الأحد 5 مايو 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري
رئيس مجلس الإدارة
هبة الله صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري
لقاء عابر مع السيدة روزاليوسف فى مقهى كساب

لقاء عابر مع السيدة روزاليوسف فى مقهى كساب

كانت الأمطار تتساقط بغزارة فى وسط البلد والشوارع تكاد تصبح خالية من المارة وأنا أبحث عن مكان أحتمى فيه من الأمطار التى لم تشهدها القاهرة منذ فترة طويلة.



فى الممر المجاور لسينما ديانا كانت هناك قهوة عتيقة الطراز تعجبت أننى لم أشاهدها من قبل دخلتها على عَجَل كانت على الطراز الأوروبى من حيث ترتيب المقاعد وكثرة المرايات وشعرت بالدفء؛ خصوصًا بعد أن تقدّم جرسون عجوز يسألنى عن طلبى، ورديت: شيشة قَص وشاى.

 

ابتسم الرجل وعاد بعد دقائق يحمل كوبًا من الشاى الساخن أمسكته بكلتا يدىّ بحثًا عن الدفء وبدأت أنفث دخان الشيشة وأنا أتطلع إلى المرايات العتيقة داخل المقهى.

إلى جوارى كانت مراية عتيقة...... جزء من دهان الإطار الذهبى  بتاعها أوشك على السقوط مسحته بيدى فسقط الدهان ولمحت اسمًا مكتوبًا بالإنجليزية أخرجت منديلاً ورق لأمسح الغبار عن الاسم حتى وجدت الاسم بدا بالظهور واضحًا كان الاسم هو حلوانى كساب.

زاد صوت الرعد  بينما أضاء البرق المكان بشدة حتى أغلقت عينىّ وعندما فتحتهما كان المكان أكثر جمالاً وأناقة وحتى الأفراد أكثر شياكة والجرسون العجوز بدا شابًا وسيمًا يرتدى البابيون ويقدم فنجال من القهوة وقطعة ميلفية إلى سيدة   متقدمة فى السّن لكنها رائعة الجمال وهو يقول القهوة يا روز هانم.

اندهشت ونظرت حولى ووقعت عيناى على جريدة الأهرام  ملقاة على ترابيزة إلى جوارى وتطلعت إلى التاريخ كان يشير إلى يناير 1956.

بدأت الأسئلة تتزاحم فى رأسى هل دخلت فجوة زمنية نقلتنى إلى الماضى، وقبل أن أسترسل قلت لن أبحث عن تفسير يبدو أننى أمام فرصة أغتنمها ثم أفكر فيما حدث، أنا أمام السيدة روزاليوسف شخصيًا.

تقدمت إلى الهانم وأنا متردد لكن ابتسامتها المشجعة جعلتنى أبدأ الحوار:

روز هانم أنا صحفى وعايز أعمل حوار مع حضرتك.. 

نظرت بابتسامة  وقالت: أكيد صحفى مش شاطر.. 

سألتها ليه؟

قالت لأن الصحفيين الشطار بيشتغلوا فى روزاليوسف وأنا أعرف كل العاملين فيها بما فيهم المتدربين وانت مش فيهم.. 

قلت اسمحى لى يا هانم أن يكون حوارى معك هو بوابة الدخول إلى عالم روزاليوسف الصحفى؟

قالت: لو عجبنى الحوار سأنشره عندى فى المجلة.. 

قلت لها اتفقنا.. 

بدات الأسئلة... عايز أعرف كيف تخلت سارة برنار الشرق عن المَجد الفنى لتسعى وراء حلم وسراب صحفى قد لا تحقق فيه النجاح المنشود؟

ضحكت برقة وقالت ما زال هناك من يذكر سارة برنار الشرق وده شىء جيد. 

هل تعلم أننى دخلت الفن بحثًا عن الحرية وعندما أصبح الفن عبئًا على حريتى قررت أن أتخلى عنه بإرادتى مع أننى كنت الأعلى أجرًا فى التاريخ الفنى وكنت أحصل على 70 جنيهًا شهريًا. 

سألتها يعنى حوالى 7 آلاف جنيه شهريًا بسعر اليومين دول؟

ابتسمت وقالت: ضيف كمان صفر... واستطردت: قررت الاعتزال فى الصباح ... وفى المساء كنت أجلس فى نفس المكان مع الأصدقاء إبراهيم خليل ومحمود عزمى أطرح عليهم فكرة إنشاء مجلة فنية هادفة بدلاً من المجلات الهزلية التى كانت تسىء للفن وللصحافة. 

سألتها: هل وجدتِ استجابة قوية؟

قالت: خلينى أسميها استجابة فاترة.. فى هذا التوقيت كانت السيدات يعانين من مجتمع لم يتقبلهن بالكامل كشريك صاحب رأى وتجربة.. 

ابتسمت وقالت: أنت عارف أن الأستاذ المازنى فى أول عدد كتب مقال هاجمنى فيه لأننى دخلت مجال يعجز أغلب الرجال عن الدخول فيه!

سألتها: ولماذا قبلت بنشر المقال؟

أخرجت سيجارة وأشعلتها ثم نفثت الدخان وهى تقول: الحرية أنا أعشق الحرية، هو عنده وجهة نظر كتبها باحترام وأنا رديت عليه فى نفس العدد باحترام أيضًا. 

قلت لها: والأستاذ التابعى؟

قالت: ماله؟

قلت: اخترتيه إزاى؟

سرحت لحظة وقالت: لدى كل إنسان ملكة أو موهبة حباه الله بها وأنا أزعم بقدرتى على اختيار الكفاءات من البشر، وعندما اخترت التابعى كنت أرى فيه نجم صاعد وعندما ترك المجلة وذهب مع مصطفى أمين وعلى أمين لم أهتز وأحضرت العقاد وعبدالقادر حمزة.

سألتها: روزاليوسف كمجلة كانت محسوبة على الوفد؟

قاطعتنى سريعًا: كانت محسوبة على الوفد طالما الوفد مع الحريات وعندما ابتعد الوفد عن الحريات ابتعدت عنه المجلة،  لقد تعرضت المجلة مرّات كثيرة للمصادرة والتوقف ودخلت السجن بسبب دفاعى عن رأيى وبوصلتى هى مصلحة وطنى، أنا إنسانة أتنفس حرية ومجلتى جزء من شخصيتى لو لم تكن حرًا من داخلك لن تنجح معى.. 

قلت لها: هل يمكن أن أسأل سؤالاً شخصيًا؟ 

أومأت برأسها بالقبول.. 

قلت: هل الحرية التى قصدتيها هى من جعلت فترة زواجك من الأستاذ محمد عبدالقدوس قصيرة لدرجة أن الطلاق تم قبل ولادة الأستاذ إحسان؟

قالت: الأهم من السؤال الشخصى أننى ناضلت من أجل الحرية فى مواجهة الجميع وفى كل العصور. 

قلت: هل تقصدين خطابك إلى الزعيم الراحل جمال عبدالناصر؟ 

أومأت برأسها وقالت: كتبت إلى جمال عبدالناصر سنة 1953 فى عز التوتر الحاد بين مجلس قيادة الثورة وبين الصحفيين وقلت له: 

إنك بحاجة إلى الاختلاف تمامًا كحاجتك إلى الاتحاد وأن أى مجتمع سليم يقوم على هذين العنصرين معًا ولا يستغنى بأحدهما عن الآخر. 

لا تصدّق ما يقال إن الحرية شىء يمكن أن يباح فى وقت ولا يباح فى وقت آخر، فالإنسان لا يتنفس فى وقت دون  آخر. 

إنه يتنفس حين يأكل وحين ينام وحين يحارب أيضًا.. 

 قلت لها: لن أجد أفضل من تلك الإجابة لكى أنهى الحوار لكن هناك سؤال يلح فى بالى ألم تشتاقى يومًا لخشبة المسرح؟

قالت: اشتقت كثيرًا جدًا لكن نجاح مشوارى الصحفى عوضنى. 

قمت للسلام عليها ويدى خبطت فنجان القهوة أسقطت ما تبقى منه على بنطلونى. 

فاسرعت روز هانم وأخرجت منديلا ورديًا من حقيبتها الأنيقة أخذت أمسح به القهوة. 

وبينما أنا منهمك فى تنظيف البنطلون شعرت بخبطات أصابع على كتفى.. 

 انتبهت فرأيت الجرسون وهو يقول: شطبنا يا أستاذ. نظرت حولى كان المقهى كما دخلته منذ لحظات والجرسون عجوز فى نفس سنّه المتقدمة ولا يوجد غيرى فى المقهى.. 

 يبدو اننى كنت أحلم، دفعت الحساب وخرجت من المقهى أبحث عن تاكسى وضعت نفسى فيه وبحثت فى جيبى عن نقود لدفع الأجرة فوجدت منديلاً وردى اللون مطرز عليه حرف الآر باللغة الإنجليزية وعليه بقايا قهوة عالقة.