الخميس 25 أبريل 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري
رئيس مجلس الإدارة
هبة الله صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري

كتاب و أديب.. الكاتب النمساوى «زفايغ» يحذر من خطورة الديكتاتورية «عنف الديكتاتورية» كتاب يبرز مخاطر تحول المصلح لديكتاتور عنيف "الحلقة 5"

لم تكن محاكم التفتيش أصعب الفترات التى مرت فى تاريخ الكنيسة، فهناك العديد من الفترات التى سجلها التاريخ ونقلها لنا الكتاب والأدباء.



ومن أبرز تلك الكتب كتاب«عنف الديكتاتورية للكاتب النمساوي «ستيفن زفايغ» والذى تحدث فيه عن كيفية تحول أفكار الفرد عندما تتاح له الفرصة فى أن يتسلم مقاليد السلطة، تلك القوة التى استطاعت أن تغير أفرادا وتحولهم من مصلحين ينادون بحرية المعتقد والفكر لديكتاتوريين يمارسون شتى أنواع التنكيل والتعذيب والاضطهاد لمن يخالف رأيهم وتوجههم.

وزفايغ المبدع النمساوى الذى يحمل الجنسية البريطانية ذو الأصول اليهودية والذى لقبه البعض «بديستوفيسكى النمساوي» وُلِدَ  فى 28 نوفمبر عام 1881 فى فيينا وكان يعتبر من أبرز الكتاب والمؤلفين فى أوروبا خلال السنوات الأولى من القرن العشرين،  بدأ زفايغ  بكتابة الشعر فى مرحلة الدراسة الثانوية، ثم ذهب إلى برلين لدراسة الأدب الألمانى والفلسفة، وبعد الانتهاء من دراسته جاب أوروبا وأفريقيا وأمريكا متعرّفاً إلى كتّاب آخرين.

كان زفايغ صاحب نظرة سلميَّة إلى العالم، ومع ابتداء الحرب العالميَّة الأولى أعلن أنه غير صالح للخدمة العسكرية واكتفى بالعمل فى الصحافة والمكاتب الدعائيَّة التابعة للإمبراطوريَّة النمساويَّة، وبعد تسريحه من الخدمة انتقل إلى زيورخ حيث عمل مراسلاً لإحدى صحف فيينا، وبعد انتهاء الحرب عاد إلى النمسا وعاش فى سالزبورغ حتى عام 1933.

آمن زفايغ بأوروبا موحّدة، وهو ما جعله فى مواجهة مع النازيّة، وعلى الرغم من أنه اشتهر بمعادية الصهيونية «كما وصف نفسه بأنَّه «يهوديّ بالمصادفة»، إلا أنَّ كتبه لم تنجُ من تبعات أفكاره المتعلقة بالدفاع عن المثل العليا والإيمان بالسلام التى انعكست من خلالها بطبيعة الحال، فانضمَّت إلى الكتب الممنوعة التى تقرَّر حرقها عام 1933.

 وقبل وصول هتلر والحزب النازيّ إلى السلطة فى ألمانيا غادر النمسا عام 1934 متنقلاً من فرنسا إلى إنجلترا ثم الولايات المتحدة قبل أن يصل إلى البرازيل التى كانت مستقرّه الأخير.

فى عام 1933 وصل النازيون إلى السلطة بانتخاب ديموقراطي، لكنهم ما لبثوا أن حوَّلوا ألمانيا إلى ديكتاتورية تنافس الستالينية فى عنفها وبشاعتها. 

وأدرك زفايغ الخطر، وأراد أن يطلق صرخة التحذير،   فلجأ إلى التاريخ ونشر كتاب « عنف الديكتاتورية» والذى تحدث فيه عن تحول المصلح البروتستانتى «جون كالفن» إلى ديكتاتور مستبد جعل من فيينا مدينة صماء تتشح بالكآبة والسواد.

كانت نهاية زفايغ نهاية مثيرة كتب خاتمتها بنفسه حيث كان هو وزوجته الثانية ولالوت التمان فى رحلة إلى  البرازيل وهى التى عملت قبل ذلك سكرتيرة ومساعدة له.

ووصف زفايغ البرازيل  بالجنة الموعودة التى لا يتقن أهلها سوى الحبّ والرقص والإخاء الإنساني، أو «أرض المستقبل» كما ذكرها زفايغ فى رسالته  والتى تركها قبل انتحاره فى 22 فبراير عام 1942 موجّهاً خالص شكره الصادر من القلب إلى البلد الرائع الذى منحه راحة تكشف عن بالغ الود وكرم الضيافة والذى تعاظم حبّه له يوماً بعد آخر، مؤكّداً أنَّه ما كان ليبنى حياة جديدة إلا فيها.

 وقال فى رسالته «إنَّ المرء بعد أن ناهز الستين من العمر يحتاج إلى طاقات استثنائيَّة كى يبدأ بداية جديدة من الصفر، وإنَّ ما لديه من طاقات قد استنزفتها منه أعوام التيه المديدة، وإنَّ من الأفضل أن يضع حداً لحياته فى هذا الوقت المناسب، وهو مرفوع الرأس. ليتمنى بعدها لأصدقائه رؤية الفجر بعد ليلٍ مظلمٍ طويل، معلناً أنَّه وبعد أن نفد صبره قرَّر أن يتقدَّمهم ويرحل قبلهم.

وفى اليوم التالى انتشرت الرسالة  بعد بثها فى الإذاعات ونشرها فى الصحف، لتنظم له البرازيل جنازة رسميَّة حضرها رئيس الجمهوريَّة الجنرال جيتوليو فارغاس (1882 - 1954) ومجموعة كبيرة من المثقفين والأدباء. 

ولكن زفايغ لم ينتحر وحده، بل كانت معه « زوجته لوت، بعد محاولات مضنية منها لثنيه عن قراره، حيث شاركته ابتلاع عشرات الأقراص المنومة قبل أن تشاركه عناقاً أخيراً.

كما أعطى كلبه جرعة مشابهة ليفارق بدوره الحياة أمام باب غرفتهما.

وفى السنوات الأخيرة عاد اسم زفايغ ليتوهَّج بقوة وهو الذى لم يغب يوماً عن الساحة الأدبيَّة، من خلال فيلم «وداعاً أوروبا» الذى أنجزته المخرجة الألمانيَّة ماريا شرادر متناولةً مأساة انتحاره وروت فيه المراحل الأخيرة من حياته التى تزامنت وتهاوى رؤيته المتفائلة فى مقابل صعود الفاشيَّة والنازيَّة، ليأتى عرض الفيلم فى فترة تعيش فيها أوروبا عودةً إلى النزعات القوميَّة وتراجعاً فى الحلم الوحدوى الذى أسَّس لثقافة أوروبيَّة عابرة للحدود الوطنيَّة

عام 1936، نشر ستيفان زفايغ كتابه، وكان بعنوان كاستيليو ضد كالفن، أو ضمير ضد العنف، واختار له حقبة زمنية ترجع أربعة قرون إلى الوراء. 

يتمحوّر الكتاب على ثلاث شخصيات رئيسية: جان كالفن، وميغيل سيرفيت، وسيباستيان كاستيليو.

 كالفن يأمر عبر مجلس مدينة جنيف الخاضع كلّياً له بإعدام سيرفيت حرقاً، والسبب، وفق كالفن، ليس سوى انحرافات عقائدية.

ويتمّ تنفيذ مشيئة كالفن، ويُحرق سيرفيت علناً فى إحدى ساحات جنيف. كاستيليو، المؤيد لكالفن، يثور ضدّ هذا العمل الشائن، ويدافع عن حرية الضمير، ويدعو إلى مقارعة الحجة بالحجة، وعدم اللجوء إلى العنف من أجل إثبات الحقائق الدينية. كاستيليو ينجو من مطاردة كالفن الذى كان ينوى محاكمته أيضاً، ويتوفّى بعد معاناة مع المرض.

 يتحدث زفايغ عن كالفن  ضحية الاضطهاد الدينى الذى يتحوّل إلى جلاد يمارس بدوره الاضطهاد الدينيّ وهو الشخصية الرئيسية كأحد أعمدة البروتستانتية.

جاء جان كالفن إلى جنيف من فرنسا هربًا من محاكم التفتيش الكاثوليكية، هو المنضم حديثًا إلى المذهب البروتستانتي. وبدأ حياته المهنية قسيسًا فى كاتدرائية سان بيار فى جنيف، وما لبث خلال فترة زمنية قصيرة أن أمسك بزمام الأمور، وأن أضحى الحاكم الأوحد، محوِّلاً المجتمع الديموقراطى إلى ديكتاتورية لا رأى فيها سوى رأيه، وكل الأصوات أصداء لصوته، والويل لمن يعترض.

وكان كاستيليو فى البداية من أنصار كالفن، لكنه لم يتحمل الطغيان وقمع الحريات والزيف الكبير، إذ تحوَّل دعاة الإصلاح إلى جلادين يتعاملون مع المعترضين بالعنف، ويذيقونهم أشد أنواع العذاب، من السجن إلى الحرمان من الحقوق المدنية، بلوغًا إلى الإعدام، ومنه الإعدام حرقًا.

عندما أمر كالفن بإحراق المعترض ميغيل سيرفيت وأُشعلت النيران فى جسده وهو على قيد الحياة، تمزق كاستيليو غيظًا، وبدأت المعركة بينه وبين كالفن.

ولم تكن مجرد معركة بين شخصيتين، بل بين تيارين ومنهجين: بين القمع والحرية، بين العنف والحوار، بين التعصب والتسامح، بين الديكتاتورية والديموقراطية.

 لم يكن زفايغ الوحيد الذى أرخ ممارسات بعض رجال الدين بعد وصولهم للسلطة فقد جاء بعده الكاتب الأمريكى «إريك فراتيني» ليسجل خمسة قرون من ممارسات الفاتيكان فى كتابه «الكيان» والذى سنعرضه فى الحلقة القادمة بإذن الله.