.. وغدًا العدد 50000!
محمد توفيق
عارف يعنى إيه 5000 عدد من روزاليوسف؟!
ربما ترى أن قيمة هذا الرقم الكبير فى أنه لم يصل إليه سوى عدد قليل جدا- لا يتجاوز أصابع اليد الواحدة- من المجلات على مستوى الوطن العربى، لكن قد يرد عليك أحدهم ويقول إن الوصول إلى رقم معين مجرد رحلة طويلة من تراكم الخبرات، وتتابع الزمن على مكان ثابت لا يتحرك، وهذا الكلام قد يصح فعلًا مع بعض الإصدارات الصحفية؛ لكن مع روزاليوسف القصة مختلفة تمامًا.
فمن يتأمل تاريخ روزاليوسف يدرك قيمة هذا الرقم، ودلالته جيدًا، وربما تصيبه الدهشة من هوله، ليس لكثرة أصفاره ولا لضخامته، ولكن لأنه يآتى مقترنًا باسم «روزاليوسف»؛ فقد صنعت روزا مجدها من الحركة لا من الثبات.. من السير فى الطرق الوعرة، وفوق الرمال المتحركة، لا من السير على الأرض الممهدة والطرق الآمنة.
فقد اتخذت المجلة لنفسها خطًا مميَزًا.. وهو ألا تسير بجوار الجدران على هامش التاريخ.. بل تمشى فى وسط الشارع فى عز النهار بين سيارات تتسابق للوصول إلى خط النهاية.. ورغم ذلك لا تخشى الصدامات.. ولا تتراجع فى المعارك الفاصلة.. ولا تفكر فى السير فوق الرصيف.. حتى لا تدفع عمرها المهنى ثمنًا لسيرها وسط المخاطر.
بدأت رحلة روزاليوسف سنة 1925 كمغامرة من سيدة سبقت عصرها، وأرادت ألا تنافس أحدًا على القمة؛ بل صنعت لنفسها قمة تجلس عليها منفردة دون منافس.. وأقامت مدرسة جمعت فيها شخصيات يصعب أن تجتمع فى بناية أو شارع أو حتى مدينة، بل ربما يصعب أن تجتمع فى بلد واحد، وفى زمن واحد.
جمعت «روزا» الأصدقاء والفرقاء فاطمة اليوسف ومحمد التابعى، وإحسان عبدالقدوس وعباس العقاد، ومصطفى أمين ومحمد حسنين هيكل، وكامل الشناوى وأحمد رامى، وإبراهيم عبدالقادر المازنى ومحمود تيمور، وعبدالقادر حمزة ومحمود عزمى، وزكى طليمات وعبدالوارث عسر، وعبدالرحمن الشرقاوى وفتحى غانم وصلاح حافظ، وعادل حمودة.
وهذه الأسماء اللامعة ليست قائمة نهائية؛ بل استهلالية، مجرد ذكرها يضعك على أول الطريق، لرؤية تركيبة مهنية صعبة لن تجدها إلا فى «روزا» عبر رحلة ممتدة على مدار خمسة آلاف عدد.
رحلة طويلة وشاقة ليست بحسابات الزمن فحسب، وإنما من صعوبة الرحلة ومنحنياتها صعودًا وهبوطًا، فحين بدأت فاطمة اليوسف حلمها لم يتوقع أحد أن تستمر أكثر من 50 عددا، لكن بعض المتفائلين رأوا أنها من الممكن أن تصمد وتصل إلى 500 عدد، وهؤلاء كانوا أكثر المقربين منها تفاؤلًا.
فقد بدأت روزاليوسف كمجلة فنية تخاطب النخبة، وتنشر لوحات أهم فنانى العالم، لكن سرعان ما أدركت فاطمة أن تلك الخلطة لا تناسب ذائقة الجمهور المصرى، فغيرت فى المقادير بمساعدة محمد التابعى، ونجحت، لكن النجاح لم يحقق ما تصبو إليه، فقررت تغيير سياسة المجلة من فنية إلى سياسية، وذهبت إلى رئيس الوزراء زيور باشا لتحصل على الترخيص، ولم تخرج من مكتبه إلا والترخيص فى جيبها.
وبعد ثلاث سنوات من صدور المجلة دخلت روزاليوسف واحدة من أكثر معاركها شراسة مع محمد محمود باشا رئيس الحكومة بعد أن سخرت من قراراته بوقف الحياة النيابية ثلاث سنوات قابلة للتجديد، وإلغاء رخصة نحو مئة صحيفة، وتجريم اشتغال الموظفين بالسياسة، وتجريم مظاهرات الطلبة.
وأرسل وزير الداخلية إنذارا لـ«روزاليوسف»، وجاء فيه: «مجلة روزاليوسف ما زالت تسن بفاحش القول، ومُنكر الأقاصيص، والإمعان فى الكذب، والاختلاق سُنة مُزرية بشرف الصحافة، ومُفسدة للأخلاق».
وسخرت «روزاليوسف» من الإنذار، ونشرته المجلة فى صدر صفحتها الأولى، وبجواره مقال بعنوان: «سمعنا وأطعنا.. غفرانك ربنا وإليك المصير».
وجاء فى التفاصيل: «أليس من حقنا على وزارتنا المحبوبة، ومن حق الشعب على وزارته العزيزة أن تأمر الوزارة قلم مطبوعاتها أن يكتب للناس قائمة بأكاذيبنا حتى يفضح من أمرنا ما طالما سترناه».
وواصلت «روزاليوسف» هجومها على رئيس الوزراء، وتصدر الغلاف رسم كاريكاتيرى لـ«محمد محمود» باشا، وهو يضع قدمه على الدستور فى طريقه إلى مقعد الوزارة، ولكن هذا العدد لم يخرج من المطبعة إلا نسخ محدودة منه.
فقد حاصر البوليس المطبعة وصادر العدد، وذهبت «فاطمة» إلى بيت الأمة، ووجدت رئيس حزب الوفد «مصطفى النحاس» يجلس بصحبة «مكرم عبيد»، وبعض أعضاء الحزب، فقالت لهم بغضب: «يا باشا صادروا المجلة.. وأنا عاوزة الإفراج عنها»، ورد عليها النحاس: «اقعدى يا بنتى إيه اللى حصل؟».
وروت له القصة كلها، وقدمت له نسخة من العدد الذى تمت مصادرته، وهنا تدخل «مكرم عبيد» قائلًا: «لكِ الفخار يا سيدتى».
واستدعى «النحاس» عددا من المحامين الشباب، وكلفهم برفع دعوى مستعجلة ضد حكومة «محمد محمود» للإفراج عن العدد الذى تمت مصادرته من المجلة، ولكن الدعوى رُفضت.
فعادت «فاطمة» ورفعت دعوى أخرى، وطالبت بالتعويض المادى، فحكمت لها المحكمة بمائتى جنيه تعويض.
ولم تهدأ المعارك بين روزاليوسف ورؤساء الحكومات من العشرينيات حتى الأربعينيات، وكادت المجلة تغلق نهائيًا أكثر من مرة، وكلما توقفت المجلة أصدرت فاطمة اليوسف مجلة أخرى حتى يتم الإفراج عن روزا؛ فأصدرت مجلة «الرقيب»، وبعد أربعة أشهر صدر قرار من وزارة الداخلية بمصادرتها.
وبعد مصادرة «الرقيب» عادت روزاليوسف إلى الحياة مرة أخرى، ولكن الفرحة لم تكتمل فبعد عددين فقط تم تعطيلها مرة أخرى، وظن البعض أن «روزا» انتهت: لكن فاطمة قررت أن تصدر مجلة أخرى بنفس تصميم وتفاصيل «روزا»، وأطلقت عليها اسم «صدى الحق»؛ لكن الحكومة لم تسمح للعدد الأول بالظهور عند باعة الصحف.
ولم تيأس السيدة «فاطمة اليوسف» واستأجرت رخصة مجلة أخرى اسمها «الشرق الأدنى» واستمرت المجلة قرابة ثلاثة شهور فقط بعدها صدر القرار المنتظر والمعتاد بمصادرة المجلة، ثم عادت «روزا» من جديد تسيطر على السوق الصحفية، لكن كعادتها لم تدم العودة، وفى الرابع من أغسطس سنة 1930 صدر قرار من مجلس الوزراء بتعطيل مجلة «روزاليوسف» تعطيلا نهائيًا.
وأدرك الجميع أن قصة «روزاليوسف» انتهت إلى الأبد، ولا يمكن أن تعود بعد أن غلَقت أبوابها، وبدأت فاطمة تبحث عن البدائل، واتفقت مع التابعى أن يصدرا مجلة جديدة باسم «البرق»، وصدرت ونجحت واختفت فى شهر واحد.
وبعد ستة أيام فقط من مصادرة البرق، أصدرت «فاطمة» مجلة أطلقت عليها اسم «مصر الحرة»، ولم تستمر سوى أيام معدودات، وفى اليوم الأخير من شهر سبتمبر ظهرت مجلة اسمها «الربيع» تحمل اسم فاطمة اليوسف ومحمد التابعى، وكالعادة كان مصيرها المصادرة، لكنها حطمت الرقم القياسى للمجلات السابقة فقد تم مصادرتها فى نفس اليوم.
وفى السابع من أكتوبر أصدرا مجلة جديدة سميت «صدى الشرق»، وكتب «محمد التابعى» على غلافها كلمتين فقط هما:
- اللى اختشوا
وأسفل هاتين الكلمتين جملة تقول:
- «هذه المجلة تصدر بدلا من مجلة روزاليوسف.. عطلها بأه»!
ولم تخيب وزارة الداخلية ظن «التابعى» فتمت مصادرة المجلة، فقد كانت التعليمات واضحة أى مجلة تصدر بدلا من روزاليوسف لابد من مصادرتها فورًا دون النظر فى صفحاتها الداخلية.
ومع كل مصادرة لمجلة جديدة تخسر فاطمة اليوسف أموالا كثيرة، لذلك اضطرت أن تعرض سيارتها -التى اشترتها بالتقسيط- للبيع من أجل أن تحصل على المال اللازم لإصدار مجلة جديدة، وعندما علم صاحب محل السيارات السبب رفض أن يشتريها، وأصر أن تحتفظ بها، واتفق معها أن تدفع أقساط السيارة فى الوقت الذى يناسبها.
وانصرفت «فاطمة»، ومثلما لم تمل الرقابة من المصادرة، لم تمل فاطمة من إصدار الصحف الجديدة، وذهبت لتبحث عن رخصة مجلة تصدرها، وبالفعل عثرت على «الصرخة»، وقد حصلت على رخصتها مقابل 12 جنيها.
وصدرت مجلة «الصرخة» (التى جمعها وقدمها الكاتب الكبير رشاد كامل منذ سنوات) وظلت مستمرة لمدة عام كامل، واختفت «روزاليوسف» تمامًا، وظن الجميع أنها لن تعود مرة أخرى.
وفجأة قررت «فاطمة» إيقاف الصرخة -وقبل أن يفرح الرقيب وينزعج القراء- أعلنت عن عودة «مستر إكس» أقصد مجلة «روزاليوسف» التى لا تموت، وقالت فى افتتاحية الصرخة: (روزاليوسف لم تمت؛ لأن الحق قد يخفق صوته زمنا، ولكن هيهات أن يفنى؛ ولأن الحرية قد توأد تحت الحجر والحديد، ولكن هيهات أن تموت). وظن الجميع- وبعض الظن إثم- أن روزاليوسف عادت هادئة مطمئنة، ولم تعد تثير القلق، لكن سرعان ما عادت إلى قواعدها مزعجة للرقيب، فتمت مصادرتها، وذهبت السيدة «فاطمة اليوسف» إلى مكتب «إسماعيل صدقى» رئيس الوزراء، واحتجت على حصار البوليس للمطبعة.
وقابلها «صدقى» وتحدث معها بلطف، واحترام، وقال لها: «إننى سعيد بلقائك، وسأطلب من البوليس فورًا أن يفك الحصار عن المطبعة»، وبالفعل اتصل بمدير الأمن العام، وقال له: «فكوا الحصار فورا عن المطبعة التى تطبع مجلة روزاليوسف»، ثم سكت «صدقى» قليلا، وقال: «طبعا، هذا بعد أن تصادروا جميع النسخ التى تم طبعها»!
ومرت السنوات، وتغيرت الحكومات، لكن روزا لم تتغير.. فمثلما أزعجت محمد محمود وإسماعيل صدقى أزعجت أيضًا توفيق نسيم فأصدر قرارًا بمصادرة «روزاليوسف» لأنها رسمت صورته وهو يضع قدمه على الدستور؛ لكن حين جاءت الشرطة لمحاصرة المطبعة، خرجت مظاهرة تساند المجلة، فقامت «فاطمة اليوسف» بإلقاء المجلة على المتظاهرين.
وبعد أيام، أعلن حزب الوفد عن فصل السيدة «فاطمة اليوسف» من عضويته، ووصلت ديون «روزا» إلى 34 ألف جنيه، وصدر قرار بالحجز على ممتلكات فاطمة اليوسف، واعتقد البعض أنها نهاية مجلة مهمة.
لكن روزا بلا نهاية، فهى تاريخ من التجدد، والابتكار، والجرأة، ومحاولات كسر التوقع.. واليوم نحتفل بالعدد 5000 آلاف، وغدًا نحتفل بالعدد 50000!