السبت 27 أبريل 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري
رئيس مجلس الإدارة
هبة الله صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري
الحقيقة مبدأ.. ليلة الميعاد

الحقيقة مبدأ.. ليلة الميعاد

الكل ينتظر هذه الليلة التى تسكت فيها البنادق ولو قليلًا، ولا أحد يستطيع أن يحدد حجم هذا القليل أو مقدار السكوت! عشرات من الأسئلة التى لا تقل أهميتها عن أهمية السؤال المصيرى حول اليوم التالى للهدنة أو حتى سيناريوهات ما بعد الإيقاف الكامل لحرب الإبادة الصهيونية على الشعب الفلسطينى، لكن لعلنا الآن فى مرحلة وجوب التوقف أمام البعض من هذه الأسئلة.



 

لو كان الكيان الصهيونى يرى أنه قادر على تحقيق أهدافه من هذه الحرب، فلماذا لا يذهب إلى الهدنة إذًا؟ وماذا يضير الكيان المحتل إذا كان واثقًا من نفسه أن يذهب إلى هدنة بالشروط المطروحة؟

فمن ناحية أولى، سيتخلى ولو جزئيًا عن صداع أهالى الأسرى، بامتصاص هذا الغضب الذى يتحوّل إلى شرارةٍ بعد شرارة لاشتعال احتجاجات جديدة، كبيرة وعارمة، ليست الحكومة الصهيوينة بأزماتها الحالية المتلاحقة بحاجة لها، بل هى أقرب ما تكون إلى ضرورة إنهاء كلّ مفاعيلها التى باتت المصدر الأوّل والمباشرة لحالة الإرباك والارتباك التى تعيشها.

ومن ناحيةٍ ثانية، فإنّ الهدنة يمكن أن تسمح لإسرائيل بإعادة تنظيم قواتها على جبهتى قطاع غزّة مع المقاومة الفلسطينية، وجنوب لبنان، مع قوات «حزب الله» هناك، وهو أمر تحتاج له فى الواقع بعد كلّ ما شهدناه من انسحابات لألوية كاملة، وبعد كلّ الاستبدالات التى قامت بها هيئة الأركان الإسرائيلية فى محاولة لترميم الألوية التى تعرّضت لخسائر كبيرة جعلت من هياكل هذه الألوية أقلّ قدرة على الاستمرار بالقتال، بل أدّت إلى استبدالات لم تكن فى حسبان إسرائيل قبل الحرب البرّية، ولم تكن تتصوّر أصلًا أنّ بنى هذه الألوية ستتصدّع إلى درجة اعتبارها غير قادرة على الخدمة الفعّالة فى الحرب.

وأمّا من ناحية ثالثة، فإنّ إسرائيل من خلال هدنة كهذه تستطيع أن تهدئ من روع الإقليم كلّه، وتستطيع أن «تبيع» موافقتها على هذه الهدنة لـ«الغرب» باعتبارها «تنازلًا» كبيرًا، وتستطيع قبل كلّ ذلك أن تعطى لواشنطن فرصة أكبر وأوسع بكثير لترتيب أوراق جديدة نحو صياغة استراتيجيات جديدة تحتاجها واشنطن لمرحلة ما بعد الحرب، ومن أجل إعادة سيطرة الأخيرة على مفاتيح أكثر ثباتًا واستقرارًا فى معادلة مستقبل الإقليم.

ومن ناحية رابعة، فإنّ إسرائيل أحوج ما تكون إلى أىّ فرصةٍ لمحاولة ترميم صورتها التى وصلت إلى حضيض الكامل، وباتت هذه الصورة جزءًا من خساراتها الاستراتيجية فيها، وهى بالموافقة على هدنة كهذه يمكن أن تعيد تنظيم هجومها الإعلامى، وتركيز هذا الهجوم نحو اتجاهات جديدة من شأنها إخفاء الجرائم التى قامت بها حتى الآن، أو التخفيف من تفاعلات الاحتجاجات العالمية ضدّ سياساتها، وما تقوم به من حرب إبادة سافرة.

لكن وبالرغم من كلّ ذلك تحاول إسرائيل بكلّ السبل والوسائل عرقلة التوصل إلى هدنة كهذه، وهى تتلاعب بكلّ عناصر هذه الهدنة، وهى تسابق الزمن لإحداث أىّ اختراق، حتى ولو كان شكليًّا فى حالة المراوغة التى تعرفها جيّدًا، وباتت فى موضع الشكّ الكبير حتى من قبل الولايات المتحدة بأنّ ما يحدث هو حالة مراوحة ليست مؤقّتة من أى نوعٍ، أو على أىّ صعيدٍ، بقدر ما هى مراوحة محكومة بحقائق الميدان، تمامًا كما هى محكومة بعوامل إقليمية ليس أقلّها الانجرار إلى صراعٍ أكبر وأخطر بما لا يقاس على جبهة الجنوب اللبنانى، أو المغامرة بالدخول فى صدام مع الجيش المصرى!

لماذا تناور إسرائيل بالرغم من كلّ هذه «المكاسب» المحتملة، ولماذا تعمل بكلّ الطرق لتفادى هذه الصفقة؟

بل الأدهى من ذلك كلّه أنّها تقوم بعملية التفافية كبيرة من أجل ألّا يكون هناك أىّ آليات من شأنها أن تربط الهدنة بالمفاهيم المطروحة الآن وبين ما اصطلح على تسميته «المراحل القادمة»، الثانية والثالثة، وربّما أكثر، أيضًا.

أى أنّ إسرائيل كما تبدو الأمور حسب آخر الشروط التى تحدثت عنها وسائل الإعلام استطاعت أن «تفصل» ما بين الهدنة وما بين ما كان يسمّى «المراحل الأخرى»، ولم تتعهّد بأىّ وقف لإطلاق النار مع مقولة «إنهاء الحرب» أو حتى توقُّفها، وهو من حيث الشكل على الأقل ما كانت تطالب به، وما كانت ترفض رفضًا قاطعًا أن تتعهّد بأىّ شرطٍ أو مطلبٍ من شأنه أن يربط بينها.

أى أنّ إسرائيل ترى نفسها ماضية فى تحقيق ما تعلن عنه من أهداف، والهدنة المطروحة لا تلزمها بوقف الحرب بعد الهدنة، والهدنة تحقق لها نظريًا بعض المكتسبات التى ربما تكون بأمسّ الحاجة لها، ولكنها مع ذلك كلّه تماطل، وتراوغ، وتستمر فى وضع العراقيل واختراع الحجَج!

لماذا تفعل ذلك، ولماذا تناور هنا بالذات، وما الذى يدفعها إلى هذا السلوك؟

إذا أخذنا الأمور بالتحليل المنطقى فإنّ المراوغة الإسرائيلية لا يمكنها أن تنجح فى تفسير السلوك الإسرائيلى إلّا على قاعدة الاحتمالات الآتية:

الأول، أنّ إسرائيل لم تحقّق الكثير من الأهداف التى أعلنتها، والتى تستمرّ بالإعلان عنها، وأنّها فى الواقع ليست ماضية فى تحقيق هذه الأهداف، وأنّ كلّ ما تقوم به لا يعدو أن يكون مراوحة تتواصل منذ عدّة أشهر دون أىّ اختراق حقيقى واحد، ودون أىّ قدرة على الادعاء بوجود مثل هذا الاختراق.

فى هذه الحالة تصبح المناورة والمراوغة «مفهومة» لأنّها ما زالت تأمل بأن يحدث شىء ما يساعدها بالموافقة على الهدنة من موقع هذا الشىء.

وهنا يمكن أن يكون هذا الشىء هو اغتيال قيادات كبيرة من فصائل المقاومة فى غزّة، أو انهيارات واضحة فى قوى المقاومة فى مناطق معينة، إذا كان هذا الانهيار متعذّرًا فى أكثر من منطقة، أو الاستيلاء على مناطق معينة من شأنها أن تنتقل من هذه المناطق إلى مناطق جديدة نحو أنفاق كبيرة، أو حتى نحو العثور على بعض الأسرى الإسرائيليين فيها.

منطقيًا فإنّ ما يمكن أن يفسّر السلوك الإسرائيلى هو أنّ إسرائيل ليست قلقة من توسيع الحرب مع جبهة جنوب لبنان، بل هى تسعى إليها، بل وتأمل بتوريط الولايات المتحدة بها لأنّ الفشل فى تحقيق أهدافها على قطاع غزّة قد يؤدّى فى حالة توسيع الحرب إلى تحويل ذلك الفشل إلى مجرّد تفصيل فى خارطة الصراع الأكبر، وبالتالى يحوّل هذا الفشل فى القطاع من فشل خاص إلى دافع لترتيب وضع القطاع فى إطار أكبر وأشمل منه.

كذلك فإنّ السلوك الإسرائيلى المراوغ حيال الهدنة مرتبط وقبل كلّ شىءٍ بمخاوف نتنياهو وفريقه من لجان التحقيق، ومن الانتخابات المبكرة، ومن المحاسبة على كامل مرحلة ما قبل عملية «طوفان الأقصى» وأثناء هذه العملية، وطبعًا بعدها، أو بعد الإعلان عن نهايتها.

كلّ هذه الأسباب هى شديدة الارتباط فيما بينها، وهى فى الواقع بمثابة أسباب ونتائج لهذا الترابط بالذات، وفى جوهرها التعبير الأدقّ عن مرحلة المراوحة التى يعيشها جيش الاحتلال فى القطاع، وعلى جبهة جنوب لبنان أيضًا، وهى فى الواقع يمكن صياغتها بالجملة الآتية: «إسرائيل لا يمكنها أن تقبل الهزيمة أو التسليم بها، ولكنها ليس بإمكانها أن تربح الحرب، لا فى قطاع غزّة، ولا فى جنوب لبنان»، وهى «تفضّل» الإمعان فى حرب الإبادة والتشريد والتجويع لأنّ هذه الحرب لم تصل بعد إلى نقطة إجبارها على وقفها، لأنّ الولايات المتحدة هى بدورها لا تريد لهذه الحرب أن تتوقف قبل أن يكون بالإمكان الإعلان عن الانتصار الإسرائيلى فيها، أو قبل أن يكون بالإمكان الإعلان عن «إزالة» التهديد عنها.

ومن ثم يجب على حركة حماس أن تناور بدورها، وأن تعرف كيف تدير معركة التفاوض على الهدنة، من على قاعدة هذا الفهم الذى يتيح للحركة هامشًا واسعًا للمناورة بدورها، ولعل دور المفاوض أو الوسيط المصرى فى هذه الحالة يكون شديد الفاعلية نظرًا للخبرة الطويلة والواسعة من الصراع والحروب مع إسرائيل وإدارة المفاوضات بطبيعة الحال حتى بعد اتفاق السلام 1979. 

لكن من زاوية أخرى فإن التعنت غير المصحوب بالحيطة أو الحذر والذى تسير فيه أحيانًا حركة حماس هو ما قد يعرقل مسارات القاهرة لإيجاد حل للوضع الراهن والذى بات فى أصعب مراحله من البؤس الإنسانى الذى يعانى منه سكان قطاع غزة، وهو ما ينعكس أيضًا على سكان الضفة أو حركات المقاومة فيها التى لن تستطيع الاستمرار فى ضبط النفس حيال ما يحدث فى القطاع أو ما يحدث فى الضفة نفسها حتى وإن ظن البعض أن الأمن الوقائى الفلسطينى قادر على التحكم الكامل فى الأمور والحيلولة دون إخراجها عن السيطرة، أما على صعيد الداخل الإسرائيلى فإن جل الرأى العام يريد استكمال الحرب بسبب وهم النصر الذى وعدتهم به حكومة نتنياهو إضافة إلى دوافع الثأر الأعمى ومحو العار الذى لحق بهم بعد عملية طوفان الأقصى! 

تلعب مصر دورًا شديد الصعوبة فى إدارة هذه المباحثات بين طرفين تمتلكهم أشباح النصر الزائف، وكذلك فى محاولات مضنية لتحريك وجهة النظر الأمريكية بعيدًا عن الدعم الأعمى على إطلاقه للجانب الإسرائيلى، وهو ما سيتسبب فى أضرار حتمية للمصالح الأمريكية فى المنطقة وخارجها، الكل يبيت ويصحو منتظرًا ليلة الميعاد التى تعلن فيها هدنة تسمح لـ 2.5 مليون إنسان بقليل من النوم بين أستار الخيام.