الأحد 5 مايو 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري
رئيس مجلس الإدارة
هبة الله صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري
مصر أولا.. سنوات فى مواجهة الحسبة والتكفير والمصادرة واستغلال الدين

مصر أولا.. سنوات فى مواجهة الحسبة والتكفير والمصادرة واستغلال الدين

من لم يكتب فى مجلة «روزاليوسف».. لم يعرف شغف الكتابة وسحرها.



مثّلت «روزاليوسف» مدرسة فكرية وإعلامية.. استطاع أبناؤها وتلامذتها وحواريوها أن يمثلوا النواة الصلبة لغالبية  وسائل  الإعلام المصرية لسنوات طويلة. كما ظلت «روزاليوسف» البوابة الذهبية لكل مثقف ومفكر وسياسى.. سواء من كتب منهم مقالات، أو من تناولت أفكاره وتصريحاته بالاتفاق أو حتى الاختلاف معها.

 

استطاعت على مر كل تلك السنوات منذ نشأتها أن تكون منبرًا حقيقيًا للدفاع عن الوطنية المصرية فى إطار أقصى درجة من درجات حرية الرأى والتعبير والتفكير. واعتماد العقلانية كمنهج للتفكير والفصل التام بين الدين والدولة، وعدم توظيف أحدهما للآخر. كما كانت دائمًا ضد أى محاولات للربط بين الدين بما يحمله من مبادئ إنسانية ثابتة، وبين العلم بمتغيراته السريعة.

تاريخ من التكفير

على سبيل المثال لا الحصر، منذ بداية القرن العشرين.. نجد أنه قد تم مهاجمة فرح أنطون بضراوة  بسبب كتابه «ابن رشد وفلسفته» سنة 1903، لأنه اعتبر أن أفكار هذا الفيلسوف الإسلامى العظيم.. تصلح لأن تكون أساسًا للعلمانية. وتكفير الشيخ على عبدالرازق سنة 1926، بسبب كتابه المؤثر والمهم «الإسلام وأصول الحكم»، كما تم طرده من وظيفته، ومصادرة الكتاب، وأجبر على الصمت فى ظل محاولات لتغيير موقفه.

وفى سنة 1927 تعرض طه حسين للموقف نفسه بسب كتابه العمرة «فى الشعر الجاهلى»، واضطرته الضغوط النفسية التى تعرض لها على إعادة صياغة أجزاء من كتابه، وممارسة نوع من الرقابة الذاتية. لم تتوقف مسيرة التفكير والمصادرة، واستمرت مع نجيب محفوظ فى رواية «أولاد حارتنا» سنة 1959. ومع د. لويس عوض فى كتابه الجدلى «مقدمة فى فقه اللغة العربية» سنة 1981. ومسرحية عبدالرحمن الشرقاوى بجزءيها «الحسين ثائرًا وشهيدًا» و«الحسين شهيدًا» سنة 1969. ود. محمود إسماعيل فى كتابه «سوسيولوجيا الفكر الإسلامى». والمستشار محمد سعيد العشماوى فى كتابه «الإسلام السياسى» سنة 1987. كما تم الحكم بالسجن على علاء حامد بسبب روايته «مسافة فى عقل رجل» سنة 1988.

كما نجد من يتهم المفكر والفيلسوف د.حسن حنفى بالكفر، ويطالب بمصادرة كتبه. وتزامن هذا مع اتهامات متوالية لمصريين كثيرين بازدراء الأديان، منهم  الكـتَّاب المشاهير بسبب ما نشروه على صفحات «روزاليوسف».

كما تفاقم «فقه التكفير» إلى حد التصفية الجسدية باغتيال د.فرج فودة سنة 1992. ثم الاغتيال المنهجى المنظم للدكتور نصر حامد أبوزيد لإسهاماته الفكرية المهمة جدًا عن «مفهوم النص والتأويل». ولا ننسى هنا، التأجيج المنظم الذى حدث ضد الروائى السورى حيدر حيدر على أرض مصر بسبب روايته «وليمة لأعشاب البحر» سنة 1983.

تجديد الفكر الدينى

خاضت مجلة «روزاليوسف» على مدار تاريخها  العريق  العتيد.. الاشتباك مع العديد من القضايا الدينية الشائكة سواء مع المؤسسة الدينية  المسيحية أو الإسلامية. وفتحت صفحاتها للآراء المختلفة ليس فقط لتحريك المياه الراكدة، ولكن أيضًا فى سبيل تقديم اجتهادات حقيقية.

وأذكر أننى قد كتبت على صفحاتها أن البعض يرى أن العقائد الدينية انتقائية بطبيعتها، وتميل نحو استبعاد المختلفين معها، ومن ثم فإن تجديد الفكر الدينى هو الذى يمكنه ترسيخ مفهوم التماسك مع تخطى محدودية العقيدة، كما يسهم فى دعم فكرة الوحدة مع التنوع، وهى فكرة حتمية للمجتمع المدنى والديمقراطية والدولة المدنية. كما أن المسئولية الإيمانية تتطلب خلق مجتمع العدالة والحق، وهو ما يتطلب بدوره التغلب على الشعور بالانعزالية والاغتراب. 

نحتاج إلى تجديد الفكر الدينى وليس الخطاب الدينى.. فالخطاب الدينى آراء شخصية فى معظمه «الوعظ والإرشاد»، ويرتكز على فكر دينى «أفكار وتصورات» لاجتهادات لاهوتية وفقهية على مر السنوات. تجديد الفكر الدينى يمثل فهم الإنسان للدين، ورؤيته الشخصية. وليس المقصود بالقطع تجديد النص الدينى أو الكتب السماوية. والتجديد هنا غير معنٍ بشكل الخطاب وكلماته، بل بتعديل سيكولوجية الفكر الدينى ومضمونه بما لا يتعارض أو يمس النصوص بثوابتها الدينية والإيمانية، خاصة أن تراثنا الدينى يحتوى على بعض ما يخالف أصول الدين، ويخالف المنطق العقلى، فلا يمكن رفض النص الدينى منطقيًا لأنه مرجع غير قابل للشك، وفى الوقت نفسه لا يمكن قبول تفسيراته كليًا لما فى بعضها من تجاوزات غير مقبولة دينيًا أو فكريًا.. على غرار اقتران الهوية الدينية بالقتل من جيش الرب فى أوغندا وداعش فى ليبيا والعراق وسوريا.

الدين والعلم

رفض تجديد الفكر الدينى.. يعنى تجميد الأحكام عند فترة زمنية محددة فى التاريخ الماضى، وهو ما يعنى غلق باب الاجتهاد الذى يقوم أساسًا على التجديد. ويرتبط بذلك الحديث عن الإعجاز العلمى للأديان الذى يعتبر نوعًا من العجز تجاه تقدم الغرب وتكنولوجيته. والسؤال البديهى الذى سألته أكثر من مرة: طالما أن الكتب السماوية ذكرت لنا النظريات العلمية نحن أهل الإيمان.. فلماذا لم نكتشفها نحن؟ ولماذا نتأخر دائمًا ولم نتقدم، بل وتقدم غيرنا؟ وكيف يستقيم أن يكون الغرب المتقدم ماديًا.. هو نفسه «المنحط» روحيًا وأخلاقيًا كما يختزله البعض من رواد التكفير؟

الفصل بين العلم والدين لا يستند إلى أفكار نظرية المؤامرة حسبما يروج البعض، بل يبعد النص الدينى عن مهاترات المقارنة مع النظريات العلمية. النص الدينى ثابت لا يتغير، أما النظريات العلمية.. فهى متغيرة حسب الزمان والمكان ضمن نطاق التطور العلمى المستمر.

تجديد الفكر الدينى أهم وأكبر من تركه داخل حدود المؤسسة الدينية.. فالمفكرون والمثقفون والباحثون لهم دور أصيل فى هذا التجديد بعيدًا عن التصورات المسبقة عن القطيعة بين المثقفين والمؤسسة الدينية.

توظيف الدين

أعتقد أن الدين عقيدة راسخة فى كيان الإنسان المصرى.. لا إكراه عليها، بمعنى أنه لا إجبار لأحد على قول أو فعل لا يريده عن طريق التخويف أو التعذيب أو ما يشبه ذلك.. فالإكراه على الدين لا يأتى بمؤمنين صادقين بقدر ما يأتى بمنافقين وكذابين ومدلسين. كما أن الأديان لا تتقاتل فيما بينها رغم الاختلاف العقيدى أو التشريعى أو الطقسى. والدين لا يذهب إلى ميادين القتال، غير أن معتنقى هذا الدين أو ذاك هم الذين يتقاتلون، طبقًا لمصالحهم الاجتماعية والسياسية والاقتصادية. وبالتالى، صارت للأديان فى العلاقات والنزاعات أدوار وتوظيفات يختلف حجمها ونوعياتها حسب كل مرحلة تاريخية.

الطرف الثانى

حرصت مجلة «روزاليوسف» فى غالبية معاركها الفكرية والثقافية والسياسية على وجود التنوع والاختلاف. ورغم أن مفهوم «الآخر» قد وجد ترويجًا على نطاق واسع بين الأكاديميين والكتاب والصحفيين.. غير أن المتتبع لكتاباتهم يجدها تكرس للمفهوم السلبى للآخر. ورغم ذلك الموقف الفكرى، ولكن مجلة «روزاليوسف».. اتفقت مع فكرة أن الحفاظ على العلاقات الإنسانية للحوار والتواصل.. يجب أن يتم فى صيغة «وجهًا لوجه» طبقًا لطرح للفيلسوف الفرنسى إيمانويل ليفيناس، لكى لا يحدث ابتلاع للأنا فى الطرف الثانى أو ذوبان الطرف الثانى فى ذاته، لأن علاقة «وجهًا لوجه» تحافظ على تلك المسافة المناسبة من الاحترام والتقدير بين الأنا والأطراف المختلفة، والتى تؤكد على أن الانفصال هو شرط التميز لى ولغيرى من المختلفين معى. وهى علاقة أخلاقية بهذا الشكل تتطلب حرية الذات لتوجهها نحو المسؤولية.

لم يتوافق التناول الفكرى للاختلاف والتنوع بأى شكل من الأشكال مع الكتابة والترويج لمفهوم «الآخر» فى إشارة للمختلف فكريًا وسياسيًا، وأيضًا دينيًا. ولذا طالبت على صفحات المجلة باستخدام مفهوم «الطرف الثانى» للدلالة على المشاركة والتفاعل الكامل فى مجتمع واحد ووطن واحد.. بدلًا من مصطلح «الآخر» الذى يُوحى بالفرقة لما يحمله واقع الآخر من دلالة تهدف إلى الاختزال فى شكل معين «إما مسيحى أو مسلم»، وفى إضافة تنزع إلى التعميم والتذويب «عربى وليس مصريًا»، وفى نسبة ترمى إلى الاستبعاد «على الأقلية أن تخضع للأغلبية.. إعمالًا لتطبيق مبدأ الديمقراطية»، وفى صلة تقود إلى a السلبى «لا يجوز تولى المواطن المصرى المسيحى أو المرأة المصرية رئاسة الجمهورية».

نقطة ومن أول السطر

تمسكت «روزاليوسف» عبر تاريخها بـ«العلمانية».. على مرجعية قاعدة أنها ليست ضد الدين، ولكنها ترتكز على الفصل بين ما هو دينى وما هو سياسى، وترفض التوظيف السياسى للدين لأنه ينتهى بالتشكيك فيه، وترفض استغلال الدين للسياسة حتى لا نصنع أصوليات دينية متطرفة.. فلا يزال فكر التكفير لمن يخالفنا منهجًا عند البعض، ولا يزال فكر المصادرة الفكرية توجهات عند البعض الآخر، بمن فيهم النخبة الفكرية والسياسية.

عند «روزاليوسف».. الدولة المدنية المصرية هى الحل.