الجمعة 26 أبريل 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري
رئيس مجلس الإدارة
هبة الله صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري

نص خطاب فاطمة اليوسف للرئيس جمال عبدالناصر.. ورده عليها

وُلدت روزاليوسف واسمها «فاطمة محمد محيى الدين اليوسف» بمدينة طرابلس فى لبنان سنة 1898، وأصبحت يتيمة وهى فى السابعة من عمرها ورحلت إلى مصر وهى فى الرابعة عشرة؛ حيث بدأت حياتها كممثلة ناشئة فى فرقة عزيز عيد، وچورج أبيض المسرحية وكانت البطلة الأولى فى فرقة (رمسيس) ليوسف وهبى ومن أشهَر أدوارها «غادة الكاميليا أوبريت العشرة الطيبة دافيد كوبرفيلد التاج والفضيلة»، وتعلمت فى تلك الفترة القراءة والكتابة والتمثيل وأصبحت الممثلة الأولى فى مصر وأطلق عليها النقاد «سارة برنار الشرق». 



 

تُعَد «روزاليوسف» رائدة الصحافة فى مصر ومُعلمة وقائدة لأجيال، ومن أهم كُتّابى وصحفيى مصر الذين بدأوا خطواتهم الأولى فى مجلة روزاليوسف والتى صدر العدد الأول منها فى 26 أكتوبر 1925، والتى انتشرت انتشارًا واسعًا، ثم ما لبث أن تحولت هذه المجلة إلى السياسة، وكان أول تحقيق صحفى لها أثناء محاكمة محمود فهمى النقراشى وأحمد ماهر فى إحدى القضايا السياسية، وقد وهبت روزاليوسف مجلتها لخدمة قضايا الوطن فخاضت فى سبيل ذلك معارك طاحنة ضد الإنجليز.

قبل اكتمال العام الأول لثورة 23 يوليو 1952 كانت هناك أشياء ملفتة للانتباه فى العلاقة بين الصحافة والثورة؛ وقد كتبت يوم 11 مايو 1953 السيدة فاطمة اليوسف فى روزاليوسف رسالة إلى الرئيس جمال عبدالناصر، وردّه عليها. قالت فى رسالتها: «تحية أزكى بها شبابك الذى عرضته للخطر، وجهدك الذى تنفقه من أجل هذا الوطن، تحية من سيدة عاصرت الحوادث واعتصرتها التجربة، أنفقت عمرها تتأمل الوجوه القديمة حتى كفرت بكل وجه يحمل ملامح القدم، فلا يسعدها اليوم شىءٌ كما يسعدها أن ترى الوجوه الجديدة تزحف، وتنال فرصتها الكافية لتحاول أن تسير بهذا الوطن بأسرع مما كان يسير، إننى أعرف الكثيرَ عن ساعاتك التى تنفقها عملاً بغير راحة، ولياليك التى تقطعها سهرًا بلا نوم، وتدقيقك البالغ فى كل أمْر بهدف أن تصل فيه إلى وجه الصواب، ولكنك، وحدك؛ لن تستطيع كل شىء، ولا بالمعونة الخالصة من إخوانك، وأصدقائك، وكل الذين تعرفهم وتثق بهم، فلا بُدّ لك من معونة الذين لا تعرفهم أيضًا، الذين يعيشون فى جو غير جَوّك، ويتأثرون بعوامل غير التى تؤثر فى أصدقائك، ويمرّون بتجارب كثيرة منوعة لا يمكن أن يمر بها واحدٌ من الناس، ولا عَشرة، ولا ألف. إنك باختصار؛ فى حاجة إلى الخلاف كحاجتك إلى الاتحاد، إن كل مجتمع سليم يقوم على هذين العنصرين معًا، ولا يستغنى بأحدهما عن الآخر، الاتحاد للغايات البعيدة والمعانى الكبيرة والخلاف للوسائل والتفاصيل، انظر إلى الأسرة الواحدة فى البيت الواحد، قد تراها متماسكة متحابة متضامنة، ولكن كل فرد فيها يفضل نوعًا من الطعام، ويتجه إلى طراز من العمل، ويروق له لون من الثياب، ثم انظر إلى أسرة الوطن الكبير، أى وطن كبير، تجد هذا التباين والخلاف موجودًا بينهم فى أدق دقائق الحياة، وفى طريقة تذوق الحياة ذاتها. أنت تؤمن بهذا كله لا شك فى ذلك، وقرأت لك حديثًا تطالب فيه بالنقد، وبالآراء الحُرّة النزيهة ولو خالفتك، ولكن؛ أتعتقد أن الرأى يمكن أن يكون حُرًا حقًا وعلى الفكر قيود؟ وإذا فرض وترفقت الرقابة بالناس، واستبدلت حديدها بحرير؛ فكيف يتخلص صاحبُ الرأى من تأثيرها المعنوى؟ يكفى أن توجد القيود كمبدأ ليتحسّس كل واحد يديه، يكفى أن يشم المفكر رائحة الرقابة، وأن يرى بعض الموضوعات مصونة لا تُمَس، ليتكبل فكره، وتتردد يده، ويصبح أسيرًا بلا قضبان.. قرأت لك أيضًا، أو لبعض زملائك، أنكم تبحثون عن كفايات، وتريدون طرازًا غير المنافقين الموافقين ولكن كيف يبرز صاحب الكفاية كفايته؟ أليس ذلك أن يعبر عن نفسه؛ يعبر عنها بصراحة ودون تحوير؟ إن مجرد شعور صاحب الكفاية مخطئًا أو مصيبًا بأن هناك شيئًا مطلوبًا وشيئًا غير مطلوب يجعله إمّا أن يبعد نفسه خشية ألا يوافق المطلوب، وإمّا أن يقترب بعد أن يهيئ نفسه ليتلاءم مع ما يعتقد أنه مطلوب، فتضيع الفائدة منه فى كلتا الحالتين.. أترى.. إلى أى حد تفسد هذه القيود الجَوّ؟ أترى إلى أى حد هذا الستار الكثيف الذى تقيمه بين الحاكم وبين ضمائر الناس؟ الناس لا بُدّ أن يختلفوا لأنهم مختلفون خلقًا ووضعًا وطبعًا، ودعت الظروف إلى إلغاء الأحزاب، وتعطيل الكثير من وسائل إبداء الرأى، وأصبح للعهد الجديد شعارٌ واحدٌ وألوانٌ واحدةٌ، فلم يبقَ شىءٌ يمكن أن يتنفس فيه النقد، وتتجاوب فيه وجهات النظر غير الصحف، وأسنّة الأقلام، وتفكير المواطنين، على أنى أعرف الدوافع لإبقاء القيود. أنت تخاف أنياب الأفاعى، وفئران كل سفينة. أنت تخاف من إباحة الحريات أن يستفيد منها الملوثون المغرضون.. ولكن صدّقنى إن هذا النوع من الناس لا يكون لهم خطر إلا فى ظل الرقابة وتقييد الحريات. إن الحرية لا يستفيد منها أبدًا إلا الأحرار والنور لا يفزع إلا الخفافيش..أمّا الهمسات فى الظلام، والبسمات التى يبطنها النفاق والمدائح التى يمتزج بها السّم الزعاف.. فلا شىء يبطل مفعولها إلا النور والهواء الطلق والرأى العام النابه الحريص. ولا تصدّقوا ما يقال من أن الحرية شىءٌ يباح فى وقت ولا يباح فى وقت آخر؛ فإنها الرئة الوحيدة التى يتنفس بها المجتمع ويعيش، والإنسان لا يتنفس فى وقت دون آخر، إنك بكل تأكيد تضيق ذرعًا بصُحف الصباح حين تطالعها فتجد أنها تكاد طبعة واحدة لا تختلف إلا فى العناوين.. حتى بعض حوادث الأقاليم المحلية يصدر بها أحيانًا بلاغ رسمى واحد والناس كلهم يحسون ذلك ولا يرتاحون إليه.. وقد قلت مرّة أنك ترحب بأن تتصل بك أية جريدة إذا أحسست الضيق، ولكن.. أليس فى هذا ظلم لك، وللصحف، وللقضايا الكبرى التى تسهو عليها؟.. ألم أقل إنك لن تستطيع وحدك كل شىء؟.. لقد أقدمت، وفى شبابك الباكر، على تجارب هائلة.. خضت بعضها ورأسك على كفك لا تبالى مصيره، وليس كثيرًا أن تجرب إطلاق الحريات. إن التجربة كلها لا تحتاج إلا الثقة فى المصريين.. وأنت أول من تجب عليه الثقة فى مواطنيه».

ورَدّ الرئيسُ الراحل جمال عبدالناصر على السيدة روزاليوسف قائلاً فى ردّه: «أمّا تحيتك فإنى أشكرك عليها، وأمّا تجربتك فإنى واثق أنها تستند على درس الحياة، وأمّا تقديرك لما أبذله من جهد فإنى أشعر بالعرفان لإحساسك به، وأمّا رأيك فى أنى لا أستطيع أن أفعل وحدى كل شىء؛ فإن هذا رأيى أيضًا ورأى كل زملائى من الضباط الأحرار الذين قامت حركتنا على تنظيم كامل عاشت فيه الفكرة وتوارت الأشخاص، وقام كل فرد فى ناحيته بأقصى ما يستطيع من جهد، وأمّا إنى فى حاجة إلى كل رأى فقد أعلنتُ هذا ولن أملّ من تكرار إعلانه ليس من أجلى وإنما من أجل مصر، وأمّا حاجتنا إلى الخلاف فى التفاصيل قدر حاجتنا إلى الاتحاد فى الغايات فأنا مؤمن به، وأثق أنه من أسُس الحرية الصميمة بل من أسُس النظام أيضًا.

وأنا أكره بطبعى كل قيد على الحرية وأمقت بإحساسى كل حد على الفكر، على أن تكون الحرية للبناء وليس للهدم، وعلى أن يكون الفكر خالصًا لله وللوطن.. ودعينى ألجأ إلى تجربتك كى تبقى الحرية للبناء ويبقى الفكر لله والوطن..لا تخرج بهما شهوات وأغراض ومطامع عن هذه المُثل إلى انقلاب مدمر يصب فى مصالح الوطن المقدّس بأبلغ الأضرار..لقد قلت أنتِ بنفسك إنك تعلمين أنى أخشى على موقف البلاد الصلب من إطلاق الحريات خشية أن يندس بين أمواجها دعاة الهزيمة والتفكك، لقد عبرتِ بهذا عن جزء مما أشعر.. واسمحى لى أن أضيف عليه شيئًا آخر.. هو أننى لا أخشى من إطلاق الحريات وإنما أخشى أن تصبح هذه الحريات كما كانت قبل 23 يوليو سلعًا تباع وتُشترَى.

ونحن لا نريد أن يشترى الحرية غيرنا، ومن يدرى فقد يكون بينهم أعداء للوطن يفرّقون هذا الشعب الطيب الوديع الذى استغلت طيبته، واستغلت وداعته، واستغل قلبه المفتوح وغرّر به دونما أساس سليم، يصونه من التضليل- بما لا يجب- أن يفرّق فيه فى هذه الظروف العصيبة التى تمر بالوطن.. ومع ذلك فأين هى الحرية التى قيدناها؟ أنتِ تعلمين أن النقد مُباح، وأننا نطلب التوجيه والإرشاد، ونلح فى الطلب بل إننا نرحب بالهجوم حتى علينا إذا كان يقصد منه إلى صالح الوطن وإلى بناء مستقبله وليس إلى الهدم والتخريب ومجرد الإثارة، ذلك لأننى أعتقد أنه ليس بيننا من هو فوق مستوى النقد أو من هو منزه عن الخطأ.. وبعد فإنى أملك أن أضع رأسى على كفى ولكننى لا أملك أن أضع مصالح الوطن ومقدساته هذا الوضع».

تقاربت فاطمة اليوسف مع حزب الوفد الذى قام بضمها إليه هى ومجلتها، وتعرّض حزب الوفد فى تلك الفترة لحملة انتقادات عنيفة وأطلق عليه خصومه «حزب روزاليوسف» غير أن هذه العلاقة الوطيدة لم تدم بين فاطمة اليوسف وحزب الوفد، فسرعان ما تحولت إلى عداء شديد، بعد إصرارها على انتقاد رئيس الوزراء «نسيم باشا» ومطالبته بعودة دستور 1923 وإجراء انتخابات نزيهة، فما كان من الوفد إلا أن فصلها ومجلتها من الحزب، إلا أن نجاح حملتها ضد حكومة نسيم باشا قد أدى إلى استقالة الحكومة، وعودة دستور 1923.. أنشأت صحيفة روزاليوسف اليومية التى صدرت فى 25 مارس 1935، والتى كان من أبرز محرريها عباس العقاد، ومحمود عزمى، كما أصدرت مجلات أخرى منها «الرقيب، صدى الحق، الشرق الأدنى، مصر حرة»، كما أصدرت مجلة صباح الخير عام 1956..

تزوجت فاطمة اليوسف ثلاث مرّات كانت أولها من المهندس الفنان محمد عبدالقدوس وأنجبت «إحسان» الذى أصبح من كبار أدباء مصر، ثم تزوجت من المسرحى زكى طليمات، ثم من المحامى قاسم أمين حفيد قاسم أمين صاحب كتاب تحرير المرأة.. لم تكن روزاليوسف رائدة فى الصحافة والفن فقط ولكنها كانت قائدًا نشطا فى الحركة النسائية الناهضة فى هذا الوقت؛ حيث حفزت السيدات على أن يعملن فى أى مجال للمشاركة فى النهوض بالمستوى المادى لأسرهن، وهذا هو السبب وراء توظيفها لكثير من البنات فى مجلتها.. وتوفيت فاطمة اليوسف فى 10 أبريل سنة 1958عن عمر يناهز 60 عامًا ولكن ظل اسمها خالدًا بمجلتها ومَدرستها روزاليوسف وأجيالها الكثيرين الذين تخرّجوا فيها ولا يزالون حتى اليوم.