسكًا أصيلًا لا مكان فيه للتعسف والافتعال».
كذلك كانت لتجربتها الأنثوية حظها من أدبها فقد مثلت فى قصائدها الفتاة التى تعيش فى مجتمع تحكمه التقاليد والعادات الظالمة، فقد منعت من إكمال تعليمها ومن إبراز مواهبها الأدبية ومن المشاركة فى الحياة العامة للشعراء والمثقفين ومنعت من الزواج، كل ذلك ترك أثره الواضح فى شعر فدوى طوقان بلا شك وجعلها تدعو فى كثير من قصائدها إلى تحرر المرأة وإعطائها حقوقها واحترام مواهبها وإبداعاتها، مما جعلها محط احترام وتقدير.
كرست فدوى طوقان حياتها للشعر والأدب حيث أصدرت العديد من الدواوين والمؤلفات وشغلت عدة مناصب جامعية بل وكانت محور الكثير من الدراسات الأدبية العربية إضافة إلى ذلك فقد حصلت على العديد من الأوسمة والجوائز منها جائزة الزيتونة الفضية الثقافية لحوض البحر الأبيض المتوسط، باليرمو، إيطاليا 1978م، جائزة عرار السنوية للشعر فى عمان، عام 1983م، جائزة سلطان العويس، الإمارات العربية المتحدة، 1989م، وسام القدس، منظمة التحرير الفلسطينية 1990، جائزة المهرجان العالمى للكتابات المعاصرة، ساليرنو، إيطاليا 1992م، جائزة البابطين للإبداع الشعرى، الكويت، 1994م، جائزة كفافيس الدولية للشعر، القاهرة، 1996م، جائزة الآداب من منظمة التحرير الفلسطينية، 1997م، جائزة المهرجان العالمى للكتابات المعاصرة، إيطاليا 2000م، وسام الاستحقاق الثقافى، تونس، 1996م ووسام أفضل شاعرة للعالم العربى، الخليل.
توفيت فدوى طوقان يوم الجمعة 12 ديسمبر 2003، فى مستشفى مدينة نابلس، إثر أزمة قلبية، بعد أن ظلت تحت الملاحظة فى وحدة العناية المركزة لمدة 20 يومًا، وغادرت إلى دار البقاء عن عمر يناهز 86 عامًا.
لقد رحلت أم الشعر الفلسطينى ولكن كلماتها ظلت باقية وملهمة لشعب كامل يئن تحت وطأة الألم والظلم، إلا أنهم دائما يؤكدون للعالم كله إما الموت أو الحرية، فهذه هى عقيدتهم وهذا هو إيمانهم الذى كان والذى سيكون.. إنهم شعب المقاومة التى تتوراثها أجياله، ومن يعيش المقاومة لا يعرف الهزيمة أبدا.. وأن الغد لناظره قريب.