16 عامًا على رحيل أديب نوبل: نجيب محفوظ.. عاشق الحارة وصديق الحرافيش

أحمد عبدالعظيم
أرادَ الله أن يكون له نصيبٌ من اسمه.. هو «نجيب» العقل.. المحفوظة أعماله فى عقول ووجدان كل عاشق للقراءة والأدب والثقافة.. إنه الأديب العالمى نجيب محفوظ.. الذى تحل ذكرى وفاته نهاية الشهر الجارى (30 أغسطس).. ورُغْمَ مرور 16 عامًا على رحيله؛ فإن قيمة صاحب نوبل تستوجب علينا أن تكون محطات ومشوار حياته حاضرةً دومًا لأنه يستحق أن يكون قدوة كل باحث عن النجاح والتميز عبر الأجيال المختلفة.
طبيعة النشأة ومَرحلة الطفولة هى دائمًا العامل الأساسى فى تشكيل وتكوين الشخصية، وبالطبع هذا ما حدث مع أديبنا العالمى.. وسُمِّى «نجيب محفوظ» باسمٍ مُرَكب تقديرًا من والده «عبدالعزيز إبراهيم» للطبيب «أبوعوف نجيب باشا محفوظ» الذى أشرف على ولادته التى كانت متعسرة ولعدم الخلط بينه وبين الطبيب المصرى ذى الشهرة العالمية الدكتور نجيب محفوظ باشا.
النشأة فى الأحياء الشعبية
وُلد نجيب محفوظ عبدالعزيز فى حى الجمالية، وهو أحد أحياء منطقة الحسين بمدينة القاهرة، وأمضى طفولته فى هذا الحى الشعبى البسيط الذى استلهم منه أحداث رواياته التى كتبها، فصعد بها إلى آفاق الأدب الإنسانى، ثم انتقل وعائلته من هذا الحى إلى العباسية والحسين والغورية، وهى أحياء القاهرة القديمة التى أثارت اهتمامه فى أعماله الأدبية، وفى حياته الخاصة، والتحق بمدرسة بين القصرين الابتدائية، وبعد أن انتقلت الأسرة عام 1924 إلى العباسية، حصل على شهادة البكالوريا من مدرسة فؤاد الأول الثانوية، ثم على شهادة إجازة الليسانس فى الفلسفة عام 1934 من جامعة القاهرة، وعمل بعدها موظفًا فى وزارة الأوقاف.
بدأ نجيب محفوظ ينشر قصصه ومقالاته الفلسفية والتاريخية فى سنّ مبكرة، وتحديدًا منذ عام 1930، عندما كان فى التاسعة عشرة من عمره واستمر فى النشر حتى عام 1945، وصلت إلى سبعة وأربعين مقالًا، وأربعًا وسبعين قصة نشرها فى مطلع حياته الأدبية، لكنه لم يبدأ بكتابة القصة القصيرة رسميًا إلا عام 1936.
كتابة القصص والروايات
استمر «نجيب» فى كتابة القصص والروايات حتى عام 1994، وتجلّت موهبته القصصية والروائية فى ثلاثيته الشهيرة (بين القصرين وقصر الشوق والسكرية)، التى انتهى من كتابتها عام 1952، لكنه لم يتمكن من نشرها حتى عام 1956 بسبب ضخامة حجمها، وقد صوَّر فيها حياة ثلاثة أجيال: جيل ما قبل ثورة 1919، وجيل الثورة، وجيل ما بعد الثورة، كما رصد من خلالها حياة هذه الأجيال وأذواقها وأفكارها، ومواقفها من المرأة والعدالة الاجتماعية، والقضية الوطنية.
نشر نجيب محفوظ أكثرَ من خمسين كتابًا ما بين روايات طويلة وقصص قصيرة ومسرحيات، ومقالات ودراسات ومذكرات وتحليلات سياسية. فمن رواياته التاريخية (عبث الأقدار ورادوبيس وكفاح طيبة). ومن رواياته الاجتماعية النفسية (خان الخليلى وزقاق المدق وبداية ونهاية). ومن رواياته التى اعتمد فيها على تيار الوعى أو «المونولوج الداخلى» (اللص والكلاب والسمان والخريف، والشحاذ). لكنه عمد فى السنوات الثلاث الأخيرة من حياته إلى كتابة القصص القصيرة التى أطلق عليها عنوان أحلام فترة النقاهة، وقد كتب ما يقارب السبعين من هذه الأحلام.
الكتابة للسينما والدراما
نجيب محفوظ أول أديب يكتب للسينما؛ إذ شارك فى كتابة 25 فيلمًا وأنتج من إبداعه 40 فيلمًا؛ وتنوعت هذه الأعمال بين أفلام كتبها مباشرة للسينما وأخرى شارك مع آخرين فى إعدادها وثالثة مأخوذة عن إحدى رواياته أو قصصه القصيرة، وكان المخرج المصرى الراحل صلاح أبو سيف (1915ـ 1996) قد نصح نجيب محفوظ بكتابة السيناريو فى منتصف الأربعينيات وقدّما معًا عددًا من كلاسيكيات السينما المصرية ومن بينها (مغامرات عنتر وعبلة والمنتقم وريا وسكينة والوحش والفتوة). وعلى فترات متباعدة كان «محفوظ» يشارك فى كتابة سيناريو أو حوار أحد الأفلام، ومنها: (جميلة والناصر صلاح الدين والاختيار) للمخرج المصرى يوسف شاهين، وحين بدأ المخرجون ينتبهون إلى رواياته قرر ألا يكتب السيناريو ابتداءً من عام 1960، وكانت رواية (بداية ونهاية) التى أخرجها «أبو سيف» أول تعامُل للسينما مع روايات نجيب محفوظ وبعدها توالت الأفلام ومنها (القاهرة 30 واللص والكلاب وميرامار) لكمال الشيخ و(الكرنك وأهل القمة) لعلى بدرخان.
الثلاثية الشهيرة
كتب أيضًا رواية (المذنبون) لسعيد مرزوق و(الحب فوق هضبة الهرم) لعاطف الطيب و(السمان والخريف) لحسام الدين مصطفى و(ثرثرة فوق النيل) لحسين كمال و(بين القصرين) لحسن الإمام، واختيرت الأفلام السابقة ضمن قائمة أفضل مئة فيلم مصرى، وأضيف إليها فيلم (بين السماء والأرض) الذى أخرجه «أبو سيف» عام 1959 عن قصة قصيرة لمحفوظ.
كما عُرضت بعض أعماله تليفزيونيًا فى مسلسلات درامية ناجحة زادت من شهرته مثل مسلسل (قسمتى ونصيبى) إخراج رضا النجار، وثلاثية محفوظ الشهيرة التى لاقت نجاحًا كبيرًا كعمل تليفزيونى (بين القصرين)، و(قصر الشوق)، و(السكرية).
الوظائف الحكومية لنجيب محفوظ
بخلاف إبداعات نجيب محفوظ الأدبية؛ فقد عمل «محفوظ» فى عدد من الوظائف الحكومية، فعُيّن سكرتيرًا برلمانيًا فى وزارة الأوقاف من عام 1938 حتى عام 1945، ثم مشرفًا على مكتبة الغورى فى الأزهر، ثم مديرًا لمؤسَّسة القرض الحَسَن بوزارة الأوقاف حتى عام 1954، ثم تدرج فى المناصب فعمل مديرًا لمكتب وزير الإرشاد، فمديرًا للرقابة على المصنفات الفنية، وفى عام 1960 مديرًا عامًّا لمؤسَّسة دعم السينما، وفى عام 1962 مستشارًا للمؤسَّسة العامّة للسينما والإذاعة والتليفزيون، وفى عام 1966 عُيّن رئيسًا لمجلس إدارة المؤسَّسة العامة للسينما، إلى أن أحيل على التقاعد عام 1971، فانضم إلى مؤسَّسة «الأهرام» الصحفية، ليعمل محرّرًا فيها.
معارك خاضها أديب نوبل
لمّا تكن حياة نجيب محفوظ هادئة أبدًا؛ فقد خاض العديد من المَعارك وصل بعضها إلى حد تعرُّضه للاغتيال.. فى 21 سبتمبر 1950 بدأ نشر رواية (أولاد حارتنا) مسلسلةً فى جريدة الأهرام، ثم توقف النشر فى 25 ديسمبر من العام نفسه بسبب اعتراضات هيئات دينية على «تطاوله على الذات الإلهية». لم تُنشر الرواية كاملة فى مصر فى تلك الفترة، واقتضى الأمر ثمانى سنوات أخرى حتى تظهر كاملة فى طبعة دار الآداب اللبنانية التى طبعتها فى بيروت عام 1967، وأعيد نشر (أولاد حارتنا) فى مصر فى عام 2006.
وفى أكتوبر 1995 طُعن نجيب محفوظ فى عُنقه على يد شابَّيْن قد قرّرا اغتياله لاتهامه بالكفر والخروج عن الملة بسبب روايته المثيرة للجدل، الجدير بالذكر هنا أن طبيعة نجيب محفوظ الهادئة كان لها أثر كبير فى عدم نشر الرواية فى طبعة مصرية لسنوات عديدة؛ حيث كان قد ارتبط بوعد مع حسن صبرى الخولى «الممثل الشخصى للرئيس الراحل جمال عبدالناصر» بعدم نشر الرواية فى مصر إلا بعد أخذ موافقة الأزهر.
طُبعت الرواية فى لبنان من إصدار دار الآداب عام 1962 ومُنع دخولها إلى مصر رُغْمَ أن نُسَخًا مهربة منها وجَدت طريقها إلى الأسواق المصرية، لم يمت نجيب محفوظ كنتيجة للمحاولة، وفيما بعد أُعدم الشابان المشتركان فى محاولة الاغتيال رُغْمَ تعليقه بأنه غير حاقدٍ على مَن حاول قتله، وأنه يتمنى لو أنهما لم يُعدما.
عادات خاصة عند الكتابة
كان لنجيب محفوظ عادات خاصة به عند الكتابة والتأليف.. فهو القائل «البيت للقراءة والكتابة والتأمل، والمقهى للأصدقاء، والحديقة لحب الطبيعة» وهو ما يوضح تعلقه بالكتابة فى غرفة مكتبه بالمنزل، فلم يكتب أبدًا فى أى مقهى إلا أجزاء بسيطة من السيناريوهات السينمائية التى عمل بها.
من دون النظام لا يستقيم أى عمل، والاعتماد على الوحى لن يصل به إلى شىء سوى كتابة روايتين فقط خلال عمره كله، هكذا كان يعتقد أديب نوبل، فطوع الإلهام بنظام صارم لا يحيد عنه أبدًا، وخصص 6 ساعات يوميا- عدا الخميس والجمعة الإجازات الرسمية- لممارسة موهبة الكتابة.. يذهب إلى عمله فى الصباح، ثم يعود إلى منزله يتناول الغداء ويترك نفسه للنوم لكى يستريح عقله، وبعد استيقاظه يدخل غرفته ويقضى 3 ساعات فى القراءة و3 للكتابة، وينتهى قبيل منتصف الليل.
بعد المعاش تغيرت مواعيد الكتابة من المساء إلى الصباح، فكان يكتب من العاشرة صباحًا حتى الواحدة بعد الظهر، واعتاد نجيب محفوظ أن يكتب مسودة الرواية على ورق «العرائض» وبقلم كوبيا، وعندما ينتهى منها، يُعيد كتابتها مرة أخرى على ورق أبيض بقلم حِبر.
القهوة والموسيقى
3 فناجين من القهوة كانت رفيقة الأديب فى غرفته أثناء الكتاب، فنجان مع بداية الكتابة، وآخر تُعده زوجته وتُدخله بهدوء بعد فترة من الوقت، والثالث قبيل انتهائه من جلسته، يشرب نجيب محفوظ القهوة دون إضافة أى سُكر؛ بسبب إصابته بداء السكرى.
كان يميل قبل بدء عملية الكتابة إلى الاستماع لمقطوعة موسيقية، ثم الإنصات إلى السيدة أم كلثوم وهى تشدو بصوتها بينما يسير فى صالة منزله قليلاً، قبل أن يتوجه إلى غرفة مكتبه للشروع فى الكتابة، كان «محفوظ» عندما يأتيه الوحى يكتب بسرعة لتلاحق الأفكار فى خاطره، لا ينتظر التنقيح أو التفكير بل يضع كل ما يجول فى خاطره على الورق، قبل أن يقوم بالحذف والإضافة والتعديل فى نهاية جلسته.
وبسبب إصابة «محفوظ» عقب تخرجه فى عام 1934، بحساسية فى الجلد والعين تعاوده فى الربيع والصيف، منعته من العمل، لكنه اعتبرها مساحة من الراحة تمنحه لحظات تأمُّل يستفاد بها فى الكتابة فى الخريف والشتاء، فكان يقول «الخريف والشتاء فصلا العمل والحيوية»، ينشغل فيهما ببدء مشروع أدبى جديد، يستغرق كل وقته، ويحاول قدر الإمكان الانتهاء من اللمسات الأخيرة فى مشروعه الأدبى قبل الدخول فى فصلى الربيع والصيف.
قصة الزواج والحياة الاجتماعية
الحياة الاجتماعية لنجيب محفوظ كانت لها أيضًا خصوصيتها.. فقد ظلت حياة الأديب المصرى الشخصية والعائلية مظلمة مخفية عن الجميع لا يعرف أحدٌ اسْمَى ابنتيه واسْم زوجته، إلا بعد أن حصل على جائزة نوبل وذلك عام 1988، وحينها كان «محفوظ» فى السابعة والسبعين.
البداية جاءت بعد سنوات من العزوف عن الزواج وصلت إلى 43 عامًا، وتحديدًا عقب ثورة 1952، ليدخل الأديب نجيب محفوظ عُش الزوجية مع السيدة الراحلة «عطية الله إبراهيم»، التى تزوجت من الأديب بشكل مفاجئ وبهدوء تام دون أن يعرف أحد.
ظل خبر زواج «نجيب» من السيدة «عطية الله» مخفيًا عمّن حوله لعَشر سنوات، مُعللاً عدم زواجه بانشغاله برعاية أمّه وأخته الأرملة وأطفالها، إلا أن الأمْرَ لم يدُم لأكثر من ذلك وفضح سرّه عقب نشوب مشاجرة بين إحدى ابنتيه أم كلثوم وفاطمة مع زميلة لهما فى المدرسة، فعرف بالمصادفة الشاعر صلاح جاهين بالأمر من والد الطالبة الذى كان زميلاً له وجارًا، ومنذ ذلك الوقت انتشر الخبر بين الأوساط الأدبية، والعلمية، والثقافية، حتى عرف كل الناس خبر زواجه.
الحديث عن زوجته
رُغْمَ ندرة حديث الأديب العالمى عن زوجته التى لم يكن يذكرها قَط؛ فإنه تحدّث فى أحد الحوارات الصحفية عن بداية معرفته بها وذلك بعد أن تقدّمت به السّن «كان أحد أصدقائى متزوجًا، ولزوجته أخت هادئة الطباع رقيقة المشاعر، فوجدت فيها ما أبحث عنه؛ إذ كانت متفهمة لطبيعة تكوينى الشخصية واحتياجاتى ككاتب.. فوجدتنى منجذبًا إليها وكنت مشدودًا بهاجس يقول لى أنت لو لم تتزوج هذه المَرّة لن تتزوج أبدًا».
الأديب الكبير لم ينكر دورَ زوجته فى حياته وقال أنها كانت سببًا كبيرًا بعد الله فى نجاحه ووصوله لما آل إليه: «إن كان لأحد فضل فى المكانة التى وصلت إليها بعد الله فهى لزوجتى عطية الله، فهى بالفعل عطية من الله إلىّ».
الجوائز المَحلية والعالمية
وبعكس ما يعتقد البعضُ أن نجيب محفوظ هو صاحب (نوبل) فقط، فيجدر الإشارة إلى أنه حصل على العديد من الجوائز المحلية والعالمية فى خلال سنوات إبداعه الأدبى، فقد حصل على جائزة الدولة فى الأدب التى حصل عليها فى عام 1957، عن رواية (بين القصرين)، سبق تلك الجائزة جائزتان لأوائل روايته وهما جائزة قوت القلوب الدمرداشية عن (رادوبيس) فى عام 1943 وجائزة وزارة المعارف عن (كفاح طيبة) فى عام 1944، وفى عام 1946 حصل «محفوظ» على جائزة مجمع اللغة العربية عن رواية (خان الخليلى) التى تحولت فيما بعد إلى فيلم سينمائى.
استمر نجاح «محفوظ» وأخذ يسطع نجمُه فى عالم الأدب فحصد المزيد من الجوائز ومنها وسام الاستحقاق فى عام 1962، ومنها جائزة الدولة التقديرية فى الآداب عام 1968، ووسام الجمهورية فى عام 1972.
جائزة نوبل
توّج نجيب محفوظ ثمار عطائه الأدبى بأرفع الجوائز على مستوى العالم، وهى جائزة نوبل فى الأدب فى عام 1988 التى كانت سببًا فى انتشار وترجمة أدب محفوظ عالميًا، وحصل «محفوظ» على قلادة النيل العُظمَى فى العام نفسه، وهى أعلى الجوائز بالدولة المصرية، وحصد دروع التكريم وشهادات التقدير والميداليات والدكتوراه الفخرية من مختلف الهيئات والمؤسَّسات والجامعات مثل جامعة القاهرة والجامعة الأمريكية وجامعة ليدز بالمملكة المتحدة وغيرها.
حصل على العديد من الجوائز بمهرجانات السينما واتحاد الإذاعة والتليفزيون عن أعماله التى تحولت إلى أفلام تليفزيونية وسينمائية والأعمال التى قام بكتابة السيناريو لها، وجائزة كفافيس قُدمت إلى «محفوظ» عام 2004 وتنسب الجائزة للشاعر اليونانى كونستنت ينكفافيس، وتقدم كل عامين للمبدعين فقط من مصر واليونان، وتكريمًا لسيرته الأدبية تم إصدار جائزة «نجيب محفوظ للرواية» التى أنشأها قسم النشر بالجامعة الأمريكية فى عام 1996، وهى جائزة للروايات المعاصرة تُمنَح فى 11 ديسمبر من كل عام تيمنًا بيوم ميلاد الأديب نجيب محفوظ.