الطريق الثالث.. حصاد ماراثون الأيام الستة التى أنعشت الحياة السياسية: 24 جلسة نقاشية وأكثر من 78 ساعة حوار منصة «الحوار الوطنى» تؤسس «ديمقراطية أثينية» وتحشد فرقاء «30 يونيو»
منذ انطلاق فعالياته فى الثالث من مايو الجارى، ثم ما تلاها على مدار أسبوعين من جلسات (ماراثونية) مشتعلة بالحماس والأفكار الطازجة، استحوذ «الحوار الوطنى» على عقول المصريين، وبات ما يجرى فى جلساته يستحق منهم المتابعة والاهتمام والتدبر، فلقد جددت المناقشات (الساخنة) التى جرت خلال 6 أيام من عمر الحوار ثقة الجمهور فى قدرات «النخبة» ووطنيتها وتطلعها إلى التطور، كما أثمرت الجلسات عن طرح رؤى مغايرة أسهمت فى بناء «مساحات مشتركة» تحت لواء الوطن داخل قاعتى مركز المؤتمرات بمدينة نصر، وعبر ثلاثة مسارات (سياسى واقتصادى ومجتمعى) تفرعت إلى أجندة منوعة من التحديات التى تصطف على طريق «الجمهورية الجديدة»، والتى فرضت نفسها على الخبراء من مجلس أمناء الحوار الوطنى، وأمست محاور النقاش فى جلسات الحدث الأبرز فى تاريخ مصر منذ قيام ثورة 30 يونيو عام 2013، والذى يعول عليه فى تأسيس «عقد اجتماعى» جديد يمثل نواة حقيقية لنظام سياسى متين.
السياسة فى المقدمة
ولأن دعوة القيادة السياسية قبل عام للحوار كان هدفها الأبرز هو «الإصلاح السياسى»، كما أن المعارضة المصرية بكل أطيافها اجتمعت على أن إصلاحا حقيقيا يطال المشهد السياسى سيعود بالتأثير الإيجابى على سائر تحديات الوطن فى مختلف المجالات، لهذا ازدحمت جلسات المحور السياسى خلال الأسبوعين بالحضور من مختلف التيارات الحزبية والقوى الوطنية، وكان الموضوعان الأكثر سخونة بين خمسة موضوعات تم طرحها، هما: قانون مجلس النواب، والأحزب السياسية، وقد أسعدنى الحظ فى حضور أربع جلسات ناقشت الموضوعين، شهدت مبارزات حوارية فاعلة ومنافسة حزبية واضحة.
وقد حرصت أحزاب «الحركة المدنية» أبرز فصائل المعارضة المصرية على الحضور المكثف فى جلسات المحور السياسى المختلفة، وكان ظهورها بارزا فى الموضوعين السابقين وشارك نفر من أعضائها فى إدارة الجلسات، مما أعطى للنقاش سخونة وحيوية أثرت بشكل إيجابى على جاذبية الجلسات، كما منحتها براعة المنسق العام للحوار الوطنى الدكتور ضياء رشوان حصانة مانعة لأى انفلات أو تجاوز عن النظام الذى أقرته «أمانة الحوار» لضمان خروج الجلسات بالشكل اللائق.
نسبية أم مطلقة!
بعد نقاش استمر لأكثر من 6 ساعات فى جلستين فصل بينهما ساعة من الراحة، انتهى الحوار ولم نصل إلى رد قاطع أو إجابة شافية على السؤال الذى كان يطاردنا خلال هذه الساعات الست، ما هو الأفضل للنظام السياسى المصرى، وما النظام الذى يضمن برلمانا قويا يقود قاطرة التنمية السياسية فى الجمهورية الجديدة، هل هى الانتخابات بالقائمة المطلقة أم النسبية؟
كان هذا هو موضوع نقاش الجلستين الأولى والثانية وعنوانهما «النظام الانتخابى فى ظل الضوابط الدستورية - قانون مجلس النواب»، وهو أحد موضوعات أجندة لجنة «مباشرة الحقوق السياسية والتمثيل النيابى». راجعت ما قاله السادة الحضور الأفاضل من ممثلى القوى السياسية المختلفة ومن خبراء وأساتذة، والذين تمحور خلافهم بين المطلق والنسبى، وتصاعدت حدة الحوار أكثر من مرة وقبل أن ينفلت الأمر كان الانضباط يعود مجددا، وهو ما أثرى النقاش وجعله حقيقيا.. وصادقا.
وأدركت بعد تفكير، أن طريق الاجابة على السؤال الصعب (نسبية أم مطلقة؟) يكمن فى مغزى هذه المنصة الحوارية، التى أظنها الأكثر ديمقراطية وحرية وتنوعًا فى تاريخ مصر الحديث، منصة «الحوار الوطنى»، التى تدير بجسارة حوارًا فكريًا يثرى، واختلافًا إيجابيًا يبنى، جمعت فى جسارة كل أطياف الفكر السياسى المصرى المعاصر.
تحالف 30 يونيو
هذه المنصة الوطنية الرشيدة التى أتاحت لكل المصريين المشاركة بآرائهم وأفكارهم فى قضايا الوطن المختلفة، ولتنسيق ما تم جمعه من حصاد جماهيرى، يتم اختيار أعضاء أمانتها بالتكليف الوطنى والتوافق وعبر آليات يعلمها القاصى والدانى، ثم يجرى ترشيح من حضروا جلساتها بالتراضى الحزبى وبإتاحة كاملة لكل الراغبين، كما كان هناك قناعة تامة بضرورة التمثيل الحقيقى للمعارضة بكل فرقها وتياراتها، فاحتشد حقًا فى قاعتى النقاش ومنذ اليوم الأول من جلسات الحوار من أسماهم المنسق العام للحوار الوطنى:
«تحالف 30 يونيو»، وهو استدعاء بليغ من رجل اختمرت تجربته الوطنية ويدرك ضرورات المرحلة وأهميتها التاريخية.
إن هذه المنصة تمثل برلمانا حقيقيا لمصر، برلمان اجتمع تطوعا وطوعا وتلبية لنداء الوطن، لم يتم اختياره بالمطلقة أو النسبية، برلمان لا يحتمل البقاء داخل جلساته إلا من يعنيه الأمر ويهتم بموضوع النقاش، ولا يتطوع فيه بالكلام (المحدد الوقت) إلا من يملك الحجة والرأى، ولا يتقدم بمشروع إلا متخصص فى الموضوع، فكان أشبه ببرلمانات الإغريق العريقة التى أسست «حكم الشعب بالشعب».. ديمقراطية أثينا الفاضلة وجمهوريتها الأفلاطونية التى لا تزال قبلة أهل السياسة فى كل زمان.
وعقب ختام مناقشات جلستى (قانون مجلس النواب) أدركت حقيقة مهمة، رددها بجوارى أحد الساسة الكبار وشاركه الرأى آخرون: لن يفرقنا «نظام انتخابى» بعد أن جمعنا برلمان الحوار الوطنى، وخلصت أيضًا إلى أنه سيكون مفيدًا أن نجرب القائمة النسبية فى جزء من الانتخابات القادمة، لأنها ستمنح قدرا من الحراك السياسى للمشهد المتكلس، مع دراسة إمكانية جمعها مع النظام الفردى والقائمة المطلقة، بشرط أن يسبق ذلك إصلاح حزبى حقيقى وقانون عصرى للأحزاب، وهذا سينقلنا إلى الأسبوع الثانى من الحوار.
الأحزاب السياسية إلى أين؟
اتفقت آراء كثيرين ممن حضروا جلستى «الأحزاب السياسية» فى ثانى أيام المحور السياسى فى أسبوعه الثانى، على أمرين هما: الحاجة إلى إعادة النظر فى أمر قانون الأحزاب (القانون 40 لسنة 1977)، وضرورة وجود مفوضية لشئون الأحزاب تنظم العلاقة بين الأحزاب وتراقب عملها فى إطار من الحوكمة الإدارية والمالية، وهذا ما بلوره الدكتور على الدين هلال مقرر المحور السياسى، وشاركه الرأى المنسق العام الدكتور ضياء رشوان، بينما وضح أن هناك خلافًا فكريا بين مقرر اللجنة النائب إيهاب الطماوى ومساعده خالد داود، وقد أثر هذا الخلاف على حسن إدارتهما للجلسة، وقبل انتهاء الجلسة بعد كثير من التعقيبات من كليهما، اضطررت للاعتذار عن عدم مشاركتى فيها كمتحدث وسجلت ذلك اعتراضًا على سوء إدارتهما، وإن كان هذا لا يمنعنى من الإشادة بمشاركات متميزة من أغلب التيارات والأحزاب السياسية التى طرحت أفكارا مهمة فى هذا الموضوع.
إن طريق الإصلاح السياسى فى مصر يجب أن يبدأ بأهل السياسة أنفسهم، على أن يتم ذلك عبر وسائل عصرية وأكاديميات علمية تقوم بتأهيلهم، لتطوير الحياة السياسية وتصحيح مسارها، فلقد أمست الحياة الحزبية «جلدًا على عضم»، وصار مجالها طاردًا للكفاءات ومنفرًا للمواهب وأصحاب الأحلام النقية، ورغم العدد الكبير من الأحزاب، إلا أنه صخب بلا تأثير حقيقى فى الشارع المصرى، وبقاء الوضع داخل الأحزاب على ما هو عليه يجعل حديثنا عن الإصلاح السياسى سرابًا.
وأخيرًا..
كان الحوار فى مجمله نزيها فى جلسات المحور السياسى (والمحاور الأخرى)، لا يسعى إلى تدجين المجتمعين تحت راية «التوافق» المضغوط بظروف راهنة (محلية وإقليمية ودولية) معقدة كانت كفيلة بتكميم الأفواه لا بتحريرها، لكن القائد الملهم الرئيس عبدالفتاح السيسى، قرر إصلاحًا فى لحظة فارقة، وارتضى حوارا حرا دعم فيه الاختلاف الذى لا يفسد للوطن قضية، فدعا ولبى عشاق الوطن نداءه، واجتمعوا تحت راية المستقبل فكانت منصة «الحوار الوطنى» حجر الزاوية وأبرز خطوات الطريق نحو الجمهورية الجديدة سياسيًا، التى يجب أن تؤسس على ثوابت ديمقرايطة راسخة تتمثل فى مبدأ تداول السلطة استنادا لانتخابات حرة ونزيهة، وتحقيق التوازن بين السلطات، وضمان استقلال القضاء وتنفيذ أحكامه، ودعم حرية التعبير، وتبنى التشريعات التى تترجم مبدأ المواطنة إلى واقع عملى فى المجالات المختلفة، مع تقوية دور المجالس النيابية وزيادة دورها الرقابى.