الأربعاء 7 مايو 2025
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري
رئيس مجلس الإدارة
هبة الله صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري
مــن برديات مــدن الياسمين "الحلقة 3"

مــن برديات مــدن الياسمين "الحلقة 3"

المشاهد «الـخمسة والعشرون» لثورة «الثلاثون» 



 

القاهرة - يونيو 2013

 

أنا هى تلك البردية التى كَتَبها وش السعد عن ثورة الحضارة المصرية، فجْرَ الرابع من يوليو من عام ألفين وثلاثة عشر، يحكى فيها عن انتصار مصر، عن انتصار ثورة الثلاثين من يونيو، وكل أحداثها التى عاشها مع المصريين فى كل مصر، كل مدنِها وميادينها وشوارعها، كل قُرَاها ونجوعِها وحاراتها وأزقتِها، كَتَبها وسَجل أحداث الثورة ووقائعها بعدما طاف فوق مصر وجاب أرجاءها شمالا وجنوبًا، شرقا وغربًا، ورصدَ ما قام به المصريون، ودوّن هتافاتِهم، ورسم ملامحهم، وسمعَ نبض قلوبهم، وطبعَ فى ذاكرته معنى وشكل فرحتِهم وانتصارهم.  

أنا هى تلك البردية التى كَتَبها وش السعد فخورًا سعيدًا، ومرات كثيرة فى أيام الثورة سمِعتُه يهتف حماسًا مع المصريين، وشاهدته يصفق فرحًا معهم، ولمحت البهجةَ ساطعة فى عينيه، وسمعتُ نبض قلبِه يرقص على نغمات الأغانى الوطنية، مرات كثيرة شاهدتُ وش السعد يندس وسط زحام المظاهرات، تارةً فى القاهرة فى قلب ميدان التحرير، وتارةَ فى الإسكندرية فى ميدان سيدى جابر، تارةً على بوابات الاتحادية، وتارةً على كورنيش أسوان، تارةً على شاطئ بحر السويس، وتارةً أمام النادى الرياضى بالزقازيق، شاهدته يندس وسط المتظاهرين، يسير معهم ويهتف معهم، ويلوّح للطائرات الحربية فوق رؤوسهم يحيّى طياريها ويشارك المصريين صخبَهم وفرحتهم وتصفيرهم وزغاريدهم، أنا هى بردية الانتصار التى عاشت أيام الثلاثين من يونيو مع وش السعد جالسًا فوق السحابة التى يسكنها، يدوّن ويكتب ويحكى عما شاهده، وعما التقطته عيناه كَكَامِيرا فوتغرافية لمصورٍ محترِف، وعما التقطته أُذناه من هتافات وكلمات وصراخٍ وزغاريدَ وفرحة.

أنا بردية الانتصار التى أنهَى وش السعد كتابتَها بكلماتٍ من خطاب الفريق عبدالفتاح السيسى، وزير الدفاع وقتما خطبَ فى كل المصريين معلِنًا انحيازَ قواتِهم المسلحة لإرادتهم الوطنية، لحظتَها لمحتُ دموع الفرح فى عينَى وش السعد، وشاهدته يواريها مطلِقًا لملامح الفرحة والفخر على وجهِه سطوعَهما، وفى نهاية سطورى توقيع منه باسمِه وخاتمِه المَلَكى، وسرعان ما طوانى بكل الحب والفخر، وحمَلَنى بكل الحرص والاهتمام، وأودَعَنى بمنتهى العناية والسعادة فى خزانة الكنوز والنفائس، خزانة برديات انتصار مصر. أنا بردية الانتصار التى عرَفت ما كَتَبه وش السعد عن ثورة الحضارة المصرية، وما شاهَده فيها وعاصر أحداثه مع المصريين، وتركَنى وش السعد شاهدًا للمستقبل على تلك الثورة، وأوصانى أن أحكى للأبناء البررة من أهل مصر حكاية ثورتهم، حكاية انتصارهم. 

وها أنذا أنفّذ وصيتَه وأحكى لكم جميعًا ما كتبه وش السعد فخورًا بمصر والمصريين، فرِحًا بانتصارهم العظيم الذى كان واثقًا منه وينتظره بكل شوقٍ ولهفةٍ وثقةٍ ويقين، أن المصريين أبدًا لن يَتوانوا عن حماية مصر وقْتما يدق الخطر على بواباتِها، ويعتلى الأشرارُ أسوارَها، وأنهم، أى المصريين، سيقدّمون حياتهم راضين فخورين لإنقاذ مصر وحمايتها، والحق أنهم لم يخذلوه، ولم يخذلوا أنفسَهم ولا وطنَهم، وتركوا خلفَهم للوطن، ولهم جميعًا الفخرَ والخلود، تاريخًا عظيمًا ليفخروا به دائمًا وأبدًا.

أنا بردية الانتصار، وما ستقرأونه حالًا، هو ما دوّنه وش السعد على صفحاتى يحكى عما قدّمه المصريون لمصر، وقتما اشتد الظلام، وساد الظلم، وتصوّر الغزاةُ أنهم حصَلوا على مفاتيح الوطن وتمكّنوا من قلبِه، فإذا بالمصريين يغلِقون الأبواب فى وجوههم، ويطردونهم من جنة وطنِهم وأرضِه أيامَ ثورة الثلاثين من يونيو، وللأبد.

كتَبَ وش السعد.. 

دوّى صوتُه عاليًا قويًا، يُعطّل العمل بالدستور(1).. وانفجرت مصرُ وشعبها يصرخون فرحًا وسرورًا وابتهاجًا، بنصرهم الذى انتزعوه من عين الأسد وأنيابِه، وسَقطَ سَقطَ حُكم المرشِد، سَقط سَقط حُكم المرشِد.

وسَطعت الألعاب النارية فى السماء وتوهجت، يختلط صوت دويّها المرِح مع الزغاريد، مع الهتافات، مع الصفير، مع التصفيق، مع بكاء الفرحة، مع ابتهالات الشكر لله، لتعيش مصر فى تلك الليلة وتلك الساعة، بعد أيامٍ من القلق والتوتر والخوف والانتظار الكريه، وبعد عامٍ أسود من العار والغضب وبعد شهور من الفوضى والعبث والمؤامرات الشريرة، عاشت مصر مشهدًا تاريخيًا عظيمًا، ظن أشد المتفائلين إيمانًا ويقينًا بقوتِها وعظمتها، إنه لن يحدث، ولن يعيشوه إلا بعد سنواتٍ طويلة، وربما بعد عقودٍ كثيرة.

هذا آخر سطرٍ كتبته فى بردية الانتصار، واصفًا وساردًا فيها كل ما حدث فى تلك الأيام السعيدة، أيام ثورة الثلاثين من يونيو سنة ألفين وثلاث عشرة، هذا آخر سطرٍ كتبته، ووقّعت بعدَه باسمى إنهاءً للبردية وتوثيقًا للحظتها التاريخية. 

 «وش السعد» 

ومهرتُ البرديةَ بخاتمى المَلَكى العتيق، برهان وجودى فى تلك اللحظة الجليلة كمدوِّنٍ وشاهدٍ على التاريخ والحاضر وأحداثهما الماجدة، كشريكٍ للمصريين فى فرحتِهم وانتصارهم على أحفاد سِت إله الشر، وعلى هزيمتِه من جديد على أرض كيميت، أرض مصر، أرض الخلود والشموخ والمجد. 

يُعطّل العمل بالدستور.. هذا آخِر سطرٍ كتبته فى بردية الانتصار، التى وَصفتُ فيها وسجّلت، ووثقت ودوّنت ما شاهدته بنفسى، بعينى، بقلبى، بروحى، ما عشته مع المصريين لحظةً بلحظة، وأنا أجوب مصرَ وأرجاءها، محلّقًا فى سمائها الصافية الزاهية، وأقطع مدنَها وشوارعها، وحاراتِها ونجوعَها، وأُحلّق عليها وفيها من أقصى الشمال لأقصى الجنوب، ومن أقصى الشرق لأقصى الغرب، أعيش انتفاضتَها وغضبها، قوتَها وعزيمتها، بأسَها وإصرارها، شجاعتَها وحماسها، فى أيام ثورتها العظيمة، ثورة الحضارة والهوية، ثورة الثلاثين من يونيو سنة ألفين وثلاثة عشر، استردادًا للوجود والخلود، والبقاء والشموخ، وحماية التاريخ وأمجاده، وبناء المستقبل وطموحه، وتحرير الأرض الغالية من مؤامرات الدمار والمحو والهدم، وسموم الضياع والموت والفناء.

هذا آخِر سطرٍ كتبته فى بردية الانتصار التى سجّلت فيها تفاصيل ودقائق ما حدث، وقتما دقت الساعة، وأزفَ الميعاد، وحان المَخاض، وأذِنَ القدير بإذنِه وقوتِه، ونادَى المنادى بصوته القوى الشجاع لأهل مصر، حَى على مصر، حى على مصر، ففاح شذا عطر الياسمين أرجًا فى أرواح أهل مصر الطيبين وقلوبِهم الحنونة، وسرَى عبيره الخلاب فوق خريطة الأرض الغالية، وفى كل ربوعها وأرجائها، فى الشمال والجنوب، فى الشرق والغرب، فوق المدن والقرى، فوق النجوع والمراكز، فوق الميادين والشوارع والحارات، فوق ضفتَى النهر العظيم وشاطئَى البحريْن الكبيرين، فوق الوادى الخصب، والصحراء الثرية، فوق المبانى العريقة والبيوت الونسة، القصور الفخمة والعشش الصغيرة، العمارات العالية والأكواخ الصاخبة، الأحياء العتيقة القديمة، والتجمعات الجديدة الحديثة، فتجمّعت وتكاثرت سُحُب العزيمة والإرادة، والشجاعة والإقدام، سُحُب التضحية والإيثار، سُحُب التصميم والمقاومة فى سماء الخريطة، وانهمرت زهيرات الياسمين أمطارَ فرحةٍ ونصرٍ فى قلوب المصريين وأرواحهم، فكتبَ أهل كيميت، أهل مصر الأقوياء المقاتلون معًا، بدموعهم وفرحهم، وابتهالاتهم وهتافاتهم، وصراخهم وغنائهم، وقوتهم وحنانهم، كَتبوا صفحةً جديدة عظيمة من تاريخهم وتاريخ وطنهم، وكَتبتُ أنا بردية انتصارهم والتى شاركتهم فيها كل لحظاتِهم وأوقاتهم، لياليهم وأيامهم، صخبهم وفرحهم، وعظمة انتصارهم، ووهج ونَسهم، ودفئهم ووجودهم الجميل. 

فاحت رائحة الياسمين فوق أرض الوطن، فانتفضت مدن الياسمين تكتب صفحاتِ تاريخها وبردياتِ انتصارها، واستفاقت مِن كبوتِها الزائفة، وغفوتها الدعية، وصمتها الصابر، وتشبثتْ بالنهار والحياة، بالتحدى والمقاومة، بالخلود والشموخ، بالانتصار العظيم، اليومَ وغدًا ولآخر الزمان.

انتفضتْ مدن الياسمين تكتب بردياتِ انتصارها، وخرج أهلها، رجالا ونساء، أطفالا وكهولا، كبارًا وصغارًا، شبابًا وصبايا، خرجوا مِن وجومِهم، مِن صمتهم، من صبرهم، من جَلَدهم، من احتمالهم، من قنوطهم، من خوفهم، من غضبهم، وثاروا وتَظاهروا فى كل مكان فوق الخريطة الكبيرة، يحطّمون بعقيرتهم العفية وأصواتهم المدوية، وهتافاتهم العالية وإرادتهم الحازمة وشجاعتهم القوية، أمواجَ وأعاصير وعواصف المؤامرةِ الغبراء التى انتوت ببلادهم ومدنهم شرًا ومواتًا، وخططت لهم فناء ودمارًا، وسَعت لهم محوًا وتلاشيًا.

خرجَ أهل مدن الياسمين مقاتلين مقاومين، متحدين ثائرين، ملتقين ومجتمعين ومتكاتفين، على مبتغَى لا ولم يحيدوا عنه، ولن، مبتغَى وحلمٍ وهدفٍ ومُنَى، إنقاذًا لوجودهم، وحماية لحضارتهم، وتحريرًا لأرضهم من السم الزعاف والداء العضال الذى تخطط به لمحوهم وفنائهم وتدمير بلادهم.

وما بين السطر الأخير من بردية الانتصار، وما بين السطر الأول فيها، كانت رحلتى التى عشتها مع مصر والمصريين، وهُم يكتبون ميلادًا جديدًا، وخلودًا عظيمًا، وانتصارًا مبهِرًا، يسجلونه بقوةٍ وفخر على جدران معابدهم ونُصبِهم التذكارية، وحوائط الفخر والشرف، والمسلات الشامخة، وصفحات التاريخ، ما بين السطر الأخير والسطر الأول فى برديتى، كانت رحلتى القصيرة فى عمر مصر، مجردَ أربعة أيامٍ مِن ألف ألف ألف يوم، أربعة أيام غيّر المصريون فيها وجهَ التاريخ ومسارَه، وأعادوا معنى وشكل الحياة فى الأيام الأربعة لشكلِها ومعناها الذى يحبه المصريون ويفخرون به، ويأنسون إليها، وينتمون لها ويموتون بفرحِةٍ ورضا من أجلِها ودونَها.

فى ليلة الثلاثين من يونيو، حلّقتُ عاليًا فى السماء ووقفت فوق السحابة الأعلى التى تظلل على مصر منذ أول الزمان، وهناك فردت برديتى وصفحاتِها، وتجهزت بأقلامى وأحبارى لتسجيل دقائق كل ما سيحدث فى الأيام الخطيرة القادمة لحظةً بلحظة، واثقًا أن المصريين سيحققون انتصارَهم الساحق على أعداء حضارتهم؛ لأنهم حرّاسها وحراس كنوزِها ووجودِها، ولو لا يعرفون، ولو لا يدرِكون، واثقًا أنهم سيحققون انتصارَهم العظيم لأنهم له، وقادرون عليه، ولو لا يصدقون فى قوتِهم ولا بأسِهم.

وكان السطر الأول فى بردية الانتصار، حين احتشد ملايين المصريين فى كل الميادين والشوارع رافعين علَم مصر، يهتفون باسمِها ويستنهضون أبناءها، ويحتمون بأبطالِها ومحاربيها، سلاحهم الوحيد قلوبٌ تنبض بالوطنية والعزيمة، وعَلَمٌ خفّاق على ساريتِه فى أيديهم، وإرادةٌ حديدية صارمة لا تقوى جيوش الأرض على هزيمتها ولا كسرِها، مرحّبين بالموت إنْ كان ثمن الانتصار والفرحة، ومتشبّثين بالحياة والخلود لأنهما الهدف والأمل، يصرخون من أعماق قلوبهم، ارحل ارحل.

وتحولت عيناى الثاقبتان، لكاميرا فوتغرافية تلتقط الصورَ، وتسجل المَشاهد، وتحفظ وتخزن ما تراه، وتسجله بدقةٍ على أسطر البردية وصفحاتِها، تسجل المَشاهد بأصواتها وألوانها ومشاعرها، صورًا نابضة بالحياة والقوة، والإرادة الوطنية، والشجاعة والعطاء والتضحية.