الجمعة 26 أبريل 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري
رئيس مجلس الإدارة
هبة الله صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري

من بيروت إلى واشنطن.. «حمى» الانقسامات تتصدر المشهد الديمقراطى فوضى الاختيار

الديمقراطية سلاح ذو حدين، فالاختيار دائمًا يأتى من صوت الشعب أو نوابه ليستقر تحت مظلة الديمقراطية التى «من المفترض» أن تكون الطريق الآمن والأسهل لاختيار رؤساء يدركون أهمية مستقبل شعوبهم ولديهم الرؤية الواضحة للوقوف أمام الأزمات.. لكن على أرض الواقع ليس الأمر بهذه السهولة.. حيث تكون المصالح.. والرغبة فى تولى السلطة هما عاملَىْ التحركات داخل الشارع السياسى.. وتحل الانقسامات الحزبية محل صوت الحق دائمًا.. الأمر الذى دائمًا ما يضع الدولة فى موقف حرج أمام شعبها والعالم.



لا يختلف هذا المبدأ من دولة إلى أخرى.. سواء كانت دولة ترفع لواء الديمقراطية شعارًا لها.. أو دولة ما زالت تطمح فى رؤية هيكلها الرئاسى لحل أزماتها التى تتفاقم يومًا تلو الآخر.. وعلى مدار الأيام الماضية رأينا فوضى اختيار رئيس النواب الأمريكى فى الكونجرس يحمل تلك الانقسامات التى لم تُرَ منذ ما يقرب المائة عام.. وهو نفس المشهد الذى نراه منذ أكتوبر الماضى فى البرلمان اللبنانى لاختيار رئيس البلاد.. لتتصدر «حمى» الانقسامات المشهد السياسى.. ليس العربى فقط ولكن أيضًا العالمى.

 رئاسة «الورقة البيضاء»

استأنف البرلمان اللبنانى الخميس 12 يناير جلساته لاختيار رئيس للبلاد وذلك للمرة الثانية عشرة على التوالى فشل النواب فى إحداث «تسويات» أو «اتفاقات» بينهم لاختيار اسم لشغل هذا المنصب.

لبنان البلد العربية الجريح الذى وقع عدة مرات فى أزمة الفراغ السياسى، تبقى التسويات الحزبية سواء لاختيار منصب رئيس، دولة أو برلمان، أو حتى الحقائب الوزارية هى الأزمة التى تعانى منها البلاد على طول الخط.

وتتواصل الاتصالات تحت الأضواء فى محاولة للتوافق بين أعضاء البرلمان اللبنانى على رئيس ينهى الأزمة القائمة منذ أربعة أشهر، فى ظل عجز المكونات السياسية عن تأمين نصاب ثلثى أعضاء المجلس فى الدورة الثانية، أو انتخاب رئيس بأكثرية الثلثين فى الدورة الأولى فى الجلسات البرلمانية المكررة.

ويبقى مشهد «الورقة البيضاء» هو المتصدر فى جلسات اختيار الرئيس على مدار 11 جلسة متواصلة.. والورقة البيضاء هى إجراء اعتاد النواب اللبنانيون اللجوء إليه للتعبير عن عدم توافقهم على مرشح بعينه، وبدلا من كتابة اسم مرشح فى ورقة التصويت عمدوا إلى تركها بيضاء، وعلى مدار 11 جلسة متتالية عقدها البرلمان خلال الأشهر الماضية لانتخاب الرئيس تصدرت الورقة البيضاء عملية التصويت لتتغلب بذلك على الأسماء المطروحة لشغل المنصب، معلنة عن غياب التوافق.

 انقسامات الديمقراطية

من جهة أخرى، وعلى الطرف الآخر فى العالم تأتى الولايات المتحدة الأمريكية حاملة شعلة الديمقراطية العالمية، لتتصدر المشهد أيضًا بعد أزمة انقسام الحزب الجمهورى للتوافق على اسم ليحل محل رئيس النواب الأمريكية السابقة نانسى بيلوسى.

وعلى مدار 15 جلسة عقدت تحت قبة الكونجرس جرى اختيار كيفين مكارثى لرئاسة النواب الأمريكى بعد أحداث وصلت إلى مشادات كلامية بين أعضاء الحزب الواحد للتوافق على اسم الرئيس.

فالحزب الجمهورى ظهر فيه الانقسام بصورة واضحة، بين الفريق «الترامبى»، الذى يدعم سياسة الرئيس الأمريكى السابق دونالد ترامب، والفريق المعارض لترامب.. وهو الأمر الذى وصفه الرئيس الأمريكى جو بايدن فى تصريحاته حول أزمة توافق الحزب لاختيار رئيس النواب بأنه «عار عليكم» وأضاف بايدن: «هذه ليست مشكلتى... هذا عار علينا.. والعالم يراقب ما يحدث فى الكونجرس».

وفى الجولة الخامسة عشرة لانتخاب رئيس مجلس النواب الأمريكى، نال زعيم الأغلبية الجمهورية فى المجلس كيفين مكارثى، رئاسته بعد منافسة انتهت فعالياتها فى الساعات الأولى لصباح السبت 7 يناير 2023. إذ حصل على 216 صوتًا من أصل 222 نائبًا جمهوريًا، مقابل 212 لنظيره الديمقراطى حكيم جيفريز، بعد تنازلات عديدة حدت من صلاحيات مكارثى الحزبية والسياسية لصالح تكتل الحرية اليمينى الصاعد فى الحزب، الذى يرتبط بعلاقات قوية مع الرئيس السابق دونالد ترامب.

وقد أظهرت هذه الانتخابات استمرار أزمة الحزب الجمهورى ونزاعاته بين الفريق «الترامبى» وخصومه السياسيين، وأثرت تلك الانقسامات فى مشهد الانتخابات الأخيرة، التى جاءت بنتائج مخيبة للآمال رغم توقعات الكثير من المراقبين، باكتساح موجة حمراء للكونجرس بغرفتيه، ليبقى السؤال؛ ما تأثير انتخاب مكارثى على الانقسامات الحزبية فى الولايات المتحدة؟

 تنازلات «مهينة»

نجح نحو 20 نائبًا فى مجلس النواب الأمريكى بقيادة أندى بيجز، النائب عن ولاية أريزونا، فى تعظيم مكاسبهم الحزبية والسياسية من زعيم الأغلبية كيفين مكارثى، نظير انتخابه لرئاسة مجلس النواب، وهو ما وصفته الصحافة الأمريكية بـ«المهين»، حيث شملت هذه التنازلات عدم تدخل المجموعة الجمهورية المتحالفة مع مكارثى فى الانتخابات التمهيدية بالحزب الجمهورى، بعدما أسهم مكارثى وأعوانه فى دعم مرشحين أكثر اعتدالًا لخوض الانتخابات وتقليص نفوذ تكتل الحرية. 

وكانت من المشاهد المثيرة للجدل وجود الرئيس السابق دونالد ترامب فى مفاوضات دعم مكارثى لرئاسة المجلس، بعد مكالمة هاتفية مع النائبة الجمهورية مارجورى جرين، خلال جلسات التصويت مساء الجمعة، لإقناع نواب التكتل بالتصويت، فى إشارة تؤكد لعب دونالد ترامب دورًا رئيسيًا فى انتخابات الكونجرس ولكن من خلف الستار، كما عكس قدرته على التلاعب بخصومه داخل الحزب، وعلى رأسهم مكارثى الذى ندد بحركة 6 يناير 2021 وما تخللها من أحداث شغب، كما حارب نفوذ التيار اليمينى المتطرف داخل الحزب الجمهورى.

كما دعم تمثيل تكتل الحرية فى لجان مجلس النواب، والموافقة على شغلهم 3 مقاعد فى لجنة قواعد مجلس النواب، المسئولة عن صياغة التشريعات قبل عرضها للتصويت، وطرحها قبل 72 ساعة من عرضها على المجلس. فضلًا عن دعم مشروعات القوانين التى تتبناها الكتلة فى تعزيز أمن الحدود والحد من الهجرة والميزانية السنوية.

لكن تبقى المكاسب السياسية هى الأقوى فى هذه الأنتخابات، حيث سعى تكتل الحرية لقلب موازين القوى فى إدارة الشئون البرلمانية والسياسية العامة لصالحهم، وذلك من خلال إعطاء حق طرح التصويت على حجب الثقة من رئيس المجلس بدعوة نائب واحد فقط بدلًا من خمسة نواب حسب اقتراح مكارثى، مما يضعف من سلطته لصالح أعضاء المجلس.

ويهدف التكتل لمعارضة خطط الإدارة الديمقراطية فى رفع سقف الدين وربطها بإجراءات مقابلة لتخفيض النفقات الحكومية وخفض رواتب المسئولين الفيدراليين، وتدشين لجنة تحقيق فى «تسليح» أو توظيف الحكومة الفيدرالية بالصراع السياسى فى إشارة إلى ملف التحقيقات مع الرئيس السابق دونالد ترامب وتدخل وكالة التحقيقات الفيدرالية بقرار من وزارة العدل فى تفتيش منتجع مارالاجو التابع لترامب.

 تخبط المشهد

وتشير تلك التنازلات إلى انقسامات عميقة داخل الحزب الجمهورى، الذى لم ينجح فى إعادة ترتيب أوراقه بشكل كافٍ عقب خروج دونالد ترامب من البيت الأبيض، وهو ما انعكس على نتائج الحزب فى انتخابات التجديد النصفى التى أسفرت عن خسارة أغلبية مجلس الشيوخ والحصول على أغلبية بسيطة فى مجلس النواب، منقسمة على نفسها بين التوجه التقليدى السائد فى الحزب، وعناصر أقصى اليمين، فى «كتلة الحرية» التى عارضت توجه زعيم الأغلبية الساعى لتقويض تيار «لنجعل أمريكا عظيمة مجددًا» والمعروف اختصارًا بتيار «ماجا».

ولعل انتخابات التجديد النصفى فى نوفمبر 2022، خير دليل على تلك المعركة التى شهدت حضور ودعم ترامب لعدد من نواب الحزب فى مجلسى النواب والشيوخ وحكام بعض الولايات، فضلًا عن إقصاء كبار خصومه فى الحزب مسبقًا فى الانتخابات التمهيدية، وعلى رأسهم ليز تشينى التى نادت بعزل ترامب، وهى العضوة الجمهورية الوحيدة فى لجنة تحقيقات 6 يناير 2021.

وقد نشرت صحيفة «نيويورك تايمز» تقريرُا أوضحت فيه إلى أن مواقف النواب العشرين، إذ ينقسمون إلى 15 نائبًا أُعيد انتخابهم، و5 نواب جدد، قد نالوا دعم ترامب 85 % منهم «16 نائبًا» فى الانتخابات الأخيرة. ومن إجمالى التكتل رفض 12 نائبًا نتيجة انتخابات 2020 واعتبروها مزورة للإطاحة بترامب.

 صراع مستمر

ومن المتوقع أن يشهد مجلس النواب مرحلة حرجة من النزاعات المستمرة فى ظل مشهد الأغلبية المنقسمة، التى ستشهد جهودًا لإعاقة أچندة الديمقراطيين على الصعيدين الداخلى والخارجى، وعلى رأسها قضايا الإنفاق العام وقوانين الأسلحة الفردية وقضايا الإجهاض، ومحاولة عرقلة وتقييد توجهات الإدارة الأمريكية فى الحرب الروسية الأوكرانية.

 وعلى الرغم مما قد يعكسه النزاع الجمهورى من ارتياح نسبى فى الأوساط الديمقراطية الحاكمة والمسيطرة على مجلس الشيوخ، إلا أن صعود تيار أقصى اليمين يمثل مصدر خطر على النظام السياسى الأمريكى برمته، ويهدد بإشعال المواجهات بين أنصار التيارات المتعارضة، فعلى النقيض من تيار أقصى اليمين قيد التحول إلى تيار متماسك يبرز سيادة الأمريكى المسيحى الأبيض، يبرز تيار أقصى اليسار فى الحزب الديمقراطى بزعامة بيرنى ساندرز الداعم لمجموعة مختلفة من القيم.

وفى الختام فإن المشهد الحالى لهيمنة تكتل الحرية على رسم أجندة مجلس النواب الأمريكى ودفع الجمهوريين للصدام مع الحزب الديمقراطى، قد يؤدى إلى صعود محتمل لدونالد ترامب مع استمرار إعادة ترتيب أوراق الحزب، مما قد يدفع الديمقراطيين لبحث إمكان التعاون مع التيار التقليدى بالحزب الجمهورى خاصة الرافضين لترامب.

 لكن يبقى الوضع المضطرب داخل الحزب هو سيد الموقف والذى سيؤدى إلى منع أى تعاون مع الديمقراطيين وسيفضى إلى تعزيز الانقسام بين الحزبين من جهة، وداخل الحزب الجمهورى ذاته من جهة أخرى، فى ظل غياب القيادة الموحدة التى تعيد ترتيب أهداف وأولويات الحزب فى الفترة المقبلة، بعدما بات كيفين مكارثى فى موقف ضعيف قد ينهى مسيرته السياسية عمومًا ودوره كرئيس لمجلس النواب وثالث أرفع مسئول فيدرالى بالولايات المتحدة.