أمريكا تلح على التطبيع بين السعودية وإسرائيل والرياض تمارس سياسة شراء الوقت التطبيع مع إسرائيل هو الدواء المر الذى يرفض السعوديون تعاطيه
الرياض: صبحى شبانة
أحداث قدرية كثيرة غيرت فى مسار السياسة الدولية، التاريخ يعج بالكثير منها، بعضها أشعلت حروبا عالمية طاحنة، وأخريات بدّلت من عداوات مزمنة ومستعصية إلى سلام دائم وحار، لذا يدرك معظم المفكرين والساسة أن الرهان على التاريخ فى مجمل وقائعه ربما يعصم فى مواقف كثيرة من أخطاء سياسية تلحق الضرر الجسيم بدولهم وشعوبهم، وأن التمعن فى قراءة فصول التاريخ واجبة وحتمية لمن يريد منهم استشراف ملامح المستقبل، وتفادى الوقوع فى الزلات الضارة والمؤذية، ولا شك أن سقوط الطائرة الإيرانية الأسبوع الماضى، ومقتل كل من عليها من أركان الحكم الإيرانى بمن فيهم الرئيس إبراهيم رئيسى، ووزير الخارجية أمير عبد اللهيان اللذان لعبا دورا فى خفض التوترات مع دول الخليج العربية، واستعادة العلاقات الدبلوماسية بعد طول انقطاع مع المملكة العربية السعودية، ربما يكون من الأحداث القدرية التى لها ما بعدها.
مرت العلاقات السعودية الإيرانية بمنحنيات كثيرة، من التوتر المحسوب والتهدئة المرحلية، وكلاهما تبع لارتفاع أو انخفاض الأطماع الإيرانية فى دول الخليج، والتى تحددها النخبة السياسية الحاكمة المتغيرة فى إيران، فى ظل ثبات محددات السياسة السعودية التى تضع الأمن الخليجى، وأمن المشرق العربى فى مقدمة أولوياتها والتى تفرض مواجهة الحيل الإيرانية الطامعة فى الخليج العربى، فهل سيعيد غياب رئيسى وعبد اللهيان العلاقات الإيرانية السعودية مجددا إلى نقطة الصفر؟، وما هو مدى تأثير غيابهما على الجهود النى تبذلها أمريكا لتحقيق اختراق مدوى فى ملف التطبيع بين السعودية وإسرائيل؟
رغم الجهود الدبلوماسية اللحوحة والمضنية التى تبذلها الإدارة الأمريكية لإحراز تقدم على مسار التطبيع بين السعودية وإسرائيل، إلا أن الإدارة السعودية بقيادة ولى العهد الأمير محمد بن سلمان ترفع محددات، وتضع شروطا قبل الانخراط فى إنجاز هذا الملف الشائك والحساس لأنها تدرك أهمية التلويح والاحتفاظ بهذه الورقة الأكثر أهمية فى هذه المرحلة من تاريخ الصراع العربى الإسرائيلى فى التأثير المزدوج على كل من أمريكا وإسرائيل لتسوية الصراع العربى الاسرائيلى على أساس حل الدولتين للتوصل إلى اتفاق سلام بين إسرائيل والفلسطينيين، والمتتبع للسياسة السعودية فى السنوات القليلة الماضية يدرك انها أبلت بلاء حسنا فى سياسة شراء الوقت، والاحتفاظ بأوراق القوة فى مواجهة الضغوط والحوافز التى تلوح بها إدارة بايدن ومن قبلها إدارة ترامب، ويشترط ولى العهد السعودى الأمير محمد بن سلمان لإتمام مسار التطبيع بين بلاده وإسرائيل وجود مسار واضح يؤدى إلى قيام دولة فلسطينية مستقلة، وهو ما يبدو صعبا فى الوقت الراهن فى ظل رفض رئيس الوزراء الإسرائيلى المأزوم بنيامين نتنياهو، واستمرار الحرب على غزة، وتوالى سقوط الشهداء والجرحى من الفلسطينيين بأعداد كبيرة، والرفض العربى والدولى المشحون بالمشاعر الشعبية المضادّة لإسرائيل جراء استمرار الاعتداءات الإسرائيلية على قطاع غزّة.
وفى أعقاب استقبال ولى العهد السعودى الأمير محمد بن سلمان لمستشار الأمن القومى الأمريكى جاك سوليفان الأسبوع الماضى (شرق المملكة)، توالت التقارير الواردة من الولايات المتحدة الأمريكية التى يغذيها اللوبى الصهيونى الداعم لإسرائيل فى واشنطن ونيويورك والتى تشير إلى أن السعودية والولايات المتحدة على وشك الانتهاء من وضع الرتوش واللمسات الأخيرة لإنجاز اتفاق دفاعى وأمنى يوفر ضمانات حمائية للسعودية ضد المحاولات الإيرانية للتدخل عبر أذرعها فى الشأن الداخلى لليمن ودول الخليج، خصوصا أن إيران تمتلك ترسانة من الطائرات المسيّرة والصواريخ العابرة، وأن سقوط تلك الأسلحة الفعالة وقليلة التكلفة فى أيدى الميليشيات المتهورة وغير المنضبطة فى كل من العراق واليمن وهو ما يضاعف قلق السعوديون من أن تزايد تلك المخاطر جاء بالتوازى مع التراجع الأمريكى فى الالتزام بأمن الدول الخليجية الحليفة للولايات المتحدة الأمريكية، كما تشترط الرياض تقديم مساعدات أمريكية لها لإحراز تطور فى تنفيذ مشروعها فى الطاقة النووية السلمية التى تسعى السعودية بموجب رؤية المملكة 2030 الطموحة التى أطلقها الأمير محمد بن سلمان عام 2016 إلى توليد طاقة متجددة كبيرة وخفض الانبعاثات الكربونية، الا أن السعودية فيما يبدو أكثر تحفظا حيال هذه التقارير وتبحث عن طرق أخرى لتأمين صفقة متوازنة من شأنها أن تستبعد شرط التطبيع مع إسرائيل فى هذه المرحلة فى تحد واضح للتقارير الأمريكية وتصريحات مستشار الأمن القومى الأمريكى جاك سوليفان نفسه الذى أكد فيها بأنه لن يكون هناك اتفاق مع السعودية من دون التطبيع مع إسرائيل.
التساؤل الذى يطرح نفسه الآن بقوة بعد سقوط الطائرة الإيرانية ومقتل الرئيس الإيرانى إبراهيم رئيسى الذى أبدى اهتمامه بتعزيز العلاقات مع الرياض، وهو أول رئيس إيرانى يحضر اجتماع منظمة التعاون الإسلامى فى المملكة فى شهر نوفمبر الماضى منذ عام 2012، ووزير خارجيته أمير عبد اللهيان الذى يعد مهندس تخفيف التوتر واستعادة العلاقات مع المملكة العربية السعودية، هل ستلتزم الإدارة الإيرانية الجديدة بالمسار الذى وضعته حكومة رئيسى، أم أن التوترات الحدية فى العلاقات بين الدولتين ستعود إلى سابق عهدها، أى إلى ما قبل عودة العلاقات الدبلوماسية، وإعادة فتح السفارتين فى كل من الرياض وطهران فى شهر مارس من العام الماضي؟ المؤشرات والتوقعات التى ربما تلوح فى الأفق القريب أن الولايات المتحدة الأمريكية كما هو ديدنها سوف تستغل حالة الضبابية التى تخيم على السياسة الإيرانية الجديدة، وتعود مجددا لتغذية المخاوف السعودية من الأطماع الإيرانية لتشجيع السعودية فى اتخاذ خطوات اسرع وأكثر جدية فى مسار التطبيع مع إسرائيل مثل شقيقتها دولة الامارات العربية المتحدة، مدفوعة برغبتها فى تحقيق إنجاز دبلوماسى كبير يضاف إلى رصيد بايدن يساعده على منافسة غريمه دونالد ترامب وحزبه الجمهورى فى الانتخابات القادمة، لكن أى مضطلع على الشأن السعودى يعلم أن الموقف السعودى سوف يظل ثابتا ورافضا ومتمسكا بمحددات السياسة السعودية ولا ينجر وراء الإلحاح الأمريكى المتزايد، وأن المملكة سبق لها أن أبلغت على لسان وزير خارجيتها الأمير فيصل بن فرحان آل سعود موقفها الثابت للإدارة الأمريكية بأنّه لن تكون هناك علاقات دبلوماسية مع إسرائيل ما لم يتمّ الاعتراف بالدولة الفلسطينية المستقلّة على حدود عام 1967 وعاصمتها القدس الشرقية، ووقف العدوان الإسرائيلى على قطاع غزة وانسحاب كل جنود وآليات قوات الاحتلال الإسرائيلى من القطاع، وجددت المملكة دعوتها للمجتمع الدولى، وعلى وجه الخصوص، الدول دائمة العضوية فى مجلس الأمن التى لم تعترف حتى الآن بالدولة الفلسطينية بأهمية الإسراع فى الاعتراف بها على حدود 1967 وعاصمتها القدس الشرقية، ليتمكن الشعب الفلسطينى من نيل حقوقه المشروعة وليتحقّق السلام الشامل والعادل للجميع، وتدير المملكة سياستها الخارجية بذكاء معهود عنها وفق محددات قيمية لا تحيد عنها أسس لها الراحل وزير الخارجية الأسبق الأمير سعود الفيصل تسعى من خلالها للاستفادة من وضع الارتباك الذى تعيشه الولايات المتحدة بسبب تعقيدات الحرب الإسرائيلية فى غزة وتحصيل مكاسب قبل الوصول إلى مرحلة التطبيع التى تراهن عليها إسرائيل لتحقيق اختراق كبير فى علاقتها بمحيطها العربى، وسبق للرياض أن جمدت فى أكتوبر الماضى جراء الغضب العربى المتزايد بشأن الحرب على غزة الجهود الدبلوماسية التى تقودها الولايات المتحدة لإقناع السعودية بتطبيع العلاقات مع إسرائيل والاعتراف بها للمرة الأولى.
الأيام أو الشهور القادمة سوف تنبئ بتوجهات الساسة الإيرانيين الجدد التى معها يمكننا الرهان على ثبات أو تغير المعادلة السياسية التى صمدت لأكثر من عام بين الرياض وطهران، كما أن تلك السياسة الإيرانية المرتقبة سوف تلعب دورا حاسما فى إسراع أو تجميد المحاولات الدبلوماسية الأمريكية لإنجاز ملف التطبيع السعودى الإسرائيلى وهو الدواء المر الذى ترفض أن تتعاطاه الإدارة السعودية ومن خلفها الشعب السعودى.