الثلاثاء 16 أبريل 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري
رئيس مجلس الإدارة
هبة الله صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري

رحل والقلم بين إصبعيه: مجدى الطيب راهب فى محراب النقد

لا يمكن وصف الأستاذ الناقد «مجدى الطيب»؛ سوى بأنه أحد أعمدة النقد الفنى فى مصر والوطن العربى، فعبر سنوات طوال قضاها الراحل بين أروقة المهرجانات، وبداخل دور العرض السينمائية، اكتسبت مقالاته مكانة خاصة لدى كل عشاق السينما ومحبيها، وحظى هو شخصيًا بمنزلة كبيرة لدى الصحفيين والنقاد من كل الأجيال.



 

رغم أن قلمه لم يكف عن المشاغبة تارة، وعن النقد اللاذع تارة أخرى؛ فإنك تفاجأ عند لقائك به برجُل يحمل من اسمه نصيبًا، فقد كان دمث الخُلق، بشوش الوجه، يحب الحياة، ويعشق السينما، ويتحمس قبل مباريات ناديه المفضل حماس شاب فى العشرين.

عشق «مجدى الطيب» للسينما لم يوازيه سوى عشقه لمهنته، وإخلاصه لها، وفى السنوات الأخيرة، كنت شاهدة على حرصه الشديد على متابعة معظم الفعاليات الفنية، داخل مصر وخارجها، فتراه متكئًا على عصاه مرّة، أو مستندًا على كتف صديق مرّات، فلم يكن يقيم لظروفه الصحية أى اعتبار، ولم يعتبرها يومًا عائقًا أمامه يمنعه عن تأدية رسالته، ليرحل والقلم بين إصبعيه، حتى إن آخر مقالاته التى كتبها لم يسمح له القدر بأن يراها مطبوعة فى جريدة «القاهرة»، والمفارقة أن المقال جاء بعنوان (مسرح عماد الدين يلفظ أنفاسه ويرفض اللجوء للأغنياء) ليلفظ هو أنفاسه، ويترك فراغًا كبيرًا فى الوسط النقدى والفنى.

أسباب عديدة تجعل من «مجدى الطيب» مستحقًا للقب (راهب فى محراب النقد الفنى)، ولعل كلمات الرثاء التى كتبها كبار النجوم تعليقا على خبر رحيله كاشفة عن القيمة التى حظى بها بينهم؛ حيث كانوا يقيمون وزنًا لكتاباته، ويعتبرون إشادته إشارة لهم بأنهم يسيرون على الطريق الصحيح، ويرون فى انتقاده لأحد أعمالهم تصحيحًا لمسار منزّه عن أى أغراض، لكن الأهم من ذلك فى رأيى؛ دعمه الحقيقى لكل من يراه أهلاً للدعم، لا سيما الذين يخطون أولى خطواتهم فى عالم الفن، وأذكر أنه فى أحد المهرجانات التى لا داعٍ لذكرها، جاءت الجوائز بعيدة كل البعد عن التوقعات، ومتبعة فى كثير منها للأهواء، فما كان منه إلا أن كتب مقالاً بعنوان (الدرر الكامنة فى المهرجان)، تحدّث فيه عن بعض الأفلام التى صنعها الشباب، ولم تنل جوائز هذا المهرجان، لكنها تستحق كل الإشادة، فكان لهذا المقال بالغ الأثر على هؤلاء الشباب، وقد أبلغنى أحدهم بأن كلمات الراحل أذهبت ضيقه، وردت له ثقته فى قيمة وأهمية ما يصنع.

مواقف عديدة تتزاحم فى رأسى تكشف عن جانب مهم فى شخصية هذا الرجل، وذكريات عديدة تركها فى ذاكرة كل من تعامل معه هى بمثابة دروس فى المهنة وفى الحياة، منها على سبيل المثال عدم تعاليه على الكتابة عن أى تجربة سينمائية مَهما بلغ حجم رداءتها، فكثيرًا ما تصدر أفلام فى السينما لا تستحق فى مجملها عناء مشاهدتها، لا الكتابة عنها؛ لكنه بقلمه الرشيق، وبقدرته الرائعة على المتابعة كان يخصص مقالاته للتصدى لتلك الرداءة، والوقوف أمام تلك الظواهر، وتحليلها بكل جدية، باعتبارها سببًا فى تدهور وضع السينما المصرية.

وبخلاف متابعته الجيدة للأعمال الفنية؛ فقد كان يتابع بشكل جدّى ودقيق؛ كل ما تتناوله الصحافة الفنية من أخبار، وتحقيقات، وحوارات، وخلافه، ويشيد بالجيد منها، ويهنئ أصحابها على تميزهم، وانفرادهم، وكثيرًا ما كان يناقشنى فى موضوعاتى بالمجلة، مشيدًا بها، فقد كانت لمجلة «روزاليوسف» مكانة خاصة فى نفسه، ولطالما أثرى صفحاتها بقلمه، لا سيما فى السنوات الأخيرة؛ خصوصًا فى شهر رمضان الكريم؛ حيث شارك ضمن فريق من النقاد الأفاضل فى (دورى النقاد) الذى تجريه المجلة للتعليق على المسلسلات المعروضة خلال أيام الشهر الفضيل، واختيار الأفضل من بينها، ولا أزال حتى الآن أذكر لقاءاتى الأولى معه داخل المركز الصحفى لمهرجان القاهرة السينمائى الذى ترأسه لسنوات طويلة، كنت حينها لا أزال أتحسّس خطواتى الأولى فى بلاط صاحبة الجلالة، وفى هذا الوقت كنت أشارك فى إحدى التجارب الصحفية اليومية لتغطية فعاليات المهرجان، وفى صباح كل يوم من أيام المهرجان، كان يمارس عمله بنشاط ودأب، وما أن ألقى عليه التحية؛ إلا ويباغتنى بقوله (حلو المكتوب النهاردة فى الجرنال)، فتتملكنى الدهشة، متى قرأ الجريدة ونحن لا نزال فى الساعات الأولى من اليوم؟!

وبخلاف المواقف الإنسانية العديدة التى جمعتنى بالراحل، يظل حبه لزوجته «تيسير»، وإخلاصه لها حتى بعد رحيلها، وافتقاده لها فى كل موقف أو حدث؛ شاهدًا على مدى نُبل، ورُقى هذا الرجل، ففى كل مرّة كان يضع فيها على صفحته الشخصية على الفيسبوك، صورته جالسًا أمام قبرها؛ معبرًا لها بكلمات رثاء صادقة عن مدى اشتياقه لرؤيتها، شاكيًا لها من قسوة الحياة من دونها، كنت أشعر أننى أمام نموذج إنسانى نادر.

رحم الله ناقدًا من جيل العمالقة.. رحم الله «مجدى الطيب».