الخميس 25 أبريل 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري
رئيس مجلس الإدارة
هبة الله صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري
 المتعاظمون

المتعاظمون

فى خضم بحثنا فى دهاليز النفس الإنسانية الملغزة تصدينا بالدراسة والتحليل النفسى الموجز لبعض الأنماط البشرية الشائعة فى حياتنا «كالمشهلاتية» و«المتطفلون» و«الفهلويون» و«المعجبانيون» ونعرج هذا الأسبوع إلى إلقاء الضوء على شخصية «المتعاظمون» وقد استوقفتنى عبارة جاءت على لسان «فردريك نيتشة» الذى يعد أحد أهم الفلاسفة فى تاريخ الفكر الإنسانى؛ حيث يقول عن نفسه «لست من أولئك الذين يعيشون ويموتون دون أن يتركوا شهادة أو أثرًا على مرورهم فوق هذه الأرض.. هناك تفاوت هائل بين عظمة أفكارى العميقة الفذة والإمكانيات العقلية المحدودة للصغار المعاصرين لى.. أنا أعيش فقط على الرصيد الذى أوليه لنفسى.. على إيمانى الكبير بذاتى»؛ وهى عبارات تعكس بارانويا جنون العظمة الذى جعله يتحدث دائمًا عن عبقريته وتفرده كفيلسوف عظيم الشأن ليس له مثيل.. ويبرز الأستاذ «مجدى كامل» مؤلف كتاب «شيطان الفلسفة الأكبر» أسباب ذلك الشطط والجموح الذى انتهى به إلى مصحة عقلية.. إنه لم يعرف الشهرة فى حياته على عكس ما نظن.. فكتاب الدرجة الثانية كانوا معروفين ويحظون بالتكريم بينما كان هو مغمورًا تمامًا.



والبارانويا أو هذاء العظمة هى حالة مرضية ذهانية يعتقد المريض بموجبها أنه شخص عبقرى وأذكى من أى مخلوق فى العالم.. وقد يتصور أنه نبى من الأنبياء.. ولديه قوة خارقة أو سحرية لتغيير العالم.. وترضى هذه الهذاءات بشكلها الفاضح الشعور بالنقص لدى المريض.. وجنون العظمة هو الذى حدا بـ«نيتشه» إلى التطرف فى كتاباته التى يحتقر فيها الشعب ويصفه بالقطيع بينما يمجد الارستقراطية والنخبة ويؤكد أن الهدف من الحياة الإنسانية كلها؛ ظهور «السوبر مان» – الإنسان الأعلى– أنبل النبلاء الذى لا يظهر إلا من الخاصة وبالتالى فإن كل دعوة إلى المساواة هى دعوة ظالمة تحط من شأن العظماء.. و«نيتشه» يشك فى كل العقائد التى مرت على البشرية إلى درجة تأكيده أن التدين المسيحى التقليدى قد انتهى فى أوروبا بعد انتصار العلم والفلسفة والوضعية فى القرن التاسع عشر.. أى فى عصر «نيتشه» نفسه.

«جنون العظمة» ذلك هو الذى أدى إلى أن يحاول «هتلر» بكل الطرق السطو على شهرة «نيتشه» بعد موته.. فزار بيته.. وانحنى أمام صورته وأهدته أخته عصاه التى كان يستخدمها فى نزهاته.. واستلهم اتجاهه إلى النزعة النخبوية وتركيزه على الأقوياء والأصحاء وكرهه للضعفاء والمرضى.. حيث إن «نيتشه» لم يكن يتردد فى فلسفته عن التضحية بملايين البشر إذا لم يكونوا أصحاء وأقوياء.. وهذا ما فعله «هتلر» تمامًا.. الإعلاء من إرادة القوة.. وإعلاء السادة فى مواجهة العبيد المستضعفين وإذا كان «نيتشه» هو أحد أنبياء النازية فإن «هتلر» هو القائد الملهم.. سيد الأسياد.. خلاصة الخلاصة.. كلامه مقدس وأفكاره وحى من السماء.. لكن لأن الإنسان حيوان يقينى وحيد وبحاجة إلى اعتقاد معين أو إيمان راسخ يعصمه من الضياع والجنون فهو بالتالى لا بد أن يشعر بالاطمئنان والثقة دون أن يتحول ذلك الإيمان الراسخ إلى نوع من التعصب المذهبى والتطرف الدينى.. ولكن للأسف الشديد هذا ما يحدث غالبًا.. وخير دليل على ذلك حالة الأصوليين أصحاب اليقين المطلق الذين لا يقبلون الاختلاف فى الرأى ولا يعترفون بالديمقراطية.. ويكفرون الآخر ويحلون دمه.

تطرف «نيتشه» وغرق فى العدمية والتشاؤم فصار وحيدًا بلا أصدقاء.. ولم يتزوج.. وفى كل مرة كان يتقرب إلى امرأة كانت ترفضه.. ووصل إلى مرحلة أعلن فيها حربًا شعواء على كل البشر.. وكل الأفكار.. فاقدًا الحد الأدنى للتكيف مع الناس.. ونسى كيف يصبح إنسانًا.. وعبر عن ذلك فى رسالته إلى أخته قبل أن يفقد عقله تمامًا مرددًا: «إنى أشتاق إلى الكائنات البشرية وأبحث عنهم.. ولكنى دائمًا لا أجد غير نفسى.. الآن لم يعد أحد يحبنى.. فكيف أحب الحياة؟!».