الخميس 25 أبريل 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري
رئيس مجلس الإدارة
هبة الله صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري

السيدة روزاليوسف تاريخ ودروس ومبادئ

«إن أبرز خط فى شخصيتى هو الكفاح، والكفاح فى حياتى طريق طويل لم يغطه أحد بالأسفلت، وقد مشيت الطريق كله على ساقى حتى كلتا من المسير وأصيبتا بضيق فى الشرايين.



إن قصة كفاحى طويلة ورهيبة، ولو وجدت الوقت الذى أحكيها فيه لما وجدت الورق الذى تكتب عليه سطورها.

لقد عشت مع «روزاليوسف» الأسبوعية ثم اليومية 33 عامًا أنصهر فى فرن السياسة، اهتزت الأرض من تحتى مرات ولم أهتز، وضعت أمامى مبادئ ومضيت العمر أحميها من غربان السياسة وفئران القصر، كنت أقف وراء كل سياسى كبير يلف حول عنقه شرفه ووطنيته، وأتخلى عنه فى اللحظة التى يخلع فيها رباط عنقه!

صادروا مجلتى حتى كانت تصدر عددًا وتصادر خمسة أعداد وقاومت، أغرونى بالمال وعذبونى بالتهديد وقاومت، أرسلونى فى نزهات كثيرة إلى النيابة العمومية أحيانًا وإلى سجن مصر وقاومت».

لقد كتبت مسحة عابرة من قصة كفاحى فى كتابى «ذكريات» أما بقية القصة فما زالت فى قلبى مختلطة بدمى، وأملى أن أكتب القصة يومًا أو يكملها بعد أن أصبح ذكرى ابنى «إحسان».

هكذا لخصت السيدة «روزاليوسف» حياتها فى حوارها مع الكاتب الصحفى الأستاذ «عبدالتواب عبدالحى» والذى نشر بعد أيام قليلة من رحيلها فى أبريل 1958 وحسب كلامه: «وبعد أيام قليلة من هذا الحديث، فكّت «فاطمة اليوسف» رباطها بالدنيا.. رحلت أم الصحفيين».

لقد حاول الكاتب الكبير إحسان عبدالقدوس أن يكتب بالفعل عنها قبل عشر سنوات من رحيلها بمناسبة عيد ميلاد المجلة فى أكتوبر سنة 1948، لكن «روزاليوسف» رفضت نشر مقال إحسان عنها والذى كتب فيه يقول:

«كان المفروض أن أكتب على هذه الصفحة قصة أمى السيدة «روزاليوسف» القصة التى لا يعلمها بعد الله إلا اثنان من الأحياء السيدة «روزاليوسف» وأنا، قصة الفتاة الصغيرة التى لم تتجاوز السابعة من عمرها والتى استقرت فى مصر لتمزج دمها بترابها، وتخط بأناملها الرقيقة وعلى صفحات التاريخ خطوطًا ستبقى ما بقى التاريخ».

ولكن السيدة «روزاليوسف» رفضت - وهى صاحبة الحق الأول - ووعدتنى كما اعتادت أن تعدنى كل عام أن تسمح لى بكتابة قصتها فى العام الذى يليه، وفى مثل هذه المناسبة - مناسبة دخول المجلة فى عامها الجديد!

وأمى تعلم أن من بين عيوبى أنى أتقمص أحيانًًا شخصية «الفرزدق» فأتمادى فى التفاخر بأبى وأمى، وهذا من العيوب الحميدة، وتعلم أن قصتها ما يحق لى أن أزهو به بين الناس، وهى لا تريد أن تحرمنى هذه المتعة - متعة الزهو - ولا تريد فى الوقت نفسه أن تفاخر بأيامها فلا تجد إلا أن تعدنى من عام إلى عام، وأن تنظر إلىّ كما اعتادت أن تنظر إلىّ دائمًا نظرتها إلى طفل يتعجل ارتداء بدلة العيد! النظرة التى لا حرمنى الله منها أبدًا.

ويمضى الأستاذ «إحسان» قائلًا:

«وأمسكت قلمى عن كتابة القصة، خضوعًا لأمر السيدة «روزاليوسف» صاحبة المجلة وإرضاء للسيدة «فاطمة اليوسف» والدتى، وأردت أن أكتفى بالكتابة عن شخصيتها، الشخصية التى أحببناها جميعًا لأنها تشخط فى الجميع وتخصم من مرتبات الجميع، وتمزق مقالات الجميع، ثم تبتسم للجميع فيرون فى ابتسامتها حنان الأم وقسوة الأستاذة، السيدة التى كانت أيامها كلها حربًا، انتصرت فيها موقعة بعد موقعة، ولم يكن لها من سلاح إلا العناد، السيدة التى ربحت كثيرًا حتى وصلت إلى المليون وخسرت كثيرًا حتى باعت «مصاغها» فلم يؤثر فيها ربح أو خسارة.

ظلت محتفظة دائمًا بشباب أعصابها ونضرة أيامها وقوة آمالها، السيدة التى تصل فى الصباح إلى مكتبها لتحاسب «النحاس» و«النقراشى» و«صدقى»، ثم تعود إلى منزلها لتحاسب الطباخ، و«تشقر» على الفراخ وتشترك فى تقشير البصل وتخريط الملوخية، إنها مجموعة من المتناقضات تؤلف شخصية فريدة وتاريخًا لم نسمع عنه بين سيدات العالم.

وانتهيت من المقال وأرسلته إلى السيدة «روزاليوسف» للاطلاع، فعاد إلىّ وعلى أوراقه صفعات بالقلم الأحمر، وعلى رأسه تأشيرة بقلم السيدة الجليلة تقول فيها: يا بارد.. خلى غيرك يقول الكلام ده!

وربما انتظرت منى والدتى أن أنكسف وأن تعودنى فضيلة التواضع، ولكنى للأسف لم أنكسف ولم أتواضع فإنى - كما قلت - أحب أن أزهو بها وهو أقل حق لى عليها».

وقبل ذلك بعام -1947- وبمناسبة صدور العدد رقم 1000 «ألف» كتب إحسان:

«هذا هو العدد الألف من مجلة «روزاليوسف» وكان يجب أن يكون العدد رقم «1122» والذنب ذنب صدقى باشا ومحمد محمود باشا والنحاس باشا، والنقراشى باشا هؤلاء الذين عطلوا مجلة «روزاليوسف» مددًا تتراوح بين ستة شهور وثلاثة وشهرين وشهر وأسبوع، وقد بلغ مجموع الفترات التى عطلت فيها مجلة «روزاليوسف» سنتين كانتا كافيتين لتحطيم رأس أى عنيد وإزهاق روح أى جريدة أو مجلة، وعندما بدأت «روزاليوسف» تكتب فى السياسة خبطت مصر وخبط الشرق العربى كله كفّا على كف، فلم يكن من المألوف فى الشرق أن تصدر مجلة تحمل اسم سيدة لتنتقد الزعماء وتوجههم!

ولكن هذه السيدة استطاعت أن تقنع مصر والشرق أن المرأة ليست أقل وطنية ولا هى أقل احتمالًا للجهاد من الرجل، فقاومت حتى وقفت على قدميها وارتفع صوتها حتى أخرس كل صوت معارض لرأيها، وتلفتت حكومات الاحتلال فإذا بروزاليوسف أخطر مما تنبأوا لها فسلطوا عليها الحديد والنار وحاربوها فى العلن والخفاء، فكان أن قضت عليهم وتهاوى جبروتهم تحت قدميها!

وأصبحت «روزاليوسف» أول من ينفخ فى نفير الوطنية. وأول من يصرخ صرخة الجهاد وأسماها النحاس باشا السيدة المجاهدة، وكتب عنها «مكرم باشا»: «إنها سيدة مناضلة دائبة العمل والأمل، تضفى على جهادها لونًا بسامًا متجددًا من روحها».

ويضيف إحسان قائلًا: وسر حياة «روزاليوسف» - السيدة والمجلة - أنها لا تعمل لتعيش يومها، بل تعمل لتعيش فى التاريخ، وسيذكر التاريخ «روزاليوسف» كلما تحدث عن جهاد مصر.

نعم، لقد دخلت السيدة «روزاليوسف» ومجلتها وسائر المجلات الأخرى التى أصدرتها تاريخ مصر، ولا يخلو كتاب أو بحث سياسى أو رسالة ماجستير أو دكتوراه تناولت تاريخ مصر السياسى الحديث فى النصف الأول من القرن العشرين إلا وكانت صفحات «روزاليوسف» ومعاركها السياسية والاجتماعية من أهم المراجع التى يعود إليها الباحثون.

وعندما كتبت السيدة «روزاليوسف» ذكرياتها وصدرت فى كتاب عام 1953 حرصت على القول فى إهدائها لإحسان ابنها «إليك يا بنى أهدى هذه الذكريات الناقصة، كما تقول، وإنك لتعلم أن من الأشياء ما يصعب على المرء أن يقوله أو يوضحه، وأنه ليكفى أن تكون عالمًا بما فى هذه الذكريات من «نقص» لأطمئن إلى أنك سوف تكملها ذات يوم!

ويعترف إحسان فى المقدمة التى كتبها للكتاب: «هذه الذكريات ناقصة، ناقصة إلى حد كبير».

لكن من حسن الحظ أن السيدة «روزاليوسف» كانت من وقت لآخر تسترجع بعض ذكرياتها فى مقالات متفرقة لا تقل أهمية عن ذكرياتها الناقصة!

فى مقال نادر عنوانه «مع المصرى أفندى إلى النهاية فى المحنة وفى المجد» روت «روزاليوسف» بعض معاناتها الصحفية والسياسية بعد مرور 11 سنة على صدور المجلة و11 شهرًا على صدور الجريدة.

والمعروف أن «المصرى أفندى» هو الشخصية والتى ابتكرتها «روزاليوسف» ومحمد التابعى ورسمها الفنان الكبير «صاروخان». فى هذا المقال المهم كتبت السيدة «روزاليوسف» تقول: «لله هذه الأعوام الطويلة فى الكفاح.. 

عندما أخرجت هذه المجلة إلى الوجود، لو كان أحد قد سرد على مسامعى يومها هذه الأطوار التى سيتطور إليها عملى ترى ماذا كنت أقول؟

لم أكن لأصدق شيئًا من ذلك، فلم تكن مقدمات عملى لتسمح باستنتاج كهذا، ومهما عرفت فى نفسى من روح المغامرة فى سبيل الحق، فلم أكن لأظن أن الظروف ستوجهنى هذا السبيل الذى مضيت فيه إحدى عشرة سنة!

ولكن هذه أنا وهذا عملى، مجلتى وجريدتى بين أيدى القراء، بعد أن اجتزنا مرحلة شاقة فى حياة جهاد مستمر لم أعمل فيه إلا بوحى الضمير الحر الذى لا يعرف إلا أن يقول ما يريد لا ما تريده المنفعة والشهوات الدنيا.

هذه المخاطر التى تعرضت لها من الحجر والتعطيل والمصادرة والاضطهاد والخسائر المادية والأدبية، هذه المخاطر كلها هى الثمن العزيز لراحة الضمير، ولو قد أرضيت ضميرى، ولبيت هاتف وطنيتى ومضيت فى ذلك ثم سلمت من الخطر، لما استطعت أن أنعم بما أنعم فيه الآن من طمأنينة النفس، ولما شعرت بأننى قد أديت شيئًا للوطن أستحق عليه أن أقول لنفسى: إنك أيتها السيدة قد فعلت ما لا يجرؤ على فعله عشرون رجلا متكاتفين!

ومضت السيدة «روزاليوسف» تقول:

«وهذه السلسلة الطويلة من التضحيات والآلام، قد كنت أستغنى عنها أو أتفاداها من غير أن أنحرف عن عقيدتى الوطنية، ومن غير أن أرهق ضميرى بالتبكيت والتأنيب، ولكن طبيعتى الثائرة وقلبى المناضل وقوة يقينى، كل ذلك أبى إلا أن أتقدم مليئة بالإيمان موفورة الشجاعة والإقدام أتلقى الخطر، لا أبحث عن الخطر وأسعى إليه، أفاجئ القوة فى خصومها وأنا على ثقة من أن الخطر أقوى منى، والقوة أشد فتكًا بأسلحتها من أسلحتى، ولكننى مع ذلك أقدمت بلا اكتراث وبلا موازنة بين ما سأكسبه وما سأخسره!

نعم بلا موازنة بين ما سأكسبه وما سأخسره، هذا هو المبدأ الذى به أدين عشت عليه وسأموت عليه، وها هى حياتى الصحفية مبسوطة أمام الناس، إن استطاع أحد أن يدلنى على ما ينقضه أو يغاير حقيقته لأكونن إذن من الكاذبين.

هاهى ذى المجلة الأسبوعية فى وزارة «محمد باشا محمود» ثم فى وزارة «إسماعيل باشا صدقى» ثم فى وزارة «عبدالفتاح باشا يحيى» ثم فى وزارة «توفيق باشا نسيم»!

وهاهى ذى الجريدة اليومية ولها من العمر أحد عشر شهرًا.

هاهى ذى المجلة، وهاهى ذى الجريدة، وقد تقلبت على كلتيهما ظروف ومحن، وقد غامرت كلتاهما فى جحيم من الأهوال واقتحمت كلتاهما ما تشيب له النفوس قبل الرءوس!

أى إنسان يدلنى على ظرف واحد من الظروف التى اجتزتها، وقفت فيه أتأمل وأوازن بين الكسب والخسارة، أو أساوم أحدًا أو هيئة أو وزارة على عمل أعمله أو موقف أقفه؟!

لن يستطيع ذلك أحد قبل أن أمد يدى فأستل نفسى من بين جنبى!

وتمضى السيدة «روزاليوسف» فى مقالها فتروى قصة الخلاف مع الكاتب الكبير الأستاذ «محمود عباس العقاد» فى الجريدة اليومية فتقول:

عقيدتى الأولى والأخيرة إذن هى مصر والصالح العام.

وعندما التقيت والأستاذ «عباس العقاد» التقينا على هذه العقيدة، وتكاتفنا على خيرها وشرها، خيرها للوطن، وشرها مما قد يصيب أشخاصنا وأرواحنا وسمعتنا.

وكان الذى يعرفه القراء من كفاحنا وجلدنا وإصرارنا على التضحية.

وكان الذى يعرفه القراء ولا ينكره أحد من ثمرات إقدامنا، تلك الثمرات التى جنتها الأمة من استرجاع دستورها واتحاد كلمة زعمائها فى جبهة وطنية رائعة لو عاشت - ونرجو أن تعيش - لفعلت لخير مصر فى شهور ما لم يستطع أن يفعله الجهاد المفكك فى سنوات!

ثم اختلفنا مع الأستاذ «العقاد» على خير الوطن أيضًا، بعد أن رأيت أن خطة جريدتى السياسية لا يجب أن تخرج على إجماع انعقدت عليه قلوب الأمة، ونحن قوم لا نقيم وزنًا للأشخاص، ولا لأعمالهم ولا لما أذونا به، مادام نفع الوطن قد وضع ووضعنا بفضله نحن - فوق الأشخاص! 

وافتراق الأستاذ «العقاد» منا تضحية من ناحيتنا لا تقل شأنًا عن سابق تضحياتنا، ولكنى وقد أخذت على نفسى عهدًا لا أخونه، وهذا العهد هو ألا أوازن بين الكسب والربح، أو الخير والشر، فيما تدفعنى إليه عقيدتى الوطنية، وقد أقدمت على هذه التضحية الجديدة بأسف وارتياح!

أما الأسف فعلى مفارقة زميل عزيز، أما الارتياح فلاستطاعتى التغلب على نفسى وأحقادى من أجل الوطن وصالح الوطن.

وهذا «المصرى أفندى» الرمز الذى ابتكرته مجلتى الأسبوعية، والذى شاركنى كل محنة، وأضفى علىّ من العطف والتشجيع فى كل نصر يحرزه هذا المصرى أفندى إنى معه إلى النهاية فى المحنة وفى المجد..».

هذا واحد من عشرات المقالات المهمة والنادرة للسيدة «روزاليوسف»، وأظن أن قراءة هذه المقالات من جديد تكاد تشكل ذكريات أخرى لا تقل أهمية عما روته فى ذكرياتها.

«روزاليوسف» لم تعد مجلة، بل أصبحت على حد وصف السيدة «روزاليوسف» مدرسة تلمع فيها الأقلام الشابة، وتتخرج فيها الوجوه الجديدة الناجحة».

ولن تكتمل قصة وسيرة «روزاليوسف» إلا بالاقتراب من ذكريات هؤلاء الذين التحقوا بهذه المدرسة فنجحوا وبرزوا وتألقوا.

كان الكاتب الكبير الأستاذ «محمد التابعى» أول من فكرت فى اسمه السيدة «روزاليوسف» ليعاونها فى إصدار المجلة وتقول فى ذكرياتها:

«كان التابعى فى ذلك الوقت موظفًا فى مجلس النواب، ويكتب النقد الفنى لجريدة الأهرام، وعلمت أنه فى الإسكندرية فاتصلت به تليفونيًا أدعوه للحضور للاشتراك فى تحرير مجلة «روزاليوسف» ولم يصدق التابعى وأخذ يحاورنى ويظننى أسخر منه أو أدبر له مقلبًا، ولكنه لم يجد آخر الأمر بدًا من أن يحضر إلى القاهرة ويشهد بعينيه».

كان التابعى بأفكاره الصحفية وأسلوبه البارع هو الذى قاد سفينة «روزاليوسف» منذ العدد الأول فى 26 أكتوبر سنة 1925 وحتى وقع الخلاف مع «روزاليوسف» صيف عام 1934 وفيما بعد كتب الأستاذ التابعى يقول:

كان شيئًا غريبًا أن تحمل مجلة، ومجلة سياسية بالذات اسم سيدة وسيدة معروفة، فكانت الصعوبة التى تواجهنا نحن كيف نحمل القراء على أن ينسوا أن هذا اسم سيدة وأن يأخذوا كلام المجلة على محمل الجد، وكانت هذه أكبر صعوبة واجهتنا فى أول الأمر.

أقول مخلصًا من كل قلبى، أنه لو كان هناك شخص آخر امرأة أو رجل فى مكان الزميلة الصديقة السيدة «روزاليوسف» لكان أكبر الظن أنه يأس وأوقف المجلة عن الظهور عند عامها الأول، لو كان أقل إرادة منها بسبب المصاعب التى لاقتها ولكن عزيمتها تغلبت على كل شىء!

«روزاليوسف» بالنسبة لى لم تكن صديقة فحسب، وإنما كانت شريكة الشباب، كانت رفيقتى فى الكفاح الطويل الشاق، كانت جزءًا من صراعى فى الحياة، وكنت جزءًا من حياتها المليئة بالعرق والدم والدموع، كان اسمى يظهر إلى جوار اسمها فى عشرات المجلات التى أصدرناها فى قضايا الصحافة.. فى محاكم الجنايات، فى معارك الحرية التى خضناها، وكنت أجد فيها الصديق الوفىّ والزميل القوى والشريك فى المحن والخطوب، ورأينا الفشل معًا والنجاح معًا وذقنا الإفلاس معًا والأرباح معًا، ومررنا فى الهزائم والانتصارات جنبًا إلى جنب، وانقطعت شركتنا ولم تنقطع صداقتنا، فرقتنا الأيام ولكنها لم تستطع أن تنسينا ذلك الماضى الملىء بالأحلام والآلام».

وقبل ذكريات الأستاذ محمد التابعى أتوقف أمام شخصية مهمة فى تاريخ «روزاليوسف» وأحد أصدقائها المقربين، وهو الأستاذ إبراهيم خليل الكاتب الصحفى بجريدة البلاغ وصهر صاحبها الأستاذ «عبدالقادر حمزة» وهو الذى وضع ميزانية وتكلفة إصدار العدد الأول من المجلة، الذى يقول:

«كانت إدارة «روزاليوسف» وتحريرها فى غرفة متواضعة فى الشقة التى كانت تسكنها صاحبتها فى إحدى عمارات أمير الشعراء أحمد شوقى، وتطبع مجلتها فى مطبعة بعيدة عن الإدارة، وفى ليلة كنا مجتمعين لبحث شئون المجلة رأينا أنه ينقصنا إحدى وسائل النقل كسيارة أو موتوسيكل، أو دراجة لتسهيل عملية التحرير والإدارة كنقل الكليشيهات وأعداد المشتركين والمرتجعات فماذا نعمل؟

وبطبيعة الحال استبعدنا فكرة شراء سيارة أو موتوسيكل لضيق ذات اليد، وحتى الدراجة التى وقع الاختيار عليها لم يكن معنا ثمن الجرس المركب عليها، وكانت شركة «صوصة» للسجاير فى ذلك الوقت تضع داخل علب السجاير كوبونات صفراء وخضراء طبقًا لقيمة ثمن العلبة! الكوبون الأصفر قيمته قرش صاغ ومكانه العلبة التى قيمتها سبعة قروش وهى أغلى علبة، فإذا جمعنا «450 كوبونًا» حصلنا على دراجة من مخزن هدايا «صوصة»، وهات يا شرب سجاير وحرق دم، واشترك معنا زوار المجلة وأصدقاؤها فى شرب سجاير صوصة لمدة ثلاثة أشهر حتى حصلنا على عدد الكوبونات، وحصلنا على دراجة «روزاليوسف»! واحتفلنا بمقدمها واشترينا لها جرسًا ومنفاخًا وسلسلة وقفلًا حديديًا خوفًا من الضياع!

وتقاسمنا أنا والأستاذ التابعى ركوب الدراجة، وكان التابعى يستعملها بعد انتهاء عمله فى قسم الترجمة بمجلس النواب وفى بعض أعمال المجلة مثل التوجه إلى ورشة الزنكوغراف أو عند شراء مجلاته والعودة بها إلى إدارة المجلة فى المساء، وتظل معى إلى اليوم التالى حيث تحملنى إلى المنزل لتوفير مصاريف الانتقال!

وفى مقال آخر عنوانه: «أيام القرش والملاليم» كتب يقول:

إن أيام الفقر التى عشناها تقرب من أربع أو خمس سنوات، وكان فى مقدور السيدة روزاليوسف أن تعيش حياة «أرغد» كلها «نغنغة» إذا هى لم تختلف مع حكومة الوفد، فقد كان الوفد ممثلًا فى سكرتيره «مكرم عبيد» لا يرغب أن تصدر روزاليوسف جريدة يومية تحمل اسمها وقال: أطلقوا عليها أى اسم تشاءون دون اسم روزاليوسف!

ورفضت السيدة روزاليوسف هذا وصممت على إصدار جريدة يومية وفدية! 

وما أكثر تلامذة روزاليوسف والذين عبروا عن بالغ امتنانهم لهذه المدرسة التى أسستها العظيمة الرائعة فاطمة اليوسف:

روزاليوسف التى قال عنها الأستاذ الكبير «محمد حسنين هيكل» الشخصية الخارقة للعادة التى أعطت لهذه المؤسسة اسمها وكانت بالفعل بانية صرحها وصانعة تاريخها ومحركة دورها وملهمة تأثيرها فى حياتنا العامة. والسيدة «روزاليوسف» نفسها كان لها التأثير الأكبر فى حياتى كلها، فقد كانت لديها القدرة على دفع الإنسان بقوة إلى العمل، وإشعال غريزة التفوق فى نفسه، لقد كنت آخذ منها خمسة جنيهات فى الشهر ولكنى أعمل بمليون جنيه!

لقد كانت هذه السيدة تملك كمية كبيرة غير معقولة من الرقة الملهمة والقوة الدافعة».

روزاليوسف التى وصفها الأستاذ الكبير «أحمد بهاء الدين» بقوله: كانت السيدة روزاليوسف سيدة عظيمة بكل معانى الكلمة، إن قصتها لم تكتب بعد، بدأت من نقطة الصفر من ممثلة كومبارس إلى نجمة المسرح الأولى إلى صاحبة أجرأ مجلة فى الصحافة وقتها، إنها الوحيدة التى صنعت نفسها حقًا، فقط أشير إلى عنادها الأسطورى، وموهبة أخرى نادرة هى بث الثقة فى الناس وتشجيع الكفاءة بنزاهة هائلة، فهى فوق المنافسة، وفضلها وأثرها علىّ كصحفى لا يماثله أى تأثير آخر!

إن سر «فاطمة اليوسف» وجوهرها النادر هو هذه الإرادة، إرادة لا تضعف فى وجه أى شيء، إرادة تستصغر الخطر وتبتسم للمحنة وتجعل كل شيء يبدو ممكنًا فى عينها وفى أعين الذين حولها.

وليست هذه الإرادة موهبة عادية يتساوى فيها الجميع، إنها موهبة لا يحظى بها إلا القليلون النادرون، إنها إرادة مركبة من جوهر غريب نادر يفتت الذرة ويشق الطرق المغلقة ويخلق الوجود من العدم.

روزاليوسف التى كتب عنها الأستاذ الكبير «مصطفى أمين»: لم تكن .. روزاليوسف سيدة فقط ولا مجلة فقط ولكنها كانت ولا تزال مدرسة صحفية ومن هذه المدرسة خرج كثيرون من الصحفيين اللامعين، ومن هذه المدرسة خرجت عدة مدارس صحفية لعبت دورها فى انطلاق الصحافة فى الشرق الأوسط.

ولكن.. روزاليوسف، المرأة كانت مخلوقًا عجيبًا، كانت صاحبة شخصية طاغية، وكانت لها قدرة عجيبة على أن تحتل قلوب الذين يعملون معها، فلم تكن صاحبة عمل، بل كانت أمًا وصديقة وأختًا، وكانت قدرتها أمام النضال تثير دهشتنا، كانت العواصف تزيدها ثباتًا، وكانت الصدمات تضاعف من عنادها، وكانت تقاوم الطغيان والطغاة بشجاعة ألف رجل وإيمان مائة ألف رجل، ومرت علينا أيام كلها ظلام ويأس، فما رأيت هذه المرأة تحنى رأسها مرة واحدة.

روزاليوسف التى كتب عنها «صلاح حافظ» مايسترو الصحافة:

هذه السيدة لم تكن أصلًا ولم تكن أبدًا صحفية، كانت فنانة، نعم ممثلة مسرحية نابغة، نعم مولعة بالقراءة نعم، لكنها لم تكن صحفية حاذقة ولا كانت موهوبة، ولم يكن التعبير بالقلم مهنتها، ولا هى حاولت أن تمارسها، كانت كل صلتها بمهنة الصحافة أنها آمنت بها واحترمتها وأحبت الدور الذى تقوم به، فوظفت ذكاءها وقدراتها فى خدمته.

لم تكن صحفية ولا كاتبة، ولكن سرها كان الإيمان الحقيقى الراسخ المطلق برسالة الصحافة والكتابة، كانت عاشقة وكانت الصحافة رجلها المعشوق، وفى سبيله هانت عليها كل تضحية! سواء بعملها المسرحى أو بقروشها القليلة التى لا تملك غيرها أو براحتها كامرأة جميلة يمكن أن تستقر فى بيت زوج بالغ الثراء أو حتى بسمعتها التى أصبحت عرضة للتجريح منذ صارت لها صحيفة تجلب عليها المتاعب والخصومات وتعرضها للضرب تحت الحزام وبكافة الأسلحة الأخلاقية وغير الأخلاقية.

وقد نجح هذا الإيمان وحده، وهذا العشق الحقيقى لمهنة الصحافة والاحترام الحقيقى لها، فى أن يصنع من المجلة - التى قيل يوم صدورها إنها مجرد نزوة لصاحبتها - مدرسة للصحافة المصرية ينتمى إليها ويعتز بالتخرج فيها معظم نجوم هذه الصحافة على امتداد نصف القرن الماضى بأكمله.

روزاليوسف التى كتب عنها الأستاذ الكبير «فتحى غانم» يقول: من تقاليد السيدة روزاليوسف التى هي تقاليد «روزاليوسف» المجلة التعامل مع الحياة وخلق الآفاق الجديدة للحياة الجديدة، إن فى كل ورقة وفى كل سطر وفى كل كلمة فى هذه المجلة، أثرًا فى عينيها وابتسامتها وصوتها وأناملها الرقيقة إلى جانب أفكارها ومشاعرها.

وتاريخ «روزاليوسف» هو تاريخ «فاطمة اليوسف» وأهم ما يتميز به تاريخ فاطمة اليوسف هو الأصالة، إنها شخصية فريدة لا مثيل لها، ليس في حياتها ولا في أفكارها ولا في شخصيتها شىء واحد قلدت فيه أحدًا «كانت دائمًا تعبر عن نفسها، تقول رأيها.. لا تتأثر بأحد ولكنها تؤثر فى الآخرين.. تتقدم الصفوف، وتقف فى الطليعة وتؤدى دور رأس الرمح فى كل معارك الرأى العام التى تخوضها».

ومهما طال الكلام عن السيدة روزاليوسف فهو قليل، وأختتم هذه الشهادات للأستاذ الكبير «حسن فؤاد» والذى شارك روزاليوسف وعمل معها سواء فى المجلة أو صباح الخير وفى شهادته يقول:

عندما دخلت روزاليوسف لأول مرة لأعمل بمرتب ثابت كان ذلك بعد أزمة مارس 1954 التى أغلقت بسببها جريدة المصرى التى كنت أعمل بها، ولم أكن قد بلغت الثلاثين عامًا بعد، وكان دخول مجلة روزاليوسف بمثابة قفزة صحفية كنت أتمناها طوال حياتى، ففيها كان مجموعة من الأساتذة والأصدقاء الذين عرفتهم فى ظروف مختلفة، ولكن لم يكن حظ العمل إلى جوارهم من قبل: فاطمة اليوسف، إحسان عبدالقدوس، أحمد بهاء الدين، وأصدقاء العمر جمال كامل وصلاح حافظ.

يتحدث «حسن فؤاد» عن رموز روزاليوسف فيقول عن السيدة روزاليوسف: من هذه الرموز الدافعة لبهجة الحياة فى مبنى روزاليوسف كانت السيدة فاطمة اليوسف نفسها صاحبة المجلة ومؤسستها وصاحبة الكلمة الأولى والأخيرة، وإن لم يبد هذا للجميع، كانت حجرتها على يسار الداخل للدور الثانى فى المجلة، إذا دخلت الحجرة تشم عطرًا رقيقًا وتتصور أنك فى حجرة «برمادونا» وراء الكواليس.. حجرة مكتب «روستيك» من الخشب الجوزى، وستائر وردية وإلى جانب المكتب تجلس السيدة فاطمة اليوسف بشعرها الفضى ووجهها الأبيض المشبع بالحمرة وعينيها اللتين تلمعان بالحنان والذكاء.

وكان من عادتها فى السنوات الأخيرة أن تمد ساقها المريضة على كرسى صغير لونه أحمر أشبه «بالكمبوشة». فيضفى عليها كل هذا شكلاً كلاسيكيًا غريبًا وخاصة فى دار صحفية، فإذا تكلمت سمعت صوتًا أنثويًا عميقًا طالما هز أرجاء المسرح فى الثلاثينيات، وإذا ما رضيت «الست» كما ينادونها فإنك تستمتع بالجلوس إلى جزء مهم وصريح من تاريخ المسرح المصرى، وتكتشف بالتدريج أنك تجلس مع عدة نساء اجتمعن فى شخصية واحدة! فهى «الأم» عندما يقبل عليها إحسان فى الصباح لتقبيل يدها، وهى الناقدة اللمّاحة عندما يأتى الصديق المقرب «المخرج» أحمد كامل مرسى، وهى الصحفية عندما يدخل «أحمد بهاء الدين»، وهى صاحبة المال عندما يأتى «إبراهيم خليل» مدير الخزانة بحسابات الإعلانات والتوزيع.

وفى كل هذه المراحل تحس بالعناد والحزم والشجاعة، نفس الصفات التى جعلتها تقف فى وجه حزب الوفد المصرى وهو فى عز قوته ونفوذه، وعندما كانت تصفو لم يكن فى الدنيا أرق منها سيدة، أما إذا غضبت لسوء الحظ فهى إعصار يجرف أمامه عشرات الرجال!

كانت روزاليوسف مجتمعًا مثيرًا يتمنى أى شاب أن يعمل فى مجلاتها ولو بلا مقابل، كانت فيضًا من الشخصيات الغريبة المدهشة تعيش وتعمل وتتآلف وتختلف، ولكن يجمعها فى النهاية مصروف أسبوعى كانت السيدة «روزاليوسف» تصرفه من حقيبة يدها!

كان رأيها هو النهائى فى كل المسائل وخاصة المسائل المادية، أما المسائل الصحفية فهى تستسلم لرأى الآخرين إذا اقتنعت بعد أن تضيف إليه لمسة الخبرة الطويلة فى المسرح والصحافة، فهى الوحيدة التى كانت تعرف كيف تؤتى كل فكرة ثمارها من النجاح وسط الجماهير. العزيزة الغالية «روزاليوسف»

دامت روحك ترفرف حول أبنائك وأحفادك، ويتذكرونك فى كل وقت بالحب والاحترام والتقدير شخصية أسطورة يندر أن تتكرر وكل عام مجلتك بألف خير.