الجمعة 19 أبريل 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري
رئيس مجلس الإدارة
هبة الله صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري

كتاب و أديب.. إريك فراتينى يكتب عن... «الكيان» قصة «الحلف المقدس» وتاريخ 5 قرون من جاسوسية الفاتيكان "الحلقة 6"

«الفاتيكان» هى كلمة صغيرة لكن لها عدة معانٍ ومدلولات كثيرة، فعند ذكرها يتبادر إلى أذهان البعض كنيسة روما والبعض الآخر يرى فيها تاريخ باباوات كرسى ماربطرس الرسول.



البعض يراها أصغر دولة فى العالم والبعض الآخر يرى أنها أخطر دولة فيه.. وبالرغم من صغر كلمة «الفاتيكان»؛ فإنها تحمل فى طيات حروفها معانى كثيرة لا تتناسب مع صغر حجم أرضها.

فعلى الرغم من أن دولة الفاتيكان تعرف بأنها من أصغر دول العالم؛ فإنها تحكم ما يزيد على المليار شخص موجودين فى مختلف أنحاء دول العالم؛ بل فى بعض الأحيان يخضع لها حكام وملوك دول كثيرة.

«الفاتيكان» هى تلك الدولة التى يحكمها حتى الآن أعلى سلطة دينية فى الكنيسة الكاثوليكية.. ذلك الحكم الذى يجمع تحته السلطة الدينية والمدنية، الأمر الذى ظل لعقود كثيرة حيث كان بابا روما الذى ينادى بالتسامح والمحبة فى صلوات القداس صباحا، يصدر أحكامًا بالقتل والإعدام لأى منشق أو خائن لدولة الفاتيكان ليلًا، ليس بصفته الدينية ولكن بصفته رئيس جهاز المخابرات لدولة الفاتيكان والذى يقع على عاتقه حماية وطنه.

هذا الأمر هو الذى كشف عنه الكاتب والمراسل التليفزيونى «إريك فراتينى» وهو أمريكى مقيم فى إسبانيا فى كتابه الذى ترجم للعربية فى عام 2009 عن الدار العربية للعلوم ناشرون ببيروت وحمل اسم « الكيان.. خمسة قرون من جاسوسية الفاتيكان السرية» وسبقت الطبعة الأولى للكتاب باللغة العربية طبعات إنجليزية وإسبانية وفرنسية لاقت نجاحًا كبيرًا وتسببت فى جدل واسع فى مختلف دول العالم.

و«الفاتيكان» هى الدولة المعروفة رسميًا باسم دولة مدينة الفاتيكان وهى أصغر دولة من حيث المساحة فى العالم وتوجد فى قلب مدينة روما عاصمة إيطاليا التى تحيط بها من جميع الاتجاهات ويفصلها عنها أسوار خاصة.

ورغم كونها أصغر دول العالم سكانًا ومساحةً فهى تستقى دورها وأهميتها من كونها مركز القيادة الروحية للكنيسة الكاثوليكية فى العالم والتى يزيد عدد أتباعها على 1.147 مليار نسمة، كذلك من كونها تحفظ فى متاحفها وأرشيفها مجموعة من أرقى المنتجات الفنية للجنس البشرى على مر العصور بالإضافة إلى القضايا السلمية والأخلاقية التى تدافع عنها.

ورغم الوجود التاريخى للفاتيكان؛ فإن هذا الوجود لم يصبح بالشكل المستقل المتعارف عليه اليوم، قبل 7 يونيو سنة 1929  وذلك بعد أن تمّ توقيع ثلاث معاهدات فى قصر لاتران بين الحكومة الإيطالية التى كانت آنذاك فاشية بقيادة موسيلينى وممثل البابا بيوس الحادى عشر، الكاردينال بيترو كاسبارى، وعرفت هذه الاتفاقات باسم اتفاقية لاتران.

نظمت الاتفاقات الثلاث العلاقة بين الفاتيكان والدولة الإيطالية، ونصت على أن يكون الفاتيكان بحدوده الحالية، جزءًا مستقلًا عن الدولة الإيطالية ومدارًا من قبل البابا.. أيضًا فقد نصت على إدارة الفاتيكان بشكل مباشر لكافة الكنائس والأديرة فى مدينة روما، استنادًا على الاعتقاد الكاثوليكى بكون البابا هو أسقف روما المنتخب، وثلاثة وعشرين موقعًا آخر خارج أسوار الفاتيكان وتزيد مساحة هذه المواقع فى روما ومحيطها عن مساحة الفاتيكان نفسها.

وتعتبر الفاتيكان دولة يديرها الإكليروس ويرأسهم البابا أسقف روما المنتخب من قبل مجمع الكرادلة متمتعًا بصلاحيات غير محدودة مدى الحياة؛ بيد أن البابا فعليًا لا يمارس أيًا من صلاحياته على الأمور الإدارية والسياسية والقانونية تاركًا تدبير هذه الشئون لرئيس وزراء دولة الفاتيكان، ومؤسسات الدولة المختلفة.. ويشغل منصب رئيس الوزراء عادة كاردينال كنسى، معين من قبل البابا.

منذ بداية القرن السادس ولمدة تفوق الألف عام، كانت الفاتيكان تسيطر على مناطق واسعة من شبه الجزيرة الإيطالية ودعيت هذه المناطق باسم الولايات البابوية وكانت تخضع مباشرة لحكم الكرسى الرسولى، وقد شملت حدود الدولة البابوية إضافة إلى روما مناطق ماركى و‌أومبريا و‌لاتسيو؛ وكانت واحدة من ست دول أخرى شكلت فيما بعد إيطاليا المعاصرة.

إن السبب الرئيسى فى نشوء الولايات البابوية هو انتقال عاصمة الإمبراطورية الرومانية إلى القسطنطينية، ما أدى إلى ضعف سيادة الإمبراطورية فى روما، يضاف إلى ذلك ملكية الكنيسة لمساحات شاسعة من الأراضى الزراعية وأراضى الأوقاف فضلًا عن الأديرة، هذه الأملاك حصلت عليها الكنيسة بشكل أساسى من تبرعات الأثرياء والهبات المقدمة فى الكنائس، ويضاف إلى هذه الأسباب أيضًا شعبية البابا فى روما وتنامى سلطته السياسية.. تلا ذلك فى القرن الحادى عشر نداء البابا أوربان الثانى لملوك أوروبا فى مجمع كليرمونت عام 1094 لإعلان انطلاق الحملات الصليبية، وساهم نجاح الحملة الصليبية الأولى فى ازدياد هيبة البابا السياسية فى الغرب وتنامى دوره السياسى وزعامته، ويرجع بعض المؤرخين زمن بروز السلطة الزمنية للبابوات لعهد البابا غريغورى السابع الملقب بالعظيم. 

لم تكن الدولة البابوية، خصوصًا فى القرنين التاسع و‌العاشر، دولة مركزية قوية فقد ساد حكم الإقطاع المحليين بنسبة كبيرة، ولم يكن البابا حاكمًا زمنيًا يهتم بالأمور المعيشية والسياسية الداخلية، فسلطته كانت منحصرة فى الأمور الخطيرة والسياسة الخارجية إلى جانب الدور الرمزى.

بدأت عام 1513، خلال حبرية البابا يوليوس الثانى، عملية بناء الفاتيكان بالشكل المتعارف عليه اليوم، من خلال بناء كاتدرائية القديس بطرس و‌الكنيسة السيستينية وغيرها من المبانى.. وقد استكمل خليفة البابا يوليوس الثانى، البابا ليون العاشر، عملية الإعمار ونجد أن أغلب التحف الفنية القائمة حتى اليوم فى مختلف أنحاء أوروبا والتى تعود لعصر النهضة، يعود الفضل فى بنائها لتشجيع بابوات ذلك العصر.

ومن المعروف أنه لا يوجد فى الفاتيكان قوات بحرية، جوية أو بريّة، أى أن الفاتيكان لا يملك جيشًا أو قوات مسلحة، ويتولى مهمة الدفاع عن أمن الفاتيكان الجيش الإيطالى، كذلك فلا يوجد فى الفاتيكان أى قانون ينظم الحياة العسكرية، أما القوى المسئولة عن الأمن الداخلى فهى الحرس السويسرى وشرطة الفاتيكان.

وقد أنشئت قوات الحرس السويسرى على يد البابا يوليوس الثانى عام 1506 وتتلخص مهمتها فى حفظ سلامة البابا وحفظ سلامة القصر البابوى، كما تقوم بأداء مهام التشريفات لدى استقبال إحدى الشخصيات المهمة فى الفاتيكان.. أما شرطة الفاتيكان فهى مسئولة بشكل عام عن أمن حدود المدينة، الحفاظ على النظام العام، مراقبة حركة المرور، التحقيق فى الحوادث وغيرها من الواجبات الأقل أهمية، ويبلغ عدد المتطوعين فيها 130 شرطيًا.

وعلى الرغم من كل هذه المعلومات فإن الكاتب إريك فراتّينى يكشف فى كتابه الذى أثار الكثير من الجدل عن حقيقة بعض الباباوات فى محاولة للإجابة عن سؤال العديد من الناس: هل هم ملائكة ام إنهم مجرمون ولكن سريون؟

يتعرض إريك فى بداية مؤلفه (الكيان) إلى المؤسسة الدينية فى الغرب، الكنيسة الكاثوليكية، وعلى رأسها الباباوية فى مرحلة العصور الوسطى، وعن دورها فى حركة الإصلاح الدينى والحركة المضادة له، فى الثورة الفرنسية، وعصر الثورة الصناعية، ونشوء الشيوعية وسقوطها، وكيف أن الباباوات استخدموا «عصمتهم الشهيرة عن الخطأ» فى النفوذ والسيطرة.

وفى هذا كتب كارلو كاستيليوني: «مما لا شك فيه أن التاج ثلاثى الأطراف الذى يضعه الباباوات يرمز إلى النفوذ الذى يمارسونه فى السماء والأرض والعالم السفلى».

وبفضل هذا النفوذ يكشف «إريك فراتينى» حقيقة مهمة وخطيرة فى آن معًا، وهى التلازم الفاعل بين الفاتيكان ومنظمة التجسس المضاد (جمعية بيوس) وطوال خمسة قرون كيف أن الفاتيكان والذى هو أقدم منظمة فى العالم، وصانع الملوك والتاريخ، قد استعان بجهاز سرى يُدعى «الحلف المقدس» أو «الكيان» كما دُعى فى وقت لاحق، لينفذ مشيئته.

لقد اعتمد عليه أربعون من الباباوات لتنفيذ سياساتهم، ولعب حتى الآن دورًا غير مرئى لمواجهة حالات الارتداد عن الدين المسيحى والانشقاقات، والثورات والدكتاتوريات، والاستعمار والترحيل، والاضطهاد وشن الهجمات، والحروب الأهلية والحروب العالمية، والاغتيالات والاختطاف.

وأكد أن الباباوات عرفوا كيف يضعون الكنيسة فى قلب الأحداث، تمامًا كما عرفوا كيف يحدون من دورها.

كذلك تشدد الدراسات على قدرتهم على اختيار حركات اجتماعية جديدة استمرت بالنشوء على مر القرون، وعلى تكيف الكنيسة معها.

فى هذا الكتاب الجدير بالاهتمام، يروى الكاتب القصة الكاملة لجهاز المخابرات هذا المتورط فى قتل ملوك، ودس السم لدبلوماسيين، ولعب دورًا فى تمويل دكتاتوريّ أميركا الجنوبية، وحماية مجرمى حرب، وتبييض أموال المافيا، والتلاعب بالأسواق المالية، والتسبب بإفلاس مصارف، وتمويل مبيعات أسلحة لمقاتلين أُدينت الحروب التى يشنونها؛ وكل ذلك باسم «الدين».

ويرى «إريك» أنه كان للبابوية على مر التاريخ مظهران، مظهر قيادة الكنيسة الكاثوليكية العالمية، والآخر منظمة من أفضل المنظمات السياسية على وجه الأرض.

فعندما كان البابوات يمنحون بركتهم لجماعة المؤمنين بيد، كانوا يستقبلون باليد الأخرى سفراء أجانب ورؤساء دول ويرسلون موفدين وسفراء بابويين فى مهام خاصة.

ويقول «إريك» إن هذا النفوذ، جعل الكثيرين يعتبرون الباباوات كهنة الأمراء أكثر منهم ممثلى المسيح على الأرض.

وبدءًا من القرن الثامن، سعوا حتى عام 1931 إلى إضفاء طابع السلطة الرسمية العليا على بياناتهم من خلال إنشاء راديو الفاتيكان، فحققوا اتصالًا مباشرًا ومتواصلًا مع العالم، ما جعل هذه الأمنية أمرًا واقعًا.

ويرى «إريك» أنه لا يمكن سرد تاريخ الحلف المقدس والذى أطلق عليه اسم الكيان عام 1930 وهو جهاز مخابرات التجسس التابع للفاتيكان، من دون سرد تاريخ الباباوات، ولا يمكن سرد تاريخ الباباوات من دون سرد تاريخ الكنيسة الكاثوليكية، مؤكدا أنه من دون نفوذ الباباوات الفعلى، لما وُجد الحلف المقدس ومنظمة التجسس المضاد (جمعية بيوس).

ويكشف إريك فى كتابه عن العديد من الحوادث والجرائم النى ارتكبت إبان عهد محاكم التفتيش بمباركة باباوية وباسم حماية الدين وهو الأمر الذى اتخذ أشكالًا مختلفة مع اختلاف العصر واختلاف جهة التهديد للسلطة الدينية بداية من انتشار المبادئ الليبرالية، والدستورية، والديمقراطية، والجمهورية والاشتراكية، وكان على البابوية والحلف المقدس مواجهتهم.

ونجد أن «الكيان» يحمل نظرة استثنائية عن الوجه الآخر للباباوية؛ حيث يظهر النتائج الطبيعية عندما تتحد السلطة الدينية مع السلطة السياسية، وعندما يختلط الدين بالسياسة يكون «الحلف المقدس» هو الناتج المحتوم الذى يصبغ الجرائم الإنسانية بالشرعية التى تكفل حماية الدولة.

وعلى الرغم من الجدل الكبير الذى أثاره إريك فراتينى بالكيان؛ فإننا نجد أنفسنا أمام رواية مشابهة للكيان أثارت زوبعة كبيرة عند صدورها وهى رواية «ملائكة وشياطين» لدان براون والتى سنعرضها لكم فى الحلقة المقبلة بإذن الله.