الإثنين 13 مايو 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري
رئيس مجلس الإدارة
هبة الله صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري

«روزاليوسف» تسرد سيناريو الفيلم على حلقات بدءًا من العدد القادم ننفرد بنشر ما كتبه خيرى بشارة عن فيلم صائد الدبابات

تقدمت فى أواخر الربع الأول من عام 1974 بفكرة فيلم «صائد الدبابات» لإدراجها فى خريطة المركز القومى للأفلام التسجيلية والقصيرة.



وذلك قبل أن يتم تكليف المركز رسميا بإنتاج أربعة أفلام عن أربع بطولات من أكتوبر.. كانت الفكرة حينئذ غير متبلورة بالقدر الكافى.. فقد كتبتها فى سطور قليلة وعلى عجل.. موضحًا أن الفيلم سوف يعتمد فى بنائه على الانتقال المتوازى بين مقابلات سينمائية مع عبدالعاطى «صائد الدبابات».. وبين حطام دبابات العدو فى معرض الغنائم الذى أقيم وقتها فى القاهرة على أرض المعارض بالجزيرة.. وكان عبدالعاطى قد حظى بقدر من الشهرة عندما طلب منه وزير الحربية وقتها «المرحرم المشير أحمد إسماعيل على» أن يتقدم ليقص معه الشريط إيذانا بافتتاح معرض الغنائم.

 

يرجع الفضل إلى جمال الغيطانى فى إلقاء الضوء بقوة على بطولات عبدالعاطى وبطولات رفاقه من «أكلة الدبابات».. وفى الحقيقة فقد ساهم كتاب الغيطانى «المصريون والحرب» بصورة أكيدة وفعالة فى توجيه أفكارى ناحية الجوانب العميقة فى شخصية عبدالعاطى والمقاتلين المصريين بوجه عام. فالكتاب يتميز برؤية إنسانية واجتماعية واعية لعين ثاقبة لمراسل صحفى حربى.. وأديب فى الوقت ذاته.

عندما تراجعت خطة المركز لتحتل أفلام أكتوبر الأربعة المكلف بها أولوية التنفيذ.. وقع علىّ الاختيار بسبب مبادرتى السالفة لإخراج فيلم عن مقاتل من الصعيد دمر 7 دبابات.. إلا أن ظروف البحث عن هذا المقاتل الذى كان قد سرح من الجيش كانت من الصعوبة بحيث فرضت العودة إلى مبادرتى الأصلية وهى عمل فيلم عن عبدالعاطى وهذا كان يتفق بالطبع مع رغبتى منذ البداية مما أراح أعصابى القلقة.. وهذا لا يعنى المفاضلة بين مقاتل ومقاتل.. أو لأن عبدالعاطى كان قد أصبح «نجمًا» على صورة ما.. أو لأنه دمر عددا أكثر من الدبابات.. وإنما الواقع أننى كنت قد تعاطفت مع عبدالعاطى بصورة فورية لكل ما يمكن أن يمثله.. وذلك خلال مراحل القراءة المختلفة عنه. وعبر التفكير فى اتجاه تنمية الفكرة.. وكان من الصعب أن أقطع هذا الوصال الفكرى والوجدانى فجأة.. لأبدأ من جديد عبر طريق آخر.

وفى أيام 8 و9 و10 من أبريل 1974 قمت مع الأساتذة صلاح التهامى «مخرج فيلم تحية لمقاتل مصری» وعبدالقادر التلمسانى «مخرج فيلم نهاية بارليف»، وأحمد راشد «مخرج فيلم أبطال من مصر» بزيارة الجبهة فى السويس والإسماعيلية.. حيث تفقدنا نقط بارليف الحصينة ومواقع القتال المختلفة.. كما حاورنا مقاتلينا من مختلف الرتب.. وكانت أحاديثهم فى دلالاتها وإشعاعاتها- وحماسنا لايزال ساخنا - زادا لنا انعكس فى كل ما حققناه نحن الأربعة ولو بطرق مختلفة.

وفى 30 أبريل سنة 1974 التقيت مع عبدالعاطى فى القاهرة لأول مرة.. وتوجهنا معا إلى معهد السينما، حيث يعمل مهندس الصوت مصطفى عبدالمطلب كمعيد «وقد عمل فى الفيلم بدلا منه مهندس الصوت جميل عزيز بسبب انشغال مصطفى بالعمل فى فيلم آخر وقت تصوير فيلمى.. ومصطفى جميل زاملنى نفس الدفعة التى تخرجت فى المعهد عام 1967».. ومكثنا طوال النهار نتحدث مع عبدالعاطى ونسجل له.. وكانت الحصيلة ما يقرب من ساعة تسجيل روى فيها عبدالعاطى كل ما تدفع به ذاكرته عن حياته الخاصة منذ أيام الطفولة حتى وقتنا.. وساعدته عن طريق نوعية الأسئلة التى وجهتها إليه على استثارة ذكرياته الحميمة بصورة تلقائية.. وكان التسجيل ينقسم إلى جزءين، الأول يختص بحياته الخاصة كما سلف الحديث.. والثانى يتعلق بمعارك أكتوبر 73 التى شارك فيها بتدمير هذا العدد الضخم من الدبابات.. وهنا دفع عبدالعاطى أيضا بما تختزنه ذاكرته من مشاعر ومواقف ولحظات متنوعة حفرت فيها بعمق خلال أيام القتال الصعبة.

وتمثل هذه الخطوة.. أى لقاء عبدالعاطى والتسجيل معه.. مرحلة مهمة وأساسية فى الطريق الذى نمت خلاله الفكرة وتطورت حتى اتخذت شكلها النهائى فى الفيلم.. ففيها تجمعت مادة غزيرة وغنية من مصدر الواقعة ذاته.. وهو الشخصية التى يقدمها الفيلم.. ويمكن على أساس هذه المادة استلهام - بصورة مبدئية - الأثر النهائى أو ما يهدف الفيلم إلى أن يقوله للناس.. وكذلك الشكل الذى يمكن أن ينمو خلاله عرض الأفكار والمعلومات والمشاعر المختلفة.. فالمادة التى تجمعت فى هذه المرحلة هى التى ألهمت بصورة أولية إلى أين وكيف أتجه بوضوح ناحية هدفى من هذا الفيلم.

فى يوم 2 مايو 1974 انتقل العمل فى تنمية أفكارى خطوة أبعد وأهم.. حيث سافرت إلى مدينة منيا القمح للمعاينة.. وكان يصحبنى المصور محمود عبدالسميع ومساعد المخرج محمد عماد الدين «وهو أساسا مخرج شاب ذكى ومثقف.. وفى عينيه يتألق تفاؤل مدهش.. وقد تطوع لمساعدتى»، ومدير الإنتاج فاروق عبدالخالق.. هناك التقينا مع محمد عبدالعاطى عطية شرف الشهير بعبدالعاطى صائد الدبابات.. الذى قادنا خلال جولة عفوية عبر شوارع وحارات المدينة الصغيرة.. فشاهدنا المدرسة الثانوية الزراعية التى تعلم فيها.. والأماكن الأخرى بالمدينة التى تحتل مكانًا بارزًا فى ذكرياته.. ثم صحبنا عبدالعاطى إلى قريته شيبة قش.. فتعرفنا على عائلته الريفية البسيطة ومدرسته الابتدائية.. وكنا نتمشى فى طرقات القرية وعبدالعاطى يروى لنا فى بساطة كل ما يعن له من خواطر وذكريات.. ويقدم لنا كل ما تقع عليه الأعين فى طريقنا، هذا مقام الشيخ تمام.. هذه كانت بركة وتعاون شبان القرية على ردمها لتحويلها إلى ملعب كرة.. نلعب فيه أثناء الإجازات مع بعضنا البعض أو مع شباب القرى المجاورة.. وتلك القرية التى تبدو متاخمة لقريتنا اسمها كفر تصفا، وهى تتبع محافظة القليوبية.. بينما قريتنا تتبع محافظة الشرقية.. وفى كفر تصفا دخلت الكهرباء وهو ما نفتقده فى قريتنا التى تجاورها.. وفى كفر تصفا أيضا بوفيه نقتصده لنتسامر ونلعب الطاولة والدومينو.

وهكذا فإن المعاينة الجماعية للمخرجين الأربعة على الجبهة.. ثم مقابلة عبدالعاطى والتسجيل معه.. ثم المعاينة فى المكان ومعايشة الشخصية «رغم قصر وقت المعايشة بالطبع»، فى خصوصيتها وفى إطارها الاجتماعى.. بالإضافة إلى قراءة كل ما يتصل بالموضوع من قريب أو بعيد.. وهكذا.. كل هذه المراحل غذت صورة التفكير بقوة وعمق ووضوح.. وبدا جليا من هو عبدالعاطى؟ والإجابة عن هذا السؤال هو الفيلم نفسه.

ولهذا لم يكن صعبا على الإطلاق أن أنتهى تماما فى اليوم التالى مباشرة للمعاينة وهو 3 مايو من كتابة سيناريو الفيلم.. وفى يوم 4/5/1974 توجهت إلى منزل صلاح التهامى منتج الفيلم.. وقرأت عليه السيناريو.. فأبدى إعجابه به.. وفى يوم 5/5/1974 قمت بتسليم السيناريو إلى سعد نديم مدير المركز القومى للأفلام التسجيلية والقصيرة.. وفى يوم 8/5/1974 تم تسليمه لإدارة الشئون المعنوية بالقوات المسلحة لإجازته من قبل الجهات المختصة.. وفى يوم 21/5/1974 حصلنا على تصريح بالتصوير.. وقمت مع مندوب من الشئون المعنوية بزيارة سريعة فى نفس اليوم للمعسكر الذى تتمركز فيه كتيبة عبدالعاطى.. كما التقيت مع قائد الجيش الثانى.. وفى يوم 25/5/1974 استلمنا كمية الفيلم الخام المقررة للتصوير وهى 13 علبة * 120 متر نيجاتيف، صورة مقاس 35 مللى إيستمان كلر.. بالإضافة إلى عهدة مالية للصرف على الفيلم أثناء التصوير مقدارها 200 جنيه.. ولم نتمكن من استلام معدات التصوير بسبب عدم توافرها بالاستوديو وقت الطلب.. وفى 1/6/1974 استلمنا معدات التصوير..

مساء الأحد 2 يونيو 1974 غادر طاقم الفيلم مدينة القاهرة قاصدا معسكرا يقع بالقرب من التل الكبير حيث تتمركز هناك الكتيبة التى ينتمى إليها عبدالعاطى.. ويطلقون عليها «فهد».. وقد أثبتت خلال المعارك أن اسمها على مسمى.

وفى نفس اليوم قادنا قائد الكتيبة المقاتل الصعيدى الأسمر عبدالجابر لنلتقى بقائد الفرقة التى تضمها الكتيبة.. واستطعنا - رغم إرهاق السفر والوقت المتأخر - أن نستجمع تركيزنا لنستمتع بالأحاديث الشيقة التى رواها لنا قائد الفرقة ومعاونه عن بعض الملامح البارزة فى معارك أكتوبر.. وعدنا إلى مقر الكتيبة فى الساعات الأولى من اليوم التالى.. وكان قد تقرر أن نبيت هناك مما يسهل عملنا بكسب الوقت الذى يضيع عادة فى الانتقالات بالإضافة إلى قيمة أن تقيم فى المكان الذى تصور فيه من عدة زوايا.

رقدت فى سريرى.. وبدلا من الاستسلام للنوم الذى كنت أحتاجه بالفعل.. استغرقنى تصفح مخطوط ذلك الكتاب القيم «صائدو الدبابات.. عبدالعاطى ورفاقه» الذى لم يتح له فرصة النشر بعد.. والذى سجل فيه المقاتل عبدالجابر - بقلبه قبل قلمه - دور المقاتلين الشبان فى كتيبته.. هؤلاء الشبان الذين جاء معظمهم من أعماق الريف المصرى.. ورغم صعوبة التركيز.. فإننى كنت ألتهم هذا المخطوط التهامًا.. وتمكنت من قراءة معظم صفحاته بسرعة مدهشة.. أتعجب لها اليوم!

مع إشراق شمس 3 يونيو.. ولم أكن قد نمت سوى ساعات قليلة.. بدأت الكاميرات فى الدوران لتصوير أولى لقطات فيلمى التسجيلى الأول «صائد الدبابات».. وكانت اللقطة الأولى هى التى يتحدث فيها المقاتل عبدالجابر وحوله الجنود: عبدالعاطى وبيومى وعوض والخولى وعبدالفضيل.. وتكمن قيمة الصدق فى حديث عبدالجابر فى أنه ليس مفروضا عليه.. وإنما يلخص ببساطة ما سجله هو نفسه عن قناعة فوق الورق.. إنه معتقده عن إيمان.. استخلصه عقلا ووجدانا خلال لحظات التجربة بمرها وحلوها.. وهو لذلك يكتسب رسوخًا أكيدا فى أعماقه.

عبدالجابر:

«الوحدة اللى احنا فيها دمرت خلال حرب رمضان حوالى 140 دبابة.. اللى دمر الدبابات دى هم أولاد مصر.. الفلاحين أبناء القرية المصرية.. زى ما بيقول عبدالعاطى.. هو صحيح دمر أعلى رقم فى الوحدة.. إنما فيه برضه عندنا بيومى مدمر عدد زيه أو أقل منه شوية.. وفيه برضه عوض مدمر أقل منه شوية.. وده يدل على أن الإنسان المصرى أو ابن القرية المصرية البسيطة قدر يستوعب المعلومات المعقدة الإلكترونية.. رغم أن الأعداء وأبواق الدعاية اللى هى خارجية.. كانت بتقول إن المصريين مش ممكن يستوعبوا الأسلحة المعقدة».

انقضى يوم 3 يونيو فى التصوير داخل الكتيبة.. وفى 4 يونيو قمنا بالتصوير فى الضفة الشرقية فى قطاع مدينة الإسماعيلية.. وأخذنا إجازة من العمل يوم 5 يونيو «!»

ثم عدنا إلى الكتيبة مرة أخرى يوم 6 يونيو لنستكمل تصوير بعض اللقطات التى شعرت بالاحتياج إليها.. بالإضافة إلى التصوير فى معرض الغنائم بالسويس.. ثم واصلنا التصوير بالضفة الشرقية ثانية فى المواقع المختلفة التى قاتل فيها عبدالعاطى ورفاقه خلال الأيام 7 و8 و9 من يونيو.. وعملنا يوم 7 يونيو بصورة مكثفة طوال اليوم، حيث صورنا كل المقابلات التى ظهرت فى الفيلم باستثناء المقابلة التى تسبق العناوين.. ويعزى ذلك إلى أن تداعى ذكريات القتال دفع بالجنود إلى الحديث أمام الكاميرا دون أن يعبأوا بها فى كثير أو قليل.. فعندما ذهبت معهم إلى المواقع التى حاربوا فيها.. كانت هذه هى المرة الأولى بعد حرب أكتوبر التى يعودون فيها ثانية إلى هذه المواقع.. ليس بغرض القتال هذه المرة، ولكن ليروا حصاد بطولاتهم من الدبابات المدمرة.. وليسرحوا مع حبات الرمل إلى ماض هو حاضر فى الوقت نفسه.. وكانت هذه اللحظات تفجر كل مشاعرهم الكامنة فى الأعماق.. فيندفعون أمام الكاميرات ليقصوا بصورة طبيعية وعفوية ما حدث.. وشعرت أننى لا يجب أن أفقد هذه اللحظات.. وأننى لا يجب أن أتوقف عن التصوير واستثارة ذكرياتهم.. فقد تتغير الصورة فى اليوم التالى.. بل من المؤكد أنها ستتغير.. وبذلك تفقد هذه اللحظات كل سحرها وصدقها.. غادرنا الإسماعيلية إلى الزقازيق.. حيث قررنا المبيت هناك طوال فترة التصوير الباقية.. وفى يوم 11 يونيو قمنا بالتصوير فى مدينة منيا القمح.. وفى الأيام 12 و13 و14 من يونيو قمنا بالتصوير فى قرية شيبة قش.. قرية عبدالعاطى.

كان هناك شعور - خاصة بعد رؤية المادة المصورة - بالاحتياج إلى مزيد من التغية للقرية.. وهو النقص الذى يرجع إلى قلة كمية الفيلم الخام التى تبقت فى حوزتنا عندما وصلنا إلى القرية للتصوير «!».. حتى إننى لم أتمكن من تصوير بقية عناوين الفيلم، كان مزيجا من عناوين مكتوبة بالطباشير على دبابة فى الجبهة «تم تصويرها».. وعناوين مكتوبة على واجهات بيوت قرية شيبة قش «لم يتم تصويرها».. وبالفعل عدنا ثانية إلى قرية شيبة قش.. حيث صورنا - يومى 2 و3 من شهر سبتمبر 1974 - أبرز لقطات القرية التى ظهرت فى الفيلم.. بالإضافة إلى العناوين الناقصة.

وهكذا يبلغ إجمالى عدد أيام التصوير فى فيلم «صائد الدبابات» اثنى عشر يومًا.. وقد وضعت الميزانية التقديرية للإنفاق على الفيلم على أساس مبلغ إجمالى قدره 4308 جنيهات و220 مليما.. وقد بلغت تكاليفه النهائية تقريبا هذه الحدود.. وللأسف لم يحالفنى التوفيق فى الحصول على أرقام محددة للتكلفة النهائية من المختصين بالشئون المالية فى هيئة السينما.. إلا أن ظروف الفيلم التسجيلى نادرًا ما تسمح بالتجاوز فى الإنفاق.. ومن ثم يصبح إجمالى الميزانية التقديرية هو التكلفة الفعلية.

من الطبيعى أن تطرأ تغيرات على سيناريو الفيلم التسجيلى سواء أثناء التصوير أو خلال مراحل المونتاج المختلفة.. سواء كانت هذه التغيرات حذفًا لبعض المشاهد وإضافة مشاهد جديدة أو تطوير مشهد بصورة مختلفة عما كان متوقعًا.. ويمكن فى النهاية أن نبدأ بتبديل تتابع بعض المشاهد للحصول على تركيبات جديدة تخدم بصورة أفضل فكرة الفيلم أو إيقاعه أو الأثر النهائى الذى نسعى إلى تحقيقه وصولا إلى عقل المتفرج ووجدانه.

وهناك من يفضل أن تدور الكاميرا لتصور دون أن يكون قد توصل إلى سيناريو يحدد بصورة تقريبية الشكل المنشود للفيلم.. يكفيه أن تكون أفكاره واضحة ومتبلورة عن موضوع الفيلم.. أو يكفيه الدراسة أو المعايشة التى سبقت التصوير.. وربما يحمل البعض منا فى ذهنه مشروعا لما يمكن أن يكون عليه شكل الفيلم.. وفى كل الحالات تدور الكاميرا.. ومع توالى أيام التصوير تلهم المادة الواقعية باستمرار مخرج الفيلم باحتمالاتها وإمكانياتها.. فتنمو الأفكار.. وتدفع إلى ظهور احتياجات جديدة.. ويشعر المخرج أن موضوع التصوير هذا يحتاج إلى تغطية أكثر.. وأن ذاك لا يتطلب تركيزًا أكثر مما تم بالفعل.. وفى النهاية قد لا يصل المخرج إلى شكل فيلمه النهائى إلا على مائدة المونتاج «الموفيولا».

وسواء كان مخرج الفيلم التسجيلى يتحرك إلى مواقع التصوير حاملا معه سيناريو أو مجرد زاده من الأفكار.. فبديهى أن العبرة بالنتيجة النهائية المتحققة.. كل ما فى الأمر أن التعامل مع الواقع فى الحالتين يجب أن يتسم بالمرونة والحساسية فى إطار من فهم هذا الواقع ذاته.. ومن وضوح القيم التى تنطوى عليها المواد الواقعية - من وجهة نظرى - ويتم فقط بتأثير الأفكار المحددة والأثر النهائى الذى يريد توصيله عن موضوعه.. وهذا لا يعد من قبيل التعسف فى التعامل مع الواقع.. لأن المخرج لابد أن تكون له رؤية شمولية لحركة الواقع.. وهى وإن كانت رؤية ديناميكية تتفاعل مع هذا الواقع.. إلا أنها ليست رؤية متميعة.. أو حيادية.. كما أنها بالطبع قابلة للإدانة أو الرفض إذا كانت تزيف الواقع أو تتحرك ضده.. والمخرج التسجيلى ليس آلة فوتوغرافية للواقع.. إنما له ردود فعله الخاصة فى مواجهة الواقع الذى يصوره.. وردود فعله هذه فى إطار رؤيته الخاصة هى التى تجعل الفيلم التسجيلى فنًا.. وتجعل عمله متميزًا عن الجرائد الإخبارية.. والمخرج التسجيلى ليس أيضًا حجرًا أصم.. إنما هو نبض حى يكتسب إيقاعه من إيقاع الواقع نفسه.. ونبضه هو الذى يكسب فيلمه التسجيلى مذاقه الخاص.

فى فيلم «صائد الدبابات» وفيلم «طبيب فى الأرياف» تحركت إلى مواقع التصوير أحمل سيناريو.. وفى فيلم «طائر النورس» تحركت أحمل فقط زادى من الأفكار.. تاركًا ورائى سيناريو شكليًا اضطررت إلى كتابته للحصول على الموافقة بالتصوير.. دون أن يكون له أى علاقة بأفكارى أو بالفيلم نفسه الذى صورته.