الجمعة 29 مارس 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري
رئيس مجلس الإدارة
هبة الله صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري

70 سنة ثورة يوليو.. ثورة يوليو وروزاليوسف أيام من عمر مصر..

لا يمكن الكتابة عن ثورة 23 يوليو سنة 1952 بغير الكتابة عن مجلة روزاليوسف والكاتب الكبير إحسان عبدالقدوس رئيس تحريرها منذ عام 1945 وعقب خروجه من السجن بعد مقاله الشهير الذى طالب فيه بخروج اللورد كرومر المندوب السامى البريطانى من مصر.



لقد كانت روزاليوسف منذ نشأتها وهى تدعو للثورة سواء فى الفن والفكر والأدب حتى السياسة، وكانت تحلم بمصر جديدة يحكمها أبناؤها وتحول شعار «مصر للمصريين» إلى واقع وحقيقة!

 

وخاضت روزاليوسف مئات المعارك من أجل تحقيق حلمها ولم تتوقف ولم يرهبها البطش والطغيان والمصادرات وإلغاء رخصة المجلة عشرات المرات، مجلة انحازت للناس فدخلت قلوب وعقول الناس، وأصبحت فى كل بيت مصرى، بل عربى!

وعلى صفحات روزاليوسف اجتمعت كل أطياف الفكر السياسى من يمين ووسط ويسار، الكل يكتب وينشر وكانت بحق مدرسة صحفية ووطنية يحترمها الجميع حتى خصومها!

لقد كانت حرب فلسطين سنة 1948 نقطة فاصلة فى تاريخ مصر والعرب وأيضا مجلة روزاليوسف بقيادة كتيبة ماهرة يرأسها إحسان عبدالقدوس، وعلى صفحات المجلة خاض إحسان وكشف موضوع الأسلحة الفاسدة، ولم يعد سرا الآن أن أغلب المعلومات التى انفرد بنشرها كانت من عدد من الضباط الوطنيين فى الجيش «ومنهم البكباشى عبدالمنعم أمين عضو مجلس قيادة الثورة فيما بعد».

كانت مقالات إحسان حديث كل بيت مصرى وعربى، وكانت روزاليوسف تنفد من الأسواق بعد طرحها بساعات، بل تباع فى السوق السوداء ويتم تهريبها إلى العواصم العربية.

وتستمر ثورة إحسان وسخطه وغضبه على النظام القائم، الملك والأحزاب والسفير البريطانى، وحاول خصوم إحسان تجريحه فكتبت إحدى الصحف إنه مثل أمه لا يفهم فى السياسة ويجب أن يبتعد عنها وغضب إحسان، ولكن السيدة العظيمة قالت له:

- إذا شتمك خصمك فى الرأى! استبشر خيرا فهذا دليل عجزه، وإذا كنت قويا فدع العجزة وامض فى طريقك! ومضى إحسان وروزاليوسف مبشرا بالغد ويهاجم الأحزاب قائلا: كونوا رجالا وتعلموا كيف تكون حكومات الثورة، ويروى إحسان هذه الواقعة التى حدثت بعد إلغاء مصطفى النحاس باشا رئيس الحكومة لمعاهدة سنة 1936 وبدء المظاهرات تأييدا للقرار ويكتب قائلا:

- أين الثورة المسلحة التى تشمل مصر كلها ويجند فيها شبابها وأموالها ومرافقها وأين زعيم الثورة خطيب الجماهير ومنظم الجموع، فقد نادينا منذ اليوم الأول بأن تكون حكومة ثورة، فأين هى الثورة وأين هو زعيم الثورة؟

أخشى أن أقول إن الحكومة تخشى تحرك الشعب أكثر مما يخشاه الإنجليز خصوصًا إذا كان شعبًا مسلحًا.

ويروى إحسان قائلا: وقد قبلت جماهير الشعب التحدى وأسرعت عناصر الشباب الفدائى تتقدم المسيرة داعية كل مصر - وخاصة الأسماء البارزة على سطح الحياة السياسية والاجتماعية- إلى تحديد موقفه، وقد حددت موقفى بسرعة وقبلت الاشتراك فى منظمة «خالد بن الوليد» التى يقودها «عزيز المصرى» «الفريق عزيز المصرى الذى يعتبره الكثيرون الأب الروحى للضباط الأحرار».

ورغم أننى لم أحمل فى حياتى مسدسًا، فقد كان علىّ - كأمين لصندوق المنظمة - أن أتولى تدبير موارد المنظمة وإمداد شبابها المناضل بالمال والطعام والسلاح والذخيرة.

وتحولت روزاليوسف - المجلة - وقتها إلى مخزن للسلاح، وتحولت مكاتب الإدارة إلى «سلاحليك» به كل أنواع الأسلحة، كما تحولت أدراج المكاتب إلى صناديق للذخيرة الحية، ورغم اضطرابى - بل فزعى - الطبيعى عند رؤية أى سلاح نارى مهما صغر، فقد كنت أجلس أيامها فى مكتبى وحولى فى حجرتى الخاصة عشرات المدافع ومئات البنادق، وكلى اطمئنان وهدوء وكأننى أجلس وسط غابة من الزهور والورود!

بل إن الموقف وحاجة المنظمة إلى مزيد من السلاح والذخيرة دفعتنى ذات يوم للقيام بأغرب رحلة يقوم بها صحفى، فقد سافرت إلى الصعيد بصحبة صديق لكى أجمع كل ما نستطيع الحصول عليه من السلاح والذخيرة سواء لدى تجار السلاح المنتشرين فى عواصم محافظات الوجه القبلى أو فى حوزة الرجال المختفين فى كهوف الجبال على امتداد ضفتى النهر، وأشهد أنهم جميعا كانوا يسارعون بتقديم كل ما يملكون من سلاح وذخيرة لكى تضعه المنظمة فى أيدى الشباب الذى تقدم مسيرة النضال ضد المستعمر!

ويكمل إحسان عبدالقدوس كما جاء فى كتاب «إحسان عبدالقدوس يتذكر» للأستاذة د. أميرة أبوالفتوح فيقول:

من هذه النماذج شاب اقتحم مكتبى ذات ليلة بالمجلة ليقدم لى نفسه بإيجاز وغموض مثير: أنا من الصعيد، وأطلب سلاحا لأنضم به لمن يقاتلون عدو بلدى، فهل تعطينى ما أطلب!

ولم أسأله عن اسمه ولم أجد بنفسى أدنى حاجة لكشف شخصيته، كانت نبرة صدقه أقوى من كل شك ودفء الإخلاص الذى أشاعته حرارة حماسه فى نفسى، وأعطيته ما يريد وخرج من مكتبى لينضم إلى صفوف المحاربين فى القنال!

وفى آخر حكومات حزب الوفد خاضت روزاليوسف حربها دون هوادة ويتم سجن إحسان عبدالقدوس أكثر من مرة بسبب مقاله «من المسئول عن حكم مصر» ومرة أخری بسبب مقاله «حقوق الشعب وسلطات الملك»!

وبجانب المقالات النارية لإحسان عبدالقدوس كان هناك مقاتل آخر فى كتيبة روزاليوسف، ولكن بالريشة وهو الرسام الكبير عبدالسميع.

كتب الأستاذ الكبير فتحى غانم يقول:

«إن تأثير عبدالسميع السياسى كان أسرع وأقوى من المقالات والكتب السياسية، ريشة تتدفق بالحياة، فما بالك بما كان يرسمه فيلقى بأضواء كاشفة فاضحة للأحزاب جميعًا، لشخصيات الزعماء، للملك ولحكام مصر الإنجليز الذين يديرون شئون البلاد من سراى المندوب السامى أو السفير البريطانى فى قصر الدوبارة».

كان عبدالسميع يرسم غلاف روزاليوسف أسبوعيًا وعشرات الرسوم الكاريكاتورية داخل العدد أيضا، وكان يتفنن فى الضحك على الرقيب الموجود داخل دار روزاليوسف بابتكار عدد من الشخصيات المهمة التى لا يستطيع الرقيب أن يفهمها أو يتعامل معها!

ويقول الأستاذ أحمد بهاء الدين:

«كان لكل جريدة أسلوبها فى مهاجمة الملك السابق، وابتكرت روزاليوسف شخصية «غول» ضخم الجثة بشع الهيئة كريه المنظر اسمه الفساد كناية عن الملك وأخذت ترسمه فى صور كاريكاتورية لم يخف مغزاها على أحد ولم تكن نيابة الصحافة طبعا تجرؤ على أن تقول إن هذا الغول هذا الفساد هو الملك! وابتكرت أيضا رسم «حذاء ضخم» يشير إلى الملك مضت تستعمله فى التعبير عن معان خطيرة ساخرة تندد باستبداد الملك وتزلف الزعماء.

وكانت كل هذه الابتكارات والحيل الكاريكاتورية من ابتكار ريشة «عبدالسميع» الذى كان بمثابة المدفعية الثقيلة فى حرب روزاليوسف ضد الفساد والملك والاحتلال».

كانت مصر غاضبة وساخطة وبائسة، وفجأة احترقت القاهرة يوم 26 يناير سنة 1952، وتوالت على مصر الحكومات المختلفة، وفجأة بدأت تملأ مصر منشورات غاضبة، وغامضة بتوقيع الضباط الأحرار تدعو للثورة! بل وصلت هذه المنشورات إلى قصر الملك فاروق نفسه!

وبطبيعة الحال فقد وصلت هذه المنشورات إلى روزاليوسف وإحسان عبدالقدوس، وكانت هذه المنشورات حديث زوار إحسان، من يكتبها؟! ومن وراءها؟ هل أفراد غاضبون؟! أم تنظيم ما يسعى لتغيير النظام!

وكان من بين المترددين على روزاليوسف الضابط أنور السادات الذى كان أحد المتهمين فى قضية اغتيال الوزير أمين عثمان، والذى عمل فترة قصيرة محررا فى روزاليوسف بعد خروجه من السجن، وكان هناك أيضا الضابط جمال عبدالناصر وغيرهما، وكانت علاقتهم بروزاليوسف قد بدأت بقراءة صحيفة روزاليوسف اليومية عام 1935، وكانت مقالات عباس محمود العقاد الملتهبة هى سر عشقهم لروزاليوسف الصحيفة اليومية، ثم المجلة الأسبوعية بعد ذلك.

وفيما بعد قال إحسان عبدالقدوس: لم أكن على علاقة بتنظيم الضباط الأحرار، ولكنى كنت على علاقة بكثير من الضباط دون أن أعرف أو أهتم بمعرفة أنهم من الضباط الأحرار أو من تنظيم من التنظيمات داخل الجيش ولم يكن يعنينى هذا، فأنا أولا وقبل كل شىء كاتب سياسى وأديب قصصى لا أكثر وكان يكفينى من هؤلاء الرجال حماسهم لكل كلمة تكتب بالمجلة!

بل إن حماس هؤلاء الضباط الثائرين وصل إلى حد الإسهام - من وراء ستار - فى تحرير المجلة!

أنور السادات يكتب بلا توقيع عن فلسطين وغيرها من القضايا السياسية، وعبدالقادر حاتم يكتب عن لغة الأرقام فى مصر الأربعينيات، وضابطان آخران يتطوعان بالعمل كمخبرين سريين لباب «أسرار المجتمع»، الذى يشرف عليه المحرر صلاح حافظ كان يتلقف منهما فضائح الطبقة الحاكمة ليصوغها فى أخبار مثيرة تعجل بنهاية النظام!

ويضيف إحسان عبدالقدوس: كان أصدقائى من الثوار يزوروننى لثقتهم بى وكانوا يحضرون كمدنيين، وبعد جلستين أو أكثر يفصحون عن هويتهم العسكرية دون تفصيل، وذات مرة طلب اثنا وعشر ضابطا منهم الاجتماع بى فى لقاء خاص خارج روزاليوسف، وزارونى فى البيت وقالوا لى إنهم قرروا اغتيال الملك كان ذلك عام 1950 تقريبا، سألونى عن رأيى قلت لهم: إذا كنتم قد قررتم فبماذا يفيدكم رأيى، ومع ذلك فأنتم مقدمون على عمل يرجع بمصر مائة سنة إلى الوراء، إنكم بمجرد اغتيال الملك سوف يقوم الإنجليز بتعيين الأمير «محمد على» ملكا جديدا على مصر وستعلن الأحكام العرفية إلى ما شاء الله، وتسوء أحوال البلاد سوءًا شديدًا لا سبيل للخلاص من الملك والملكية والاحتلال إلا بثورة شعبية تقتلع الفساد من جذوره!

استمعوا إلى معارضتى لقرارهم ولم ينفذوا الاغتيال، وقد عرفت وجوههم فيما بعد لأنهم كانوا من الضباط الأحرار!

ويضيف إحسان: أكثر من كنت أعرف كان أنور السادات لأنه كان فى فترة ابتعاده عن الجيش قبل سنة 1950 يعمل محررا فى روزاليوسف.

وعرفت أيضا جمال عبدالناصر أعرفه كشخص، وكان يحضر إلى مكتبى بروزاليوسف مع «رشاد مهنا»، وكان عبدالناصر يجلس ولا يتحدث وكان رشاد مهنا هو المتحدث دائمًا!

هؤلاء كانوا يزوروننى لا كفرد منهم، إنما بصفتى صاحب رأى، كاتب وطنى يقرأون له، فقرروا الاتصال به للمناقشة».

انتهى إحسان عبدالقدوس من العمل فى روزاليوسف تخللها مناقشات وحوارات ساخنة بينه وبين شباب روزاليوسف الثائر على ما يحدث.

ويقول إحسان: «كنا واثقين تماما، أنها كرامة أمة وشرف جيشها، فمن يثور ومتى؟! أمامى الثائر فهو القادم فى الطريق، فلم يكن عندى شك فى أنه تنظيم الضباط الأحرار، وإن لم أصرح بهذا لزملائى، وأما متى يثورون فقد كان هذا هو السؤال الذى غادرتهم ليلتها وهو يدوى فى أذنى، وبت ليلتها وأنا متوتر قلق لأصحو على تليفون مزعج بالنسبة لصحفى مثلى، يسهر ليله متعقبا الأحداث والأخبار ولا يكاد يدلف إلى فراشه قبل الفجر، ثم يفاجأ بجرس التليفون المصمم يلح، وأستسلم لإلحاحه وأرفع السماعة فإذا بالمتكلم صديق عمرى الذى بدأ كفاحه الفنى والأدبى معى فى روزاليوسف - الأم والمجلة - وقلت وأنا أغالب النوم:

- يا أخى حرام عليك ده وقت تهزر معايا فيه.. عاوز إيه يا سيدي؟

ويأتينى صوت يوسف السباعى هادئاً ولكنه واثق وعامر بالفرحة والأمل:

- اصحى يا إحسان الثورة قامت!

ولم أكن بحاجة إلى مزيد من كلمات صديقى يوسف وأسرعت أرتدى ملابسى بلهفة مجنونة، وخرجت إلى حيث الهدف الذى عشنا جميعاً من أجله نحن شباب الأربعينيات ولم أكن بحاجة إلى من يقودنى فقد كنت أعرف طريقي! وكنت أعلم جيداً أن النبأ الذى زفه إلىّ صديق العمر «يوسف السباعى» عن قيام الثورة يعنى شيئا خطيراً بالنسبة لمصر وشعبها وبالنسبة للاستعمار ومركزه فى الشرق الأوسط، بل بالنسبة لمستقبل هذه الأمة العربية».

لقد روى الأستاذ إحسان عبدالقدوس ما جرى فى تلك الأيام وشاهد عن قرب وشارك فيه فى مقدمته لكتاب الأستاذ «أحمد بهاء الدين» وهو «فاروق ملكاً» الذى صدر بعد أسابيع قليلة من قيام الثورة ولم يذكر أسماء الضباط الذين كانوا حاضرين وقتها، حيث كان ذكر أسمائهم ممنوعاً ولم يكونوا قد عرفوا بعد باستثناء اللواء محمد نجيب الوجه الأول للثورة.

فى تلك المقدمة المهمة (10 صفحات من الكتاب) يقول إحسان:

أصبحت فى مركز القيادة واختليت بمحمد نجيب فى إحدى حجرات القيادة ومعنا بعض الضباط وسألته: ماذا تريد؟!

قال: الدستور والإصلاح!

قلت: هذا كلام عام.. إنى أسألك ماذا تريد فى هذه اللحظة ليتحقق فى هذه اللحظة؟! إن لك مطالب من سيقوم على تنفيذ هذه المطالب.. هل ستتولى الحكم بنفسك أم تريد وزارة جديدة؟

قال: إنى لا أريد أن أحكم، الدستور لا يتيح لى أن أحكم!

ويروى إحسان كيف تم استعراض عدد من الأسماء لتولى الحكومة وعندما اقترح محمد نجيب اسم «على ماهر» قال إحسان إنه رجل كل أزمة أعتقد أنه يصلح.

واقترح «محمد نجيب» أن يقوم إحسان بعرض الأمر على «على ماهر» وبدأت رحلة إقناع على ماهر ويكمل إحسان روايته دون ذكر أسماء:

أخذت معى اثنين من ضباط القيادة وركبنا سيارة أحدهما وتبعتنا سيارة جيب تحمل جنوداً مسلحين لحراستنا، وفى الطريق اتفقت مع صديقى على ألا نتكلم مع «على ماهر» بشأن الملك أو مصيره أو أن الحركة موجهة ضده مباشرة، إنما نكتفى بالحديث عن الفساد والتطهير والإصلاح!

واستقبلنا على ماهر فى الدور العلوى من داره بالجيزة، وبدأ الكلام أحد الضباط وتحمس فى عرض أهداف حركة الجيش، حتى بدأ يتحدث عن مصير الملك فمددت قدمتى وضغطت بها على حذائه من تحت المائدة حتى يخف من حماسته.

ثم رجوت «على ماهر» بأن يسمح لى أن أشرح له الموضوع بوصفى رسولا للواء محمد نجيب، ولم أقل له إن الجيش يريدك رئيسا للوزراء، ولكنى قلت إن الجيش يريدك أن تكون مستشاره ثم بدأت أعرض مطالب الجيش، وفهم «على ماهر» أن معنى استشارته هو أن يكون رئيسا للوزارة!».

وبعد عدة سنوات عرفنا أن اسم الضابطين اللذين ذهبا مع إحسان هما «أنور السادات» و«كمال الدين حسين»، وهو ما رواه إحسان فى سلسلة حواراته المهمة مع الأستاذ «محمد الشناوى» ونشرت فى مجلة الجديد سنة 1974.

ويقول إحسان: فى بيت على ماهر كان اللقاء الذى لن ينساه التاريخ، وأبلغه السادات إنه مكلف رسمياً بعرض تشكيل الوزارة الجديد عليه!

ويسكت الباشا الحائر ثم يقول: طبعا أنا مستعد لتحمل المسئولية الوطنية ولكن بشرط: ونسأله معاً أى شروط يا باشا!

كان الشرط مفاجأة حقيقية للجميع جعلتنى أتبادل نظرة ذاهلة مع الرئيس السادات والسيد «كمال الدين حسين»، وقال «على ماهر» شرطى الوحيد هو أن يوافق الملك!

وكنت أعرف ما سيحدث بالضبط، فقد كان مستحيلا أن يصبر السادات على عبارة كهذه يمحو بها قائلها كل وجود عملى للثورة، ويثبت بها فى نفسى واقعاً بغيضاً قامت الثورة للخلاص منه!

وعلى غير توقع من أحد دوى فى القاعة ذاتها انفجار آخر لا يقل مفاجأة ولا يقل هولاً وعنفاً، وكان صاحب الانفجار المضاد هو صاحبى الضابط الأسمر النحيل: أنور السادات.

- ملك مين يا باشا؟ صح النوم! ده إحنا فى ثورة.. فاهم يعنى إيه؟ البلد فيها ثورة! ثورة!

ومع تكرار كلمة ثورة كانت يد السادات تدق بعنف مخيف على (ترابيزة الصالون) فتزلزل سكونها الجامد، وتزلزل معها الباشا المرتجف من أعماقه!

لقد قبل «على ماهر» تشكيل الوزارة التى ستحمل بين يديها مطالب الثوار إلى الملك وأعلنت الإذاعة قيام الثورة. وفى أول عدد يصدر من روزاليوسف بتاريخ 4 أغسطس 1952 يكتب إحسان وكان الملك فاروق قد تم عزله وسافر إلى إيطاليا، كان عنوان المقال «الدستور لن يعزل الملك ولن يطهر الأحزاب» جاء فيه:

أعتقد أن الحديث عن المستقبل أجدى على مصر اليوم من الحديث عن الماضي، عندما تخلصنا من أسلوب ممقوت من أساليب الحكم، وتخلصنا من عقلية مظلمة ظالمة من عقليات الحكم، ولن يعزل الملك انتقاماً منه ولا تشفياً فيه ولا عقاباً له، بل عُزل لأنه كان يحول دون عهد جديد نريد أن نقيمه، وكان يحول دون مستقبل كريم نريد أن نسير فيه، وكان يحول دون العقليات النظيفة والأخلاق القوية من أن تعلو لتكون عنواناً لمصر».

وبدأ إحسان عبدالقدوس يكتب سلسلة من أهم مقالاته السياسية فى ذلك الوقت (من سبتمر 1952 إلى نهاية العام) ومنها مثلا: متى يعود الدستور ومتى تجرى الانتخابات، ومقال «غدا لن يتفرد إلا إذا تحررنا من عقلية العبيد.. ثم عدة مقالات متتالية تحت عنوان ثابت هو كيف نريد أن تحكم مصر». وفى مقاله الرابع كتب يقول:

أكرر للمرة المائة بعد الألف أنى فى كل ما أكتب لا أتلقى توجيها من أحد ولا أعبر عن رأى أى هيئة سواء كانت هيئة رسمية أو غير رسمية، وأنى لم أكن يوماً صوتاً لسيد، ولم أضع قلمى أبداً فى يد غيرى.

أقول هذا لأن البعض ظن أنى عندما كتبت عن «النظام الجمهوري» وأيدته إنما كتبت بوحى من القيادة العامة، وأنى عندما أعددت الاستفتاء الشعبى الخاص باختيار نظام الحكم فى مصر إنما أعددته بتوجيه رسمي، ونقلت الصحف الخارجية ما كتبت كما نقلت أخبار الاستفتاء على أنها تعبير عن رأى المسئولين وتمادت إحدى هذه الصحف فأكدت أن محمد نجيب سيعلن الجمهورية فى مصر بعد أسبوع! وهذا غير صحيح، كل ما هنالك أنى أومن بمبدأ عبرت عنه بقلمى.. وكان من حقى أن أعرضه على الشعب ليدلى برأيه فيه، برأيه فى شيء يخصه وهو صاحب الحق فى تقريره»!!

وكانت روزاليوسف قد بدأت فى 27 أكتوبر 1952 فى نشر الإعلان عن نظام الحكم بقولها: «روزاليوسف تستفتى الشعب: جمهورية أم ملكية؟!

ودعت القراء إلى ملء بطاقة الاستفتاء برأيهم وإرسالها للمجلة! وتقول:

لقد شرحت روزاليوسف كلا من النظام الملكى والجمهورى فى مقالات كتبها إحسان عبدالقدوس وانتهى إلى تفضيل النظام الجمهوري، كنظام لحكم مصر، ولكن هذا لا يكفى يجب أن يقول الشعب كلمته، إن رأيك سيكون له شأن كبير فى مستقبل مصر».

أما الخبطة الصحفية التى انفردت بها روزاليوسف عندما كشفت فى مقال «الرجل الثاني» تقول:

أصبح معروفاً أن الرجل الثانى فى الدولة بعد الرئيس محمد نجيب هو «البكباشى جمال عبدالناصر» وجمال عبدالناصر هو رئيس جماعة الضباط الأحرار التى قامت بحركة الجيش وإن كان هو لا يعترف بهذه الرئاسة.

وقد عُرف - رغم شبابه - بالهدوء الشديد وطول البال وعمق التفكير والذكاء المفرط حتى إنه استطاع أن يضلل جميع ضباط المخابرات ورجال البوليس السياسى فى جميع العهود المظلمة التى سبقت الحركة، وهو محل ثقة جميع ضباط الجيش على اختلاف نزعاتهم، وأثبتت الشهور التى أعقبت الحركة أنه يستطيع دائما أن يحقق أهداف العهد الجديد دون ضجة ودون عنف.

وقد زادت المسئوليات الملقاة على عاتق الرئيس «محمد نجيب» زيادة كبيرة حتى أصبح من الضرورى أن يقوم الرجل الثانى ببعض هذا العبء وأن يتحمل بعض هذه المسئوليات أمام الشعب، وينتظر أن تقع تطورات كبيرة فى بناء الدولة ابتداء من ديسمبر القادم».

وبعد سنوات طويلة يعود إحسان ليكشف تفاصيل مثيرة فى مقاله «على مقهى فى الشارع السياسي» بتاريخ 6 سبتمبر 1986 صحيفة الوفد فيقول:

«نشرت أن عبدالناصر هو الرجل الثانى وكانت المرة الأولى التى ينشر فيها اسمه كقائد مسئول، وإذا بمحمد نجيب يغضب غضباً جارفاً لما نُشر حتى يقول فى إحدى خطبه إنه سيحكم عليّ أنا بالإعدام، رغم كل الحب الذى يجمعنا، ولم أتأثر أنا وأخاف الإعدام، فقد كنت أعلم أن محمد نجيب يبالغ أحياناً وهو يلقى خطاباً دون أن يقصد هذه المبالغة، لقد كان يتكلم دائماً كأنه جالس مع أصدقائه فى المقهى السياسى الشعبى وليس كحاكم مسئول».

ويمضى إحسان فى دعوته إلى إقامة النظام الجمهورى فيكتب قائلا:

إن الجمهورية إن لم تعلن اليوم فلن تعلن أبداً، ولن تستقر مصر أبداً، وكيف لا تعلن الجمهورية الجمهورية؟! إن الشعب كله قد أقرها، وقد بلغ عدد البطاقات التى جُمعت فى استفتاء «روزاليوسف» - الذى لم يتم بعد - حوالى مائة ألف بطاقة، بلغت نسبة المطالبين بالجمهورية فيها حوالى 95 فى المائة معظمهم من الطبقة المثقفة وبينهم شخصيات بارزة نشرت «روزاليوسف» آراءها وذلك رغم أن الظروف كانت قد اقتضت إصدار بلاغ رسمى بأنه لم تعد بين المسئولين فكرة إعلان الجمهورية، رغم أن السيد «سليمان حافظ» وزير الداخلية لايزال يعتبر أن الدعوة للجمهورية بمثابة دعوى لقلب نظام الحكم، ثم إن الأحزاب السياسية كلها - تقريبا - كانت قد نصت فى برامجها على المطالبة بالجمهورية.

ورجال الدين كتبوا أن الإسلام لا يقر الملكية وينص على الجمهورية، والدوائر الاقتصادية والمالية كلها تنتظر إعلان الجمهورية حتى تشعر أنها انتقلت إلى حالة طبيعية تطمئن فيها إلى توظيف الأموال فماذا تنتظر؟

انتهى ما كتبه إحسان وهو ما تحقق بالفعل فى 18 يونيو سنة 1953.  

ووسط هذا الجدل السياسى خرجت السيدة روزاليوسف عن صمتها ووجهت رسالة إلى جمال عبدالناصر - وليس محمد نجيب - على صفحات مجلتها بتاريخ 11 مايو سنة 1953 بعنوان «خطاب مفتوح إلى جمال عبدالناصر: الحرية هى الرئة الوحيدة التى يتنفس بها الشعب، إنك فى حاجة إلى الخلاف تماماً كحاجتك إلى الاتحاد، وجاء فى خطابها أيضاً: إن التجربة كلها لا تحتاج إلا إلى الثقة فى المصريين وأنت أول من تجب عليه الثقة فى مواطنيه!

وفى نفس العدد يكتب جمال عبدالناصر ردا على روزاليوسف قال فيه:

لا نريد أن يشترى الحرية أعداء الوطن، وحاجتنا إلى الخلاف من أسس النظام، ولم ينس عبدالناصر أن يقول لها: أما تجربتك فإنى واثق أنها تستند على دروس الحياة، وأما تقديرك لما أبذله من جهد فإنى أشعر بالعرفان لإحساسك به، أما تحيتك فإنى أشكرك عليها».

وكان خطاب «روزاليوسف» ورد جمال عبدالناصر حديث الأوساط السياسية ليس   فى مصر وحدها بل الصحافة الأجنبية ومراسليها فى مصر.

وقبل هذا المقال بأسبوع واحد كانت السيدة روزاليوسف قد نشرت مقالها الذى دافعت فيه عن الصحافة بعنوان «الصحافة المصرية آخر من يلام على النفاق»!

كان إحسان عبدالقدوس شديد الإيمان بما يكتبه ويقول:

يوم نكف عن النقد والمطالبة والمعارضة والمجادلة فاعلموا أننا قد فقدنا هذه المبادئ أو أن هذه المبادئ قد فقدتنا». ونصل إلى مقاله الشهير «الجمعية السرية التى تحكم مصر» والذى طالب فيه بإنشاء حزب يمثل الثورة، وكانت المفاجأة أن يتم اعتقاله بسبب المقال.

وفيما بعد قال إحسان: لم يقرأ عبدالناصر المقال وإنما فسر له أحدهم المقال تفسيراً على هواه فأصدر أمراً بالقبض علىَّ وظللت ثلاثة شهور فى السجن الحربى فى الزنزانة رقم 19، وبعد ثلاثة أشهر أفرجوا عنى».

وتمضى الثورة فى طريقها وتظل روزاليوسف مؤيدة ومساندة وبعد تأميم قناة السويس فى يوليو عام 1956 يكتب إحسان مقال: «هذا الرجل هو الشعب».

وجاء فيه: اثنان وعشرون مليوناً مصرياً اجتمعوا فى قلب واحد وعقل واحد وإرادة واحدة وأطلق عليهم اسم «جمال عبدالناصر» إن جمال عبدالناصر هو الشعب، قلبه هو قلب الشعب، وعقله هو عقل الشعب وإرادته هى إرادة الشعب، ومن أراد لجمال خيراً، فالخير لهذه الملايين، ومن أراد لجمال سوءًا فقد أراد السوء بهذه الملايين، هذا الكلام يجب أن تفهمه أمريكا، فالأغبياء الذين يجلسون فى واشنطون يعتقدون أنهم يستطيعون أن يفرقوا بين جمال وبين الشعب.

إن الكلام أو الحديث والكتابة عن روزاليوسف وثورة 23 يوليو 1952 حديث طويل يستحق ليس مقالا بل كتاباً. تحية لثورة 23 يوليو وأبطالها فى عيدها السبعين، وتحية لروزاليوسف أمس واليوم وغداً».