السبت 12 أبريل 2025
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري
رئيس مجلس الإدارة
هبة الله صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري
الإسلام دين ودولة أم دين ومجتمع؟ (2) الفهم الخاطئ وراء العنف والقتل

الإسلام دين ودولة أم دين ومجتمع؟ (2) الفهم الخاطئ وراء العنف والقتل

أتصور أن أى شيخ أو داعية أو دارس فى معاهد دينية سوف يتعجب من سؤال الدين والدولة، وقد يضرب كفا بكف: لماذا نناقش حقائق صارت بديهيات عند غالبية المسلمين؟، طبعا الدولة جزء من الدين، ألم يؤسس الرسول دولة فى المدينة بعد أن هاجر إليها وسن لها دستور معاملات؟



بالضبط هذا ما قاله لى رجل قانون التقيته فى بيت صديق فى سهرة رمضانية دينية، خلال حوار طويل عن الدين والدولة، ولم يتقبل قولى إن الإسلام دين ومجتمع، أى يمكن للمسلم أن يؤسس مجتمعا مسلما يلتزم فيه بتعاليم الإسلام ويطبقها فى حياته اليومية سواء كان فى شنغهاى الصينية أو فى موسكو الروسية أو فى لوس أنجلوس الأمريكية أو فى لاباز البوليفية التى ترتفع عن سطح البحر ثلاثة ألاف وستمائة وأربعين مترا، ودون أن يؤسس دولة، الإسلام دين للبشرية كافة فى كل أنحاء المعمورة، ولا يخص منطقة بعينها حتى لو نزل فى الجزيرة العربية وبلسان عربى مبين.

قال: دعك من كل هذا.. ماذا عن دولة المدينة التى أسسها الرسول؟

قلت: لا أستطيع أن أصف ما حدث فى المدينة بعد هجرة الرسول إليها بأنه «دولة جديدة» مختلفة عن دولة كانت قائمة فى مكة، فهذه كانت عشائر وقبائل متجمعة فى شكل لا يمكن وصفه بدولة، سواء فى عناصر تكوين السلطة والثروة أو فى عناصر العلاقات بين السلطة والأفراد، وبالتالى لم ترتفع فيها نظم السيادة والحكم إلى ما كان سائدًا فى دولتى الفرس والروم، لأن علاقات عناصر الثروة والسلطة والأفراد هى التى تبين الفوارق بين شكل الدولة وشكل القبيلة فى ممارسة الحكم وإدارة الاقتصاد فى كل منهما.

ولم تكن المدينة فى شكل النظام العام سواء فى تكوين السلطة أو صناعة المراكز القيادية فيها مختلفة عن مكة على الإطلاق، المكانة الاجتماعية والثروة هما «المعيار»، فقط المدينة انفردت بعنصر فريد هو قوة الرسالة السماوية، وهذا العنصر الفريد صنع اختلافا فى أداء السلطة لدورها بين مكة والمدينة، والاختلاف هو التزام مسلمى المدينة بقواعد حاكمة لتفاصيل العلاقات والمعاملات الفردية، كالميراث والزواج والطلاق والحدود والبيع والشراء وتحريم الربا والقصاص تحت مظلة عظيمة من مكارم الأخلاق والقيم الرفيعة، نزلت فيها نصوص من الله فى سُوَر النساء، والبقرة، والمائدة، والنور، وهى سُوَر مدنية، أما السلطة فى مكة فلم تتقيد فى تلك العلاقات إلّا بالعادات والتقاليد السائدة والمكانة الاجتماعية فيها.

ولم ينسحب هذا الالتزام على يهود المدينة أو المخالفين للمسلمين فى دينهم.

وقبل أن يهاجر الرسول إلى المدينة نزلت سور مكية منها سورتا النحل والإسراء، فيها مفاهيم عامة فى بعض العلاقات الإنسانية مثل رد الاعتداء بمثله، أو الصبر على المكاره وتحمل الإيذاء والتسامح فيه إذا كان فى استطاعة المؤمنين ذلك، ليبرزوا مكارم الأخلاق التى تحلوا بها بعد الإسلام.

ويصعب جدًّا أن نصف التجمعات السكانية الحضرية فى الجزيرة العربية فى زمن الرسالة أنها عرفت «الدولة» بشكلها القديم على النمط الإغريقى أو الرومانى أو الفارسى أو المصرى.

والأهم أنّ الرسول فى المدينة كان جل اهتمامه هو نشر الدين ودعوة القبائل والعشائر العربية إليه، لا تأسيس دولة على نمط فارس أو بيزنطة أو إمارة الحيرة. فتأسيس دولة أى دولة تحيطه صراعات سياسية، وتفجر فيها خلافات على توزيع السلطات، كما حدث فى سقيفة بنى ساعدة بعد وفاة الرسول بساعات، وفى مقتل الخليفة عثمان بن عفان، وعند تولية على بن أبى طالب الخلافة، ثم مع توسع دوائر الفتنة التى انتهت بمقتله، ولو كان الرسول أسس دولة معلومة الشروط والعناصر ما وقعت كل هذه الخلافات والصراعات بعد 24 سنة فقط من وفاته، وما سفكت كل تلك الدماء، فكيف يختلفون على ما حدده الرسول حسب رسالة السماء؟

 لكن الدعوة لها رسول واحد يتبعه جميع مَن يؤمن به وينصاع الجميع لتعاليمه الموحى له بها مِن السماء ولا ينازعونه فيها لا سرا ولا جهرا.

وما صنعه الخلفاء الراشدون أو الأمويون أو العباسيون هى اجتهادات إنسانية فى شكل الدولة ونظم الحكم حسب تصورات كل منهم، فكانت كل دولة فى عصرها مختلفة عن الأخرى اختلافا كبيرا، إذ لا توجد تشريعات قاطعة من السماء بها التزموا بها.

قال: لكن فيه كتابات كثيرة تناقض ما قلت وتثبت «حقيقة» الدولة» وفسرت نظريات فى الحكم والسياسة فى الإسلام؟

أجبت: قطعا لا أنكر وجود هذه الكتابات، لكن الاختلاف معها موجود وقائم من قديم، وهى كتابات فى الغالب أخذت نظريات السياسة والاقتصاد الغربية وأضافت إليها أبعادا أخلاقية ونسبتها إلى الدين، وسوف أستشهد بمفكر إسلامى من الذين يدافعون عن الدين والدولة هو المستشار طارق البشرى، وله دراسة بعنوان «نحو تجديد مجالات فى الفكر السياسى الإسلامى» منشورة فى مجلة كلية الشريعة والدراسات الإسلامية المجلد 33، جامعة قطر 2015- 2016 يقول فى صفحة 268: «لذلك فقد تأخر ظهور نظريات أهل السنة فى موضوعات الحكم والسياسة عن نظريات غيرهم من الشيعة والخوارج والمعتزلة، ومن هنا نلحظ تأخر الحديث العلمى المنهجى فى أمور السياسة والحكم، تأخره عن قضايا الفقه وأصوله العامة، إنما هذا الوضع هو ما مهد الطريق لكى تتشكل أسس الفكر السياسى بحسبانها واحدًا من فروع الفقه الشرعى».

ويقول فى الصفحة 267: «نحن عندما نبحث فى الفكر السياسى لدى المسلمين، وكيف تبلور فى علم للسياسة يتصل بالقيم الإسلامية العليا، إنما تجده فى تلك المجالات الفكرية التى كانت تجرى بالمشافهة إبّان العهد الأموى».

ونحن نجد هذا الموضوع يعبر عنه فى الغالب بموضوع الإمامة، ومِن أوائل مَن كتبوا فى هذا المجال هشام بن الحكم المتوفى سنة 190 هجرية وله كتاب فى الإمامة.

ببساطة نحن أمام اعتراف صريح من مفكر إسلامى كبير مشهود له بالنزاهة والكفاءة والدفاع عن ارتباط الدين والدولة، بأنّ فكرة الحكم بمعنى السلطة الحاكمة لم ينتبه لها المسلمون السنة تفسيرًا علميًّا وتأويلًا مكتوبًا إلا فى وقت متأخر،كأن الدولة والحكم فيها لم يكتشف المسلمون سندًا ثابتًا لهما بالقرآن والسنة إلّا بعد أكثر من مئة سنة هجرية، وأول مَن كتب عنها مات سنة 190 هجرية.

فكيف تكونُ الدولة من الدين، ويهمل المسلمون الكتابة عنها وتفسيرها كل هذه المدة الطويلة جدًّا؟

وبالطبع كتاب هشام بن الحكم عن الإمامة هو بداية الغيث عن الراعى والرعية، والسؤال: هل تصلح فكرة «الراعي» الأوحد فى الدولة الحديثة ليكون حاكمًا فعليًّا، أم الحاكم هو رأس فى مؤسسة، تتعاون مع مؤسسات أخرى وفق قوانين عامة، لا تسمح له أن يكون راعيًا، وإنما أن يكون مديرًا سياسيا كفئًا بالنيابة عن الناس بما يتمتع به من سلطات يحددها الدستور؟ 

فكرة الراعى صاحب السلطات شبه المطلقة قد تصلح فى أزمنة قديمة، بل إنّ فكرة الديكتاتور العادل نفسها تتقلص وتنكمش، وتنهال عليها السخائم من كل جانب. 

لقد طرأت تغييرات كثيرة فى العصر الحديث على وظائف الدولة والرئيس والمؤسسات، بل باتت القوة المؤثرة فى مراكز صناعة القرارات فى الدول الكبرى، لا تظهر على خشبة المسرح أمام الجمهور، مثل أجهزة المعلومات والمستشارين فى أمور الأمن الداخلى والإقليمى والعالمى، بينما جمهور المفسرين المسلمين القدماء يتكلمون عن دولة «شرقية» متخلفة، لا تمت لعصرها بِصلة، وما زالت كتاباتهم مؤثرة حتى اليوم فى استنباط أحكام الدولة. 

ناهيك عن النظام الاقتصادى والنظريات الاقتصادية، ولا يمكن اعتبار الزكاة وتسعة أعشار الرزق فى التجارة، وشروط البيوع الصحيحة، وتحريم الربا..إلخ نظامًا اقتصاديًّا أو نظرية اقتصادية متكاملة، فى عصر معقد تراجع فيه الاقتصاد التقليدى كالرعى والزراعة والصناعات القديمة فى تكوين الثروة وتراكم رأس المال، ويتصدره اقتصاد افتراضى، ناهيك عن معاهدات تجارة عالمية، وتضخم، وكساد، وكساد تضخمى، ومؤسسات مالية دولية، وسوق عملات..إلخ.

باختصار.. واحد من أهم أسباب العنف والتطرّف والقتل الذى تمارسه الجماعات الدينية هو الفهم الخاطئ لمعنى الدولة، وأنّ الدولة جزءٌ مِن الدين، لا يصح إلّا بها، فهذا خطأ يصل إلى درجة الخطيئة.

انتفض الرجل وسأل: إليس من مهمة الدولة وولاة الأمر حفظ الدين؟

قلت مبتسما: هذه حجج فقهاء السلطان والمتطرفين، وعموما حفظ الدين لا يعنى تأسيس دولة دينية، فالدين محفوظ بالمؤمنين به والملتزمين بتعاليمه، ولم يحدث أن تعرض أصحاب دين للاضطهاد أو التعذيب وتخلوا عنه، والإسلام من أسرع الأديان انتشارًا فى الألف سنة الأخيرة فى دول العالم أيًا كان شكل الدولة.