الإثنين 16 يونيو 2025
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أحمد إمبابي
رئيس مجلس الإدارة
هبة الله صادق
رئيس التحرير
أحمد إمبابي
كدهوّن!.. لعبة فطين.. (2)

كدهوّن!.. لعبة فطين.. (2)

أصعب شىء أن تناقش رجُلاً شرقيًا فى معتقداته أو عاداته وتقاليده بشكل عام؛ خصوصا إذا كان الأمر يتعلق بوضع المرأة وتمكينها اجتماعيًا وسياسيًا واقتصاديًا فى المجتمع والاعتراف بحقها فى التعليم واختيار شريك حياتها وكدهون.. لكن المخرج فطين عبدالوهاب فعلها وبمنتهى الهدوء ودون أن يثير أزمات ومشكلات قرر أن يدخل لتلك المنطقة الملغمة بقنابل موقوتة ومناقشة كل القضايا الشائكة سواء فى الشرع والدين أو العادات والتقاليد فى منتصف القرن الماضى ليطلق صرخته السينمائية العالية بضرورة حصول الفتيات على حقوقهن فى المجتمع ومساواتهن بالرجل فى الحقوق والواجبات متسلحًا بسلاح الكوميديا مدركًا أن الضحكة هى نقطة ضعف المصريين على اختلاف ثقافاتهم وبيئاتهم.



 

إلا أن من يريد أن يتواصل معهم لا بُد له أن يرسم ابتسامة كبيرة على قلوبهم قبل أن يناقش عقولهم فى أدق أمور حياتهم، وهكذا فعلها فطين عبدالوهاب وقدّم لنا مجموعة رائعة من الأفلام التقدمية التى تنصف المرأة وتعلى من شأنها فى المجتمع كند وشريك للرجل لا يمكن تجاهله وكدهون.. فطين عبدالوهاب لعب لعبة الكراسى الموسيقية وطرح سؤالاً مهمًا وحيويًا جدًا من خلال أفلامه، وهو: ماذا إن تبادلنا الأوضاع ودخل الرجل القفص الحديدى وخرجت المرأة للمجتمع للدفاع عنه وعن حقوقه؟! فكانت البداية من خلال فيلم (الأستاذة فاطمة) بطولة فاتن حمامة وكمال الشناوى؛ حيث تفوقت الطالبة فاطمة فى الجامعة على كل زملائها الرجال إلا أن الواقع العملى رفضها لأنها امرأة، وهنا تبدأ لعبة فطين فى تبادُل الكراسى فيدخل كمال الشناوى السجن فى قضية قتل ولا يجد من يدافع عنه غير الأستاذة فاطمة التى تنجح بالفعل فى إثبات براءته فيحصل على حريته بسبب معارضتها القانونية التى لا تقل عن مهارة أى محامٍ، ولا ينسى «فطين» أن يقدم على هامش قضيته الأساسية فى تمكين المرأة قضية أخرى تهدد تقدم المجتمع وهى محو الأمية من خلال عبدالفتاح القصرى الذى قدّم أهم وأشهَر مرافعة قانونية كوميدية من خلال فيلم مصرى لا تزال تثير الضحكات من جهله وعدم قدرته على صياغة كلامه بشكل قانونى وكدهون..

يستمر «فطين» فى ممارسة اللعبة المفضلة فى تبادل الأدوار فيقدم أشهَر وأجرأ أفلامه على الإطلاق (الآنسة حنفى) بطولة نجمه المفضل لسنوات طويلة إسماعيل يس فيطرح سؤالاً جدليًا فى صيغة كوميدية؛ ماذا يحدث إذا تبدلت الأوضاع وجلس الرجل على مقعد المرأة؟ هل يستطيع أن يتنازل عن حقوقة التى اكتسبها عبر آلاف السنين؟ هل سيخضع للقهر والعزلة التى سبق أن فرضها على المرأة عندما كان اسمه حنفى قبل أن يتحول إلى الآنسة فيفى ويرضخ للأمر الواقع ويدخل قفص الحريم؟ وهنا كانت مفاجأة «فطين» السينمائية عندما قرر أن تحتفظ الآنسة فيفى بقوة شخصية الرجل وقدرته فى الدفاع عن نفسه مع تمتعها فى الوقت نفسه بأنوثتها ورغبتها المُلحة فى الحب والزواج والإنجاب من الرجل الذى تحبه وتختاره هى بنفسها وترفض أن يُفرض عليها عريس لا تريده وترفضه حتى إنها لا تتردد فى الهروب ليلة زفافها متحدية كل العادات والتقاليد الشرقية التى تدمر سُمعة الفتاة التى تهرب من منزل والدها، وهنا قدّم «فطين عبدالوهاب» مَشاهد كوميدية ساخرة نتيجة للعبة تبادل الكراسى فنجد حنفى فى بداية الفيلم يفرض وصايته على ابنة زوجه نواعم ليعزلها داخل المنزل ويرفض أن تضع مساحيق تجميل أو أن ترتدى ملابس عصرية ويصل به التزمت لدرجة أنه يغلق الشباك بالخشب حتى لا تستطيع أن تفتحه وتشاهد الدنيا من خلاله وتخضع نعمات بتحكماته بمباركة من أمّها زينات صدقى التى تهلل لرجولته ونخوته وغيرته على ابنتها وتفسر سلوكه هذا لأنه يحبها ثم تنقلب الأوضاع ويتحول حنفى إلى فيفى فترفض ما سبق أن قبلته نواعم وتصمم على فتح الشباك وتتحدى العادات والتقاليد والتحدث إلى حبيبها فى مشهد أقرب إلى مشهد الشرفة فى مسرحية (روميو وجولييت) وكدهون.. يستمر «فطين عبدالوهاب» فى السخرية من العادات والتقاليد البالية فيقدم مشهدًا خفيف الظل عندما يتقدم عريس لخطبة الآنسة فيفى فتقول لها نواعم من باب النصيحة المتجربة من قبل: «وأول ما تدخلى على العريس تبصّى فى الأرض كده زى المكسوفة».

فترد الآنسة فيفى فى تلقائية: «زى المكسوفة ليه ياختى هو كان كاسر عينى بحاجة ولاّ كان كاسر عينى بحاجة؟!»، ورغم الضحكات التى تثيرها الآنسة فيفى بتصرفاتها واعتراضها على الكثير من الأوضاع التى اعتادت عليها المرأة فى ذلك الوقت بل واعتبرتها واقعًا لا يقبل المناقشة أو التعديل نجد الآنسة فيفى دائمًا تسأل أسئلة مشروعة نابعة من شعورها الإنسانى وحقها فى ممارسة الحياة كإنسان فى المقام الأول وقبل أن يصنفها المجتمع الشرقى كإنسان ناقص الأهلية فى حاجة لفرض وصاية الرجل عليها حتى تستقيم الأمور؛ إلا أن الآنسة فيفى ترفض تلك الوصاية وتقرر أن تواجه قهر المجتمع لها وتتصدى لأحكامه الظالمة وتهرب من قفص الحريم إلى حيث تمارس حريتها مع شريك حياتها الذى اختارته بنفسها وتفرض إرادتها على الجميع فى النهاية وكدهون.. يستمر المخرج «فطين عبدالوهاب» فى ممارسة لعبته المفضلة فى تبادل الكراسى فيطرح سؤالاً مهمًا جدًا داخل مجتمع شرقى متحفظ دينيًا واجتماعيًا؛ فماذا يحدث لو جلست المرأة على كرسى الإدراة وأن يتحول زوجها لمرؤوس لها؟ ولم يكتفِِ بهذا السوال الجوهرى بل تتوالى الأسئلة الجدلية بعد ذلك على لسان أبطال الفيلم على اختلاف ثقافاتهم وبيئاتهم مثل التساؤل الذى شغل تفكير الموظف المتدين: «أبوحنيفة قال اللى يسلم على ستات ما يتنقضش وضوؤه بس أحمد بن حنبل قال يتنقض وضوءه؟ إزاى يجيبوا مدير عام ينقض الوضوء؟ إزاى يبقى الرجال قوامون على النساء إذا كانت المديرة واحدة ست؟ أنا أفهم أن الست تشتغل دكتورة أو مهندسة لكن مديرة دى تبقى دمّها تقيل أوى (ده رأى موظفة)، يعنى لما تدخل على المدير نقوله يا ساتر ولا عواف؟ طيب لو المدير حامل أو بيرضّع يبقى نعمل معاه إيه؟».. لم يتوقع أحد أن يبدأ فيلم كوميدى بمثل هذا الحوار العبثى الذى يكشف الستار عن طبيعة فكر وثقافة مجتمع غير مؤهل بعد لممارسة حياة عصرية إلا أن فيلم (مراتى مدير عام ) 1966 فعلها وقرر أن يناقش الاختلافات بين الآراء الفقهية بين الأئمة الأربعة بهدوء ودون صراخ ولا تشابك بالأيدى، وكيف نأخذ بالرأى الفقهى الذى يتناسب مع المتغيرات الاجتماعية الاقتصادية التى تختلف من مجتمع لآخر وكدهون.. فى ساعة ونص فقط فيلم كوميدى يناقش بهدوء تمكين المرأة وعلاقتها بالرجل والروتين الحكومى والتشدد الدينى والنفاق الإدارى والنميمة والشائعات من خلال معالجة خفيفة الظل ترسم البسمة على الوجوه وترسخ لمفاهيم تنويرية وعصرية دون صراخ أو شعارات جوفاء أو انتظار أن التغير  يأتى بقرار من أى مؤسَّسة دينية بل من داخل المجمع المدنى نفسه عندما يريد أن يواكب العصر ويسند المهام والمسئوليات إلى الإنسان المناسب والكفء بصرف النظر عن كونه رجلا أو امرأة وكدهون.. تحيز المخرج «فطين عبدالوهاب» لقضايا المرأة وناقشها بمنتهى الجدية من خلال أفلام كوميدية رائعة شكلت وجدان المصريين ورسمت الضحكة فى قلوبهم ومهدت المجتمع لقبول التغير والتطور وكدهون.. عندما يكون هناك وعى وفن وثقافة يتطور المجتمع من تلقاء نفسه ودون الحاجة إلى أى قرارات مباشرة.