السبت 20 أبريل 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري
رئيس مجلس الإدارة
هبة الله صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري
كدهوّن! وعجبى عليك يا جاهين "1"

كدهوّن! وعجبى عليك يا جاهين "1"

لا أدرى السبب الحقيقى الذى جعلنى فى طفولتى أتخيل مصر بملامح صلاح جاهين على عكس السائد دائما فى وجدان المصريين أن مصر سيدة وأنها أم الدنيا وعمرها ما كانت راجل حتى صلاح جاهين ذات نفسه يرسمها فى الكاريكاتير فى ثوب امرأة وكدهون شاهدته لأول مرة فى برنامج أتوجراف الذى كان يقدمه الإعلامى الراحل طارق حبيب جذبنى حديثه وربما وجدت كطفل فى ملامح صلاح جاهين الطيبة التى يشوبها شىء من الحزن النبيل حضنًا يشبه حضن الوطن أو على الأقل حضن الأجداد لا أعلم حتى يومنا هذا لماذا كان بداخلى هذه القناعة ولكن هناك شىء بنظراته تشبه مصر المعجونة بالفن والإبداع اللا محدود .



 

ربما الروح الساخرة التى تسكنه هى نفسها تلك الروح التى تشكل الشخصية المصرية التى تجيد تحول المأساة لملهاه وتحتزن حزنها فى نكتة وتضحك من قلبها ولكنه ضحك أقرب للبكاء هكذا كنت أرى كاريكاتير صلاح جاهين فى جريدة الأهرام كل يوم يحمل جرعة من السخرية اللاذعة تفتخر عينى على مشكلات لم أكن أدركها فى ذلك الوقت أكثر من كونها تضحكنى كما بيضحكنى كاريكاتير مصطفى حسين وأحمد رجب ولكن كنت بحترم سخريته من الأزمات والمشاكل وكدهون ارتبطت بأعمال صلاح جاهين قبل أن أدرك معنى الأشياء وجدتنى أردد فى سعادة المقدمة والنهاية لفوازير نيللى الخاطبة دون أن أهتم فى تلك المرحلة من طفولتى باسم المؤلف ولكنها كلمات بسيطة وعميقة فى نفس الوقت يمزج بين الفصحى والعامية بسلاسة وشقاوة تتناغم مع نيللى وسعاد حسنى وتمتلك مفرداته التى تميز لغته الشعرية الخاصة جدا والتى تجعلك تبحث فى أصل الأشياء كطبيعة عمل الخاطبة بتاعة أهل زمان ولماذا انقرضت المهنة؟ وما معنى الجراب اللى دائما مليان؟؟ وهكذا تبدأ مقدمة فوازير الخاطبة.. -(الخاطبة بتاعة أهل زمان.. اللى جرابها دايمًا مليان.. بصور فتيات، وصور فتيان، غرُبا وبتخليهم قُرَبا، … قربا).

وكدهون كنت كطفل صغير أنبهر بتلك المفردات الفريدة والتى أسمعها لأول مرة رغم سهولتها وبساطتها والتى تجعلنى أرددها بسهولة ويسر والاهم أنها تجعل نيللى ترقص برشاقة وهى تغنيها رغم أنها تحتوى على كلمات يصعب تقديمها فى استعراض راقص مثل فتيان وفتيات وغربا وقربا وكدهون ويواصل ابهارى بتلك الجمل المنغمة التى تقولها نيللى مع الرسوم المتحركة والتى تمثل العروسة وعائلتها حسب الله وبنته فلة (العروسة) ، وأمها (ماشاء الله): - حسب الله يصر بجملته المشهورة:- الجوازة دى مش لازم تتم فترد العروسة باكية بحبك يا بابا فتسرع الخاطبة كما هو المعتاد فى الواقع تطيب خاطرها فى كل مرة تفشل الجوازة فتقول لها (معلهشي.. معلهشى إيه يعنى ما عرفتهشي.. حانزل أجيبلك سيد سيده..  فستانى ما تشديهوش» وكدهون سيد سيده ده مصطلح مصرى صميم ولا سيدة مصرية لم تذكره فى خانقتها ولكن صلاح جاهين استطاع أن يضمك لشعره المغنى بمنتهى المرونة والجمال وكدهون تستمر رحلتى فى عالم صلاح جاهين دون أن أدركه مباشرة من خلال أوبريت الليلة الكبيرة ومسرح العرائس وكأنى ذاهب بالفعل إلى أحد الموالد الشعبية فى الحسين أو السيدة زينب بوصف دقيق لما يحدث هناك ورسم دقيق لزوار المولد وراقصاته ومنشديه ومتخرشينه حتى الطفل الذى ضاع من أمه وسط الزحام أكاد أن أسمع صوت قلبها يهتف: ياولاد الحلال بنت تايهه طول كده فى رجليها الشمال وخلخال شكل ده وكدهون أعود مرة أخرى لعالم جاهين فى مراهقتى من خلال إذاعة الشرق الوسط وصوت إيناس جوهر يردد يوميا فى مقدمة برنامجها الشهير (تسالى) غمض عنيك وامشى بخفة ودلع دى الدنيا هى الشابة وأنت الجدع تشوف رشاقة خطوتك تعجبك لكن أنت لو بصيت لفوق تقع.. عجبى ودى فعلا كان أول مرة أسمع فيها عن الرباعيات وعجبى وكما كنت أستمع لمقدمة ونهاية الفوازير يوميا تكرر الأمر مع برنامج تسالى أنتظره فى الميعاد كى أسمع إحدى رباعيات صلاح جاهين دون أن أعرف أنى دائم الانبهار بإبداعه السهل الممتنع فأتخيل الصورة المجسدة فى الرباعية وأحاول أن ابص على خطواتى ثم أرفع رأسى لفوق وأحاول المشى دون أن أسقط أو أقع كما تحذرنى إيناس جوهر ومع الوقت تجاوزت تلك الجزئية وانصب اهتمامى على الدنيا ذات نفسها إللى هى الشابة وأنت الجدع وتملكنى الإحساس بقوة الشباب وثقة بقدرتى على أن أجعل الدنيا تحبنى فى يوم من الأيام لأنى أنا الجدع كما تقول الأسطورة وهى الشابة الجميلة التى تغوينى ودارت الأيام سريعا لم تنجح فى أن أجعلها تحبنى كما أحببتها وعجبى وكدهون جاءت المرحلة الخطيرة فى علاقتى بصلاح جاهين عندما امتزج إبداعه بموهبة سعاد حسنى الاستثنائية فقدما معا عصرا من البهجة والسعادة رغم أنهما أقرب لزهر البنفسج يبهج رغم أنه زهر حزين ولهذا جمعتهما علاقة استثنائية فى الفن والحياة والاكتئاب أيضا رغم إبداعهما لزوزو النوزو كونوزوا اسمع غناها وافهم لغاها دى زوزو دى كلامها نعوزوا سلام لزوزو يا جدع وكدهون يمزج صلاح جاهين مفردات من حياتنا اليومية بشعر موزون يسهل غناؤه فتوجهت زوزو كما لم يرها الجمهور من قبل رغم نجاحها الكبير منذ اللحظة الأولى لظهورها على الشاشة الفضية وعشق الجمهور لسحرها الفريد وجمالها إلا أنها وجدت ضالتها بين يدى صلاح جاهين الذى نجح أن يخرج من داخلها شخصية زوزو التى ارتبطت بها حتى على المستوى الشخصى حتى أنها تركت رسالة على جهاز الأنسر ماشين الخاص بها (جهاز تسجيل المالكات فى ذلك الوقت) تقول أنا زوزو النوزو كونوزا وكأنها وجدت نفسها أو ما كانت تحلم به لنفسها فى شخصية زينب عبدالكريم الشهيرة بزوزو التى أبدعها صلاح جاهين تلك الفتاة الجميلة القوية المتفوقة علميا واجتماعيا رغم تمزقها بين ازدواجية بغيضة يفرضها علينا المجتمع الشرقى فنضطر نخفى جزءًا كبيرًا من شخصيتنا حتى نظل نحتفظ باحترام المجتمع وقبوله لنا كشخصيات ممزقة بين الواقع والحقيقة وكما وصفها الكاتب إحسان عبدالقدوس فى إحدى رواياته بأن تلك الشخصية لا تكذب ولكنها تتجمل طلما المجتمع يسمح بالزيف وبتعالى على الحقيقة وهكذا وجدت نفسها سعاد حسنى تنطلق بلاحدود ترقص وتغنى وتمثل وتحرك حواجبها وهى تغمز ياواد يا تقيل فتهتز قلوب المصريين فرحا وبهجة بتلك الجرعة المنعشة من الفن والشقاوة وخفة الظل غير معتادة فى الأغنية المصرية جعلت سعاد حسنى تردد مفردات صلاح جاهين المقتبسة من الشارع المصرى كأى بنت مصرية أصيلة فتصرخ فى خفة وجراءة؛ ما تقولشى أمين شرطة اسمالله ولا ودبلوماسى..

وكدهون لم يستسلم صلاح جاهين لتلك الحالة المرحة للفيلم دون أن يشرح المجتمع المصرى بمنتهى الدقة كجراح ماهر يرصد تسرب التطرف الدينى فى ذلك الوقت داخل الجامعة المصرية ومدى مقاومته لأى تطور أو تقدم للمجتمع المصرى ومحاولته الدايمة للسيطرة على عقول الشباب وقهر أى طموح للمرأة بشكل خاص متجسدا فى انتهاك خصوصية زوزو التى تقرر المواجهة مع كل تيارات المجتمع الرجعية فى حوار صادم رغم بساطتك إلا أنه يدين المجتمع كله الذى يعانى من الازدواجية فى تقيم الأشياء ويقتل مواهب شابة تريد أن تغير الواقع المتخلف وتقفذ للمستقبل.

فيأتى الحوار فى المشهد الأخير من الفيلم يشخص بقوة وحسم ما يعانيه المجتمع المصرى من شيزوفرينيا. فتقول زوزو فى قلب الجامعة: زوزو شايلة وصمة أمها نعيمة الماظية وأمها شايلة وصمة الشارع إلى جاية منه والشارع المسكين شايل وصمة زمن راح وانقضى زمن متخلف هى دى تهمة زوزو وهنا يصرخ الطالب المتطرف دينيا ويقول لزوزو كيف يتحمل إنسان ذنب مالوش يد فيه؟ فترد عليه بيقين وثبات لا ذنبها أن خافت من اضطهاد المجتمع فكانت هى إللى بتضطهد نفسها وقررت تخفى حقيقتها عنه زوزو الفتاة المثالية تضطهد زوزو الماظية فتهمس إحدى الطالبات شيزوفرينيا فترد زوزو: أيوه كلنا مصابين بالشوزوفرنيت وهنا يعود الطالب المتطرف للصراخ إيه هو إحنا ولاد نعيمة الماظية فترد زوزو بثبات انفعالى ويقين: أيوه كلنا ولاد نعيمة الماظية أولاد البيئة إللى الدنيا اتقدمت وسابتها وراها وكل ما نعافر علشان نقوم تتقل علينا الحمول ونبقى مش عارفين نكره نفسنا ولا نكره العالم علشان كده لازم كل واحد مايبصش وراه ويشوف مستقبله رايح على فين، وكدهون نجح الفيلم نجاحًا أسطوريًا وتوجت سعاد حسنى ملكة على عرش السينما المصرية والعربية لا ينافسها أحد من جيلها ولا الأجيال التى تلتها وتوالت الأعمال والنجاحات التى جمعت صلاح وسعاد وأصبح الاثنان وجهين لعملة واحدة هى المتعة حتى فى لحظات الشجن نستمتع بإبداعهما وتصبح أغنيتها الخالدة بانو بانو على اصلكم بانو شاهدة على عصر قاس غليظ يعتصر أولاده حتى آخر قطرة فى دمائهم فتصبح سعاد بصوت مجروح دوروا وشكم عنى شوية كفيانى وشوش ده اكم من وش غدربى ولا يتكسفوا ولم تكن تدرى أن هذه الأغنية ستتحول إلى النشيد المصاحب لجنازتها وكدهون وجد صلاح جاهين من يخرج الطفل الشقى الذى بداخله فى شخص سعاد حسنى فلم يبخل عليها بأبوته واحتضنها فنيا وإنسانيا بعد ذلك وهى وجدت فيه الحضن الذى افتقدته طيلة حياتها من طفولتها وشبابها وحتى بعد نجوميتها الطاغية ظل يعذبها ذلك الإحساس باليتم وافتقاد لروح الأسرة حتى احتضنها صلاح جاهين وأصبح لها السند والدعم والإبداع والمستشار الفنى لجميع أعمالها حتى لو لم يكن هو المؤلف وكدهون فى محبة صلاح جاهين الفنان والإنسان.