الإثنين 29 أبريل 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري
رئيس مجلس الإدارة
هبة الله صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري

فيلم سودانى فى 12 دار عرض بمصر وداعـًا جوليا.. حينما ترتبط مصائر الشخصيات بمصير الوطن

قبل أيام بدأ عرض الفيلم السودانى «وداعا جوليا» فى القاهرة كأول عاصمة عربية يعرض فيها الفيلم بعد جولة كبيرة خاضها فى مهرجانات عالمية عديدة، بدأها بمهرجان كان الذى حصل من خلاله على جائزة الحرية، بالإضافة إلى إشادة واستحسان كبيرين على المستوى النقدى والجماهيرى، ليحصل بعدها على عدة جوائز دولية، وصل عددها إلى ثمانية بعد فوزه مؤخرا بجائزة (روجر إيبرت) ضمن فعاليات النسخة الـ59 من مهرجان شيكاغو السينمائى، بالإضافة إلى اختيار السودان له لتمثيلها فى الحفل الـ96 من جوائز الأوسكار للمنافسة على أفضل فيلم دولى لعام 2024.



لكن فى عرضه فى القاهرة فى هذا التوقيت بالتحديد دلالتان كبيرتان، إحداهما تتعلق بالنطاق الواسع الذى يعرض الفيلم من خلاله، حيث يعرض فى إثنى عشرة صالة عرض، كأول فيلم سودانى يحظى بهذا الانتشار فى السينمات المصرية، وهو ما يشير إلى المكانة الكبيرة التى حظيت بها السينما السودانية فى السنوات الأخيرة، وتحديدًا منذ عرض فيلم (ستموت فى العشرين) لـ«أمجد أبو العلاء» الذى صنع أرضية لما تلاه أصبحت الآن أكثر رحابة بفعل جيل من السينمائيين السودانيين أصحاب الفكر الجرىء والمختلف، والذين لا يتورعون عن مناقشة كل المسكوت عنه لسنوات طوال بمنتهى الإنصاف، والرغبة فى تطهير الجروح بشكل حقيقى علها تندمل يومًا ما، أما الدلالة الأخرى فتتعلق بالزمان، حيث بدأ «محمد كردفانى» تصوير فيلمه الروائى الأول قبل ثلاث سنوات فى أوقات عصيبة فى الخرطوم، واكبت انقلابًا عسكريًا، وحركات احتجاجية واسعة النطاق شكلت صعوبة بالغة أمام فريق الفيلم من أجل إتمام مهمته، ثم صادف خروجه للنور فى مهرجان «كان» السينمائى اندلاع حرب أليمة فى العاصمة السودانية، لاتزال السودان تعانى من ويلاتها حتى كتابة هذه السطور، واليوم يبدأ عرض الفيلم فى مصر، بينما يشهد العالم كله مأساة غزة التى تدمى القلوب، ليقدم الفيلم دليلاً عمليًا على كون السينما سلاحًا قويًا نقاوم من خلاله كل محاولات التزييف من خلال قدرتها على تحليل الأحداث، والبقاء شاهدًا على وقوعها.

وفى (وداعا جوليا) يبدأ المؤلف والمخرج «محمد كردفانى» قصته من عام 2005، وتحديدًا من اليوم الذى سقطت فيه مروحية زعيم الجبهة الشعبية لتحرير السودان «جون قرنق» وينهيها عام 2011 بعدما تم التصويت على انفصال الجنوب السودانى عن الشمال، وما بين هذين الحدثين السياسيين وقعت الكثير من الأحداث المأساوية التى تكشف عن الوجه القبيح للعنصرية والتهميش فى المجتمع السودانى اللذين أورثاه حربًا قاسية يعانى منها منذ سنوات.

وفى سياق تلك الأحداث الملتهبة تظهر سيدة تنتمى لشمال السودان تعمل كمطربة سابقة، وتعانى من تحكمات زوجها، لتتسبب فى مقتل رجل من الجنوب المضطهد، حيث قتله زوجها ظنًا منه أنه يحاول التهجم عليها، بينما هى من صدمت ابنه وفرت هاربة، وبسبب سوء الفهم هذا، والتسرع فى إطلاق الرصاصات من بندقية الزوج لشعور كامن بداخله بأن الجنوبى لا دية له تعيش هذه السيدة وهى تعانى من عذاب الضمير، وأمام حاجتها للتكفير عن ذنبها، تبحث عن أسرته حتى تلقاهم، فتقرر أن تتقرب من أرملته، وتدعوها لأن تعمل كخادمة فى منزلها، وتهتم لأمرها وأمر ابنها، فتنشأ صداقة عميقة بينهما، لتكتشف من خلال تلك السيدتين «منى» من شمال السودان والتى أدت دورها «إيمان يوسف» و«جوليا» من جنوبه والتى قدمتها «سيران رياك» أن مصيرهما يتماهى تمامًا مع مصير الوطن الذى دفع ثمن التشتت والانقسام ولا يزال.

وإذا كان البناء الدرامى المحكم والمتصاعد للفيلم يحسب لـ«كردفانى» كمؤلف قادم بقوة، فإن تفوقه فى التعبير بصريًا عن انحيازه للحرية يقدمه كمخرج سيصبح فى السنوات القادمة واحدًا من أهم المخرجين العرب، ولا سيما أنه قد أبدع فى استخدام الرمزيات المعبرة عن فكرته دون إفراط، أو تقعير، ومنها على سبيل المثال سقف منزل «منى» وزوجها «أكرم» الذى يعانى من شروخ تتساقط منها المياه، ومع ذلك اكتفى «أكرم» بوضع صحن لتجميع تلك القطرات دون التفكير فى إصلاح الشرخ الذى يشبه كثيرًا الشرخ الذى يعانى منه فى علاقته بزوجته، ويعانى منه السودان أيضًا من جراء الطبقية المذمومة، وكما تغافل «أكرم» الذى لعب دوره الفنان «نزار غوما» عن إصلاح السقف، تغافل المسئولون عن تفشى تلك الأفكار العنصرية بين أبناء الوطن الواحد، بل أضفوا عليها شرعية حينما نجا «أكرم» من تهمة القتل العمد، وقيدت الوفاة بسبب أعمال الشغب والمظاهرات.

بقى هنا أن نشيد بفريق عمل الفيلم من السودان، ومصر، وتونس، وجنوب أفريقيا الذين استطاعوا إنجاز هذا الفيلم فى تلك الظروف العصيبة، وبفريق الإنتاج الذى استطاع توفير الدعم لهذا الفيلم، وعلى رأسهم المخرج السودانى «أمجد أبوالعلاء».