الإثنين 17 يونيو 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري
رئيس مجلس الإدارة
هبة الله صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري
المصريون.. والكنز المخبوء تحت الجلد!‏

المصريون.. والكنز المخبوء تحت الجلد!‏

قطعًا، الشخصية المصرية محيرة، وليست بالبساطة التى تبدو عليها، ولا يعنى هذا مطلقا أنها ‏شخصية معقدة محملة بالغرائب، المقصود أنها شخصية مركبة، طبقات حضارية متعددة ‏متراكمة فوق بعضها بعضا لم تتوافر لجنس أو عرق أو أمة، كونت «سمات» المصريين، ‏مساحة من الصفات واسعة جدا، فى غاية التباين وأيضا التناقض..



والبحث فى الشخصية المصرية أمر مهم للغاية، بالقطع المصريون يريدون أن يعرفوا، لماذا ‏لم تستطع مصر الفرار من أوضاعها المعوجة منذ تجربة محمد على، لتنطلق إلى مصاف الدول ‏المتقدمة؟، كلها محاولات لم تكتمل أو تعثرت، فهل السبب يكمن فى صفات بهذه الشخصية ‏تعوقها عن مشوار التقدم الصعب؟

 

يبدو أن هذا السؤال، كان سببا دافعا للدكتور جمال مصطفى السعيد أستاذ جراحة الأورام فى ‏طب القاهرة، أن يخصص الجلسة الخامسة والثمانين من صالون الجراح الثقافى لـ«الشخصية ‏المصرية»، مكوناتها، عناصرها الفاعلة، التغيرات التى حدثت لها، وهل «الأعمدة السبعة ‏للشخصية المصرية» كما حددها الدكتور ميلاد حنا فى كتابه الشهير بذات الاسم، مازالت كما ‏هى أم طرأ عليها تطور فأضيفت لها أعمدة أخرى أو حذفت منها؟!‏

المدهش أن أغلب كتابات أساتذة علم الاجتماع السياسى والمفكرين والمؤرخين والباحثين ‏يميلون تماما إلى فكرة «ثبات» الصفات فى الشخصية المصرية، مثل التدين والصبر على ‏المكاره والرضا بالمقسوم وحسن العشرة والحس الساخر..إلخ، وأتصور أنها فكرة جديرة ‏بالتأمل والاختبار، لأن البشر لا يعيشون فى حالة «ثابتة» فى عالم متغير بطبيعته، وأيامه ‏متقلبة طول الوقت، والمصريون تحديدا مروا بظروف وتجارب وأحوال صعودا وهبوطا، ‏ينتقلون فيها من النقيض إلى النقيض، فكيف حافظوا على ثبات هذه السمات؟ هل فعلاً يمكن لشعب أن يحافظ على سماته الخاصة عبر التاريخ دون تغييرات حادة؟ ‏

هنا علينا أن نفرق بين الطابع القومى للشخصية المصرية، والطابع الفردى للشخصية القومية، ‏ونقصد بالطابع الفردى للشخصية القومية، الحالة التى تميز المصريين، عن الشخصيات ‏القومية الأخرى. ‏

ولأن الموضوع صعب وظل قرونا طويلة محل بحث، منذ زيارة هيرودت لمصر فى القرن ‏الخامس قبل الميلاد وحتى السنوات الأخيرة، لهذا حشد الدكتور جمال كوكبة من الأساتذة فى ‏جلسة الصالون، هم الدكتور على الدين هلال أستاذ العلوم السياسية، وأحد كبار مثقفى مصر، ‏والدكتور هدى زكريا أستاذة علم الاجتماع المعروفة، والتى انصبت أغلب دراساتها على ‏ظواهر اجتماعية فى حياة المصريين العاديين، والدكتور أحمد بهى الدين العساسى أستاذ ‏الأدب الشعبى ورئيس الهيئة المصرية العامة للكتاب، والكاتب اللامع أحمد الجمال، والدكتور ‏جمال شقرة أستاذ التاريخ الحديث.‏

كان الحوار ثريا ومتشعبا للغاية، فالموضوع مثل محيط بلا حدود، واسع وممتد كتاريخ ‏مصر، باعتبارها أقدم أمة عرفها العالم، وتجاوز الجميع تفسير أعمدة الدكتور ميلاد حنا ‏السبعة التى بنت الشخصية المصرية: الفرعونى، واليونانى الرومانى، القبطى، الإسلامى، ‏العربى، الإفريقى، وحوض البحر الأبيض المتوسط، وأخذوا منها فقط التأثير على صناعة ‏الصفات الفردية على الإنسان.‏

‏ بالطبع كان التدين أول صفة حاضرة فى سمات المصريين، وكان السؤال: هل التزم ‏المصريون بتعليم دينهم أيا كان هذا الدين فى كل تصرفاتهم وسلوكياتهم اليومية أم كانوا ‏يميلون إلى «أداء الطقوس» أكثر من الالتزام بالمثل والقيم فى التصرفات كما يطلبها الدين؟ طبعا كانت المساحة كبيرة بين التدين الحق والطقوس، مرة تميل الكفة إلى هذا الجانب ‏ومرات تميل ناحية الطقوس والمظاهر.. لكن الدين موجود دومًا فى الخطاب المصرى العام، ‏حتى لو كان مخلوطا بالتقاليد والعادات أو حتى بالسحر والشعوذة.‏

تكررت صفات إيجابية كثيرة فى كلمات المتحدثين اكتسبها المصريون من جغرافيا مصر ‏وتاريخها، مثل الكرم والشهامة والتكيف، سرعة البديهة، النصرة فى الشدة، سرعة التعلم، ‏التعايش السلس مع الآخر..الخ، لكن أحيانا كنت بعض هذه الصفات تنحرف إلى مظاهر ‏سلبية، مثل الصبر على المكاره الذى انتهى إلى الرضوخ للقهر وقلة الحيلة، حتى وصل ‏الأمر إلى قبول العبيد حكاما لمصر فى العصور المملوكية، وابتعاد المصريين عن حكم ‏أنفسهم لأكثر من ألفى سنة.‏

وفى الحقيقة لست من أنصار هذا الرأى على علاته، مع الاعتراف أن حبال الصبر عند ‏المصريين طويلة جدا، ولا تُبلى بسهولة، وصحيح أن مصر منذ نهاية حكم الملك نختنبو ‏الثانى فى القرن الرابع قبل الميلاد إلى الرئيس محمد نجيب فى منتصف القرن العشرين ‏خضعت لمحتلين وحكام أجانب، أى ما يزيد على 23 قرنا، إلا أن التفسير الشائع لهذه ‏الظاهرة ليس صحيحا، فالإسكندر الأكبر الذى هو أول حلقة فى هذه السلسلة الطويلة لم يحتل ‏مصر منفردة، وإنما احتل أكثر من نصف العالم، وقد يكون هو أول «مستعمر أوروبى» ‏يكشف للعالم «أهمية مصر» الثروة والموقع الجغرافى الحاكم، وكلما تكونت إمبراطورية ‏جديدة على كوكب الأرض، استهدفت مصر بالدرجة الأولى، الرومان والعرب والعثمانيين، ‏ولم أحسب الغزوات قبل الأسكندر الأكبر كالهكسوس والفرس، لأنها كانت تنتهى دوما ‏بمقاومة مصرية طاردة لهم مهما كانت مدة الاحتلال.‏

باختصار كانت مصر دوما هدفا أوليا، لكن ألم يحكم الرومان الجزر البريطانية مثلا مئات ‏السنين برغم انعزالها عن القارة العجوز؟، وحين غزا العرب أكثر من نصف الأرض لم تكن ‏مصر بمعزل عن ذلك، خاصة وهى فى قلب المنطقة التى خرجوا منها، وقس على ذلك كل ‏شعوب المنطقة، وبعدهم العثمانيون ولا يمكن أن نغفل دور الدين فى قبول حكم العرب ‏والعثمانيين دون إعلان الحرب عليهما، باعتبارهما رأس «الأمة» الإسلامية وحماة الدين.‏

أما حكاية العبيد، أقصد المماليك الذين حكموا مصر، فلم يكونوا عبيدا وقتها، كانوا أطفالا ‏مخطوفين من ذويهم، ليكونوا جنودا وفرسانا وأمراء تابعين للحكام الذين جلبوهم أو ‏اشتروهم، أى لم يأت عبدُ من مساكن الخدم إلى عرش مصر.‏

وبالرغم من هذا حدثت ثورات شعبية تذكرها كتب التاريخ، لكن لم يتوقف عندها لأنها لم ‏تُحدث «التغيير» الذى يمكن أن يكون فاصلة فى حياة المصريين، مثلا صنع المصريون أكثر ‏من عشرين هبّة شعبية ضد حكم المماليك فى الثلاثين سنة الأخيرة من القرن الثامن عشر قبل ‏قدوم الحملة الفرنسية، ولم تكن ثورة القاهرة الأولى أو الثانية ضد الفرنسيين حالة استثنائية.‏

هل فيكم من يصدق أن الفلاحين فى أبعديات الملك فاروق نفسه قاموا بأكثر من عشر هبات، ‏لهم بين أعوام 1950، 1951، و1952 اعتراضا على سوء أحوالهم، ومسجلة بالتفاصيل ‏فى كتاب «متى يثور الإنسان ولماذا؟، لمؤلفه هارولد بيرشادى، أستاذ علم الاجتماع فى جامعة ‏بنسلفانيا، الصادر من فرى برس سنة 1970؟، والدكتور بيرشادى رحل عن عالما فى فبراير ‏‏2023.‏

يعنى تعميم فكرة الإذعان والخضوع بعيدة تماما عن الصحة، نعم المصريون أصحاب بال ‏طويل اكتسبوه من طبيعة النهر الذى يعيشون على ضفافه، ومن تجاربهم عبر التاريخ.‏

وحتى الصفات السيئة الأخرى الحديثة مثل الفهلوة وعدم احترام القانون والنفاق، وطبع الواقع ‏بالقبح والعشوائية والفوضى..الخ، فهى حالات طارئة وليست أصيلة، فرضتها «ظروف» فى ‏غاية الصعوبة، فحين تقل فرص الصعود الاجتماعى وتتحكم الأزمة الاقتصادية ويشيع القلق ‏على المستقبل وعدم الآمان لفترة طويلة، يحدث نوع من النحر فى القيم الإيجابية، وتنمو ‏للإنسان بالإكراه أنياب وأظافر اجتماعية وشخصية، ويتصاعد نمط الصراع فى كل جنبات ‏الحياة، اكثر من التعاون وروح الفريق.‏

باختصار، الإنسان عموما، وليس المصرى فقط، ابن نظامه العام وثقافته، والمقصود بالنظام ‏العام القواعد والإجراءات والقوانين التى تضبط نشاطه فى كل جنبات حياته اليومية، من أول ‏الميلاد إلى الموت، فإذا كان هذا النظام العام يعمل بكفاءة وعدالة وانضباط صارم، تتعاظم ‏الصفات الإيجابية، والعكس صحيح، أما الثقافة فهى تحدد المفاهيم التى تحرك السلوكيات، فإذا ‏كانت هشة، فالمفاهيم غائمة ومضطربة، والثقافة ليست المعلومات، وإنما المعرفة والخبرة ‏والتقاليد والعادات التى تشكل شباك الرؤية للحياة عامة.‏

أى السمات الفردية للشخصية القومية مرتبطة بالحالة العامة التى عليها المجتمع. ‏

لكن حين تتعرض مصر لخطر حقيقى كبير، تعلو السمات الايجابية على الحالة الفردية، ‏مستمدة من جوهر الجينات الحضارية المتراكمة تحت جلد المصريين.‏

باختصار الشخصية المصرية خليط من سمات أصلية متوارثة، وسمات مكتسبة من الحالة ‏العامة التى هم عليها، وهم ما يصنع ربكة لمن يحاول تفسيرها على الواقع الذى يعيشونه فقط، ‏لأنه يهمل السمات الأصلية فى التفسير، وهذا هو السر فى عدم القدرة على التنبؤ بردود أفعال ‏المصريين فى أحداث كبرى.‏

والسؤال : هل يمكن أن نستخرج هذا الكنز المدفون فى صناعة مستقبل أفضل؟