الأحد 10 نوفمبر 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري
رئيس مجلس الإدارة
هبة الله صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري

من الشريك الاستراتيجى إلى التهديد المباشر تداعيات تغير وضع «روسيا» فى استراتيجية (الناتو)

«نحن رؤساء دول وحكومات حلف شمال الأطلسى (ناتو)، اجتمعنا فى «مدريد» مع عودة الحرب إلى القارة الأوروبية».. كانت هذه الكلمات الافتتاحية لقمة الحلف فى العاصمة الإسبانية خلال الأسبوع الماضى، والتى عقدت فى وقت حرج بالنسبة لأمن «أوروبا».



وعلى مدار يومين، ركزت قمة «مدريد» على هدفين رئيسيين، وهما: الموافقة على مزيد من الإجراءات الفورية، ردًا على العملية العسكرية الروسية فى «أوكرانيا»؛ والموافقة على مفهوم استراتيجى جديد لتحديث التحالف وتهيئته خلال العقد المقبل.

كانت العملية العسكرية الروسية فى «أوكرانيا» شهدت استجابة (الناتو) السريعة، عبر تعزيز وجوده فى الصفوف الأمامية لردع المزيد من التقدم الروسى المحتمل من وجهة نظرهم. وشمل ذلك إضافة أربع مجموعات قتالية جديدة متعددة الجنسيات منتشرة فى المقدمة، وتفعيل قوة الردع الخاصة بها -لأول مرة- فى دور دفاعى جماعى، ووضع أكثر من 40 ألف جندى تحت قيادة (الناتو) المباشرة فى أوروبا الشرقية.

على كل، تضمنت قمة الحلف عددًا من القرارات، ومنها:

رد (الناتو) على العملية العسكرية الروسية

بعد أن أدانت دول الحلف العملية العسكرية الروسية فى «أوكرانيا»، اتخذوا قرارًا بإعادة تموضع حلف (الناتو)، والذى تضمن تحولًا أساسيًا فى نظام (الردع، والدفاع) على أساس ثلاث ركائز، وهي: 

أولًا، المزيد من التشكيلات القتالية المنتشرة فى الصفوف الأمامية، حيث التزم حلفاء (الناتو) بزيادة مجموعات القتال متعددة الجنسيات الحالية لتشكيلات بحجم اللواء، وشمل ذلك زيادة ملحوظة فى القوات الجنوبية، بما فى ذلك فريق اللواء القتالى فى «رومانيا»، والمزيد من عمليات الانتشار الدورية فى دول البلطيق، وإقامة مقرات الفيلق الخامس بشكل دائم فى «بولندا»، والالتزام بالعمل تجاه هياكل قيادة (الناتو) على مستوى الفرقة فى دول البلطيق، مثل دعم «المملكة المتحدة» لإستونيا.

ثانيًا، المزيد من قوات الجهوزية العالية، إذ ستزيد قوات استجابة (الناتو) من 40 ألفًا إلى 300 ألف. ويعتمد هذا على نموذج قوة (الناتو) الجديد، الذى يتألف من مستويين من القوات عالية الجاهزية، منهم 100 ألف جندى فى وضع استعداد يصل إلى 10 أيام للنشر (مقارنة بالنموذج السابق البالغ 40 ألف فرد فى 15 يومًا)، و200 ألف جندى حتى 30 يومًا.

وللمرة الأولى منذ الحرب الباردة، سيكون لدى (الناتو) قوات مُخصصة -مسبقًا- للدفاع عن حلفاء محددين، حتى يتمكنوا من شحذ خطط الطوارئ، وأن يصبحوا أكثر دراية بالتضاريس المحلية؛ على سبيل المثال، أعربت «فرنسا» عن استعدادها لنشر لواء فى «رومانيا» فى غضون مهلة قصيرة.

ثالثًا، المزيد من المعدات الموجودة مسبقًا، لتعزيز مصداقية نموذج (الردع من خلال التعزيز).. حيث سيتم دعم ذلك من خلال القوات المنتشرة فى المقدمة، مثل وحدات الدفاع الجوى، والقيادة والسيطرة المعززة.

جدير بالذكر، أن الأمين العام للحلف «ينس ستولتنبرج» علق على تلك الخطوة، بأن هذا يُعد أكبر إصلاح لدفاع (الناتو) الجماعى، منذ نهاية الحرب الباردة. ولكنه، اعترف –فى الوقت ذاته- بأن ذلك لن يحدث على الفور، حيث من المفترض أن يتخذوا القرار الآن، وبعدها سيتم الشروع فى التنفيذ، ومن ثم سيكونون جاهزين فى العام المقبل. 

مساعدة الحلف لأوكرانيا

منذ بداية العملية العسكرية الروسية فى «أوكرانيا»، زاد حلفاء (الناتو) من مساعداتهم العسكرية لأوكرانيا، وقدموا المعدات العسكرية، بما فى ذلك: الأسلحة المضادة للدبابات، والمدرعات، وأنظمة المدفعية.

وخلال قمة «مدريد» اتفق الحلفاء على زيادة دعم (الناتو) المباشر لأوكرانيا من خلال حزمة مساعدة شاملة، تشمل: معدات الدفاع غير الفتاكة، مثل: الاتصالات الآمنة، والوقود، والأنظمة المضادة للطائرات بدون طيار، وتحسين دفاعاتها السيبرانية، وقدرتها على الصمود.

أما على المدى الطويل، فقد التزم (الناتو) بدعم إعادة الإعمار، والإصلاحات فى «أوكرانيا» بعد انتهاء الأزمة الحالية.

ما الخطوة التالية بالنسبة للسويد وفنلندا؟

بعد معارضة تركيا الأولية لطلبات عضوية «فنلندا، والسويد»، وقع الثلاثة مذكرة تفاهم قبل القمة. وبعد الانتهاء من هذا العائق، عادت «هلسنكى، وستوكهولم» إلى المسار الصحيح للعضوية. ودعاهما (الناتو) -رسميًا- إلى التقدم. 

لهذا، ستكون الخطوة التالية، هى التوقيع على (بروتوكول الانضمام)؛ ومن ثم يصادق الحلفاء على هذه الوثيقة. ولكن، الأمر قد يستغرق شهورًا، على الرغم من أن السلطات التركية قد أشارت إلى أن التصديق من جهتها، قد يعتمد على ما إذا كانت «فنلندا، والسويد» تفيان بالتزاماتهما تجاهها.

المفهوم الاستراتيجى الجديد لحلف شمال الأطلسى

يحافظ المفهوم الاستراتيجى الجديد لحلف (الناتو) على نفس المهام الأساسية الثلاث، التى كان عليها سلفه فى عام 2010، وهي: (الردع والدفاع، ومنع الأزمات وإدارتها، والأمن التعاوني).

وعلى الرغم من أن هذه المهام كانت متسقة منذ نهاية الحرب الباردة، إلا أن أهمية الردع ارتفعت منذ ضم «روسيا» لشبه جزيرة القرم فى عام 2014. وينبع هذا التعهد من التقييم المُحدث للمفهوم لروسيا باعتبارها تهديدًا مباشرًا.

وفيما يخص الردع والدفاع ضد العدوان السياسى أو (التكتيكات الهجينة)، فقد أكد المفهوم الاستراتيجى الجديد على بناء مرونة على مستوى التحالف ضد التهديدات العسكرية، وغير العسكرية.

المفهوم الاستراتيجى عن «روسيا»

يقدم مفهوم «مدريد» تناقضًا صارخًا فى وصفه للبيئة الاستراتيجية، حيث كانت منطقة «أوروبا» الأطلسية تنعم بالسلام فى عام 2010، وكان التهديد بشن هجوم تقليدى ضد أراضى (الناتو) منخفضًا. أما –الآن- فقد اعتبر حلفاء (الناتو) أن المنطقة الأوروبية الأطلسية ليست فى سلام، حيث لا يمكن للحلفاء استبعاد إمكانية حدوث الاعتداء على سيادتهم وسلامتهم الإقليمية.

تجلى هذا التغيير فى اللهجة بشكل أكبر ناحية «روسيا». فبينما كان الحلفاء يأملون فى عام 2010 فى بناء شراكة استراتيجية حقيقية بين (الناتو) و«روسيا»، يصف المفهوم الجديد «موسكو» بأنها التهديد الأكثر خطورة والمباشر لأمن الحلفاء. وقيّم (الناتو) «روسيا» على أنها تسعى إلى إنشاء مناطق نفوذ وسيطرة مباشرة من خلال الإكراه، والتخريب، والعدوان، والضم.

فى المقابل، كرر المفهوم التأكيد على أن (الناتو) لا يسعى إلى المواجهة، ولا يشكل أى تهديد على «روسيا»، ويسعى إلى إبقاء قنوات الاتصال مفتوحة مع «موسكو»، من أجل إدارة المخاطر وتخفيفها ومنع التصعيد وزيادة الشفافية.

كيف ردت «موسكو»؟

وصف العديد من المحللين السياسيين رد فعل «روسيا» بالمعتدل، حيث أعلن مسئولون كبار أن «موسكو» ستتخذ خطوات تعويضية لضمان أمنها، والتى قد تشمل قوات إضافية، وربما قوات نووية فى مناطقها الحدودية.

كما، قال الرئيس الروسى «فلاديمير بوتين» إن «روسيا» ليس لديها مشاكل مع «فنلندا»، و«السويد»؛ مؤكدًا أن انضمامهما إلى (الناتو) لا يشكل تهديدًا مباشرًا، طالما أن (الناتو) لا يبنى وحدات عسكرية وبنية تحتية فى هذين البلدين. ولكنه، حذر فى الوقت ذاته –بشكل عام- من أنه على استعداد لخلق نفس التهديدات للأراضى التى تنشأ منها تهديدات ضد أراضيه. 

اعتبر المحللون السياسيون أن ما يكمن وراء هذا الموقف غير واضح. ولكن، بالنظر إلى المعركة الصعبة فى «أوكرانيا»، توقعوا ألا يرغب «الكرملين» فى مواجهة مشاكل إضافية؛ بينما رجح آخرون أن سبب اعتدال رد الفعل الروسى، هو إعلان السلطات السويدية والفنلندية فى الأشهر الأخيرة، أنهما لن يسمحا بوضع أسلحة نووية على أراضيهما، وهو ما قد يفسر سبب عدم اهتمام «موسكو» بعضويتهما، رغم أنها حاولت ثنيهما من قبل عن قرار الانضمام؛ متوقعين أن توسع (الناتو) على الحدود الروسية يعنى –أيضًا- توسع «روسيا» نحو حدود دول (الناتو).

هل سيكون لتغييرات المفهوم الاستراتيجى للناتو تأثير على الأزمة بأوكرانيا؟

لم يرجح الباحث فى برنامج الدراسات الروسية وأوروبا الشرقية والأوروبية الآسيوية فى «جامعة ييل» الأمريكية، «توماس إى جراهام» أن يدفع الموقف الجديد لقوة (الناتو)، ومفهومه الاستراتيجى، «الكرملين» إلى إعادة التفكير فى استراتيجيته الخاصة بأوكرانيا؛ مضيفًا أنه رغم إحراز «روسيا» تقدمًا بطيئًا داخل الأراضى الأوكرانية، إلا أنها ثابتة فى ساحة المعركة فى الشرق والجنوب.

وأكد أنه لا يوجد شىء يوحى بأن «موسكو» تعتقد أن توفير الغرب لأسلحة أكثر تطورًا سيغير الواقع على الأرض. لكن، الظروف الجديدة فى «أوروبا» تشكل تحديًا استراتيجيًا طويل الأمد لروسيا.

وأوضح أن «روسيا» تعوض عزلتها المتزايدة عن «أوروبا»، بمشاركتها القمم الأخيرة لمجموعة (بريكس)، التى تشمل «البرازيل، وروسيا، والهند، والصين، وجنوب إفريقيا»، ودول بحر قزوين، للتأكيد على أن «موسكو» تحظى بأصدقاء وحلفاء فى أماكن أخرى.

هل عمقت قمة (الناتو) العلاقات الروسية الصينية؟

على خطى (إعلان لندن) لعام 2019، و(بيان بروكسل) لعام 2021، نص المفهوم الاستراتيجى الجديد للناتو على أن: (طموحات «الصين»، وسياساتها – التى وصفت بالقسرية- تتحدى مصالح دول الحلف، وأمنه، وقيمه)؛ بينما شمل التهديد من «الصين» كلًا من:  (العمليات الهجينة والسيبرانية، والمعلومات المضللة، والسيطرة على القطاعات التكنولوجية والصناعية الرئيسية، والشراكة المتنامية مع «روسيا»).

كما شدد المفهوم –أيضًا- على أهمية منطقة المحيطين الهندى والهادئ بالنسبة لحلف (الناتو)؛ موضحًا أن التطورات فى تلك المنطقة يمكن أن تؤثر بشكل مباشر على الأمن الأوروبى الأطلسى. لذلك، قرر (الناتو) تعزيز حواره وتعاونه مع شركائه فى المحيطين الهندى والهادئ، وهم: «أستراليا، ونيوزيلندا، واليابان، وكوريا الجنوبية»، جيران «الصين»، الذين شارك قادتهم فى القمة لأول مرة.

وعليه، وجهت «موسكو، وبكين» انتقادات لحلف شمال الأطلسى، بعد إعلانه أن «روسيا» تمثل (تهديدًا مباشرًا)، وأن «الصين» تشكل (تحديات خطيرة) للاستقرار العالمى.

واتهمت السلطات الصينية الحلف العسكرى الغربى بمهاجمة الدولة، وتشويه سمعتها بشكل خبيث؛ بينما اعتبرت بعثتها الدبلوماسية لدى «الاتحاد الأوروبى»، إن (الناتو) يدعى أن دولًا أخرى تشكل تحديات. لكن، الحلف هو الذى يخلق مشكلات فى جميع أنحاء العالم.

اعتبر المحللون السياسيون، أنه مثلما تسببت «روسيا» فى الوحدة بين المنظمات الغربية، فقد عمل الغرب على تعزيز التحالف الروسى الصينى، إذ كان التطور الإيجابى بالنسبة لـ«موسكو»، هو ذكر جارتها «بكين» -لأول مرة تقريبًا- فى مفهوم (الناتو)، ما يؤكد النظرية الروسية التى لا طالما قالت «من هم الذين يتوسع (الناتو) ضدهم؟».

فى النهاية، ما يمكن فهمه من المفهوم الاستراتيجى الجديد لحلف (الناتو)، هو استمرار النزاع بين «روسيا»، و(الناتو) لفترة أطول، وتحديدًا على الجبهة الأوروبية فى السنوات المقبلة. ورغم أنهما لا يتواجهان بشكل مباشر من خلال الوسائل العسكرية، إلا أنهما قد يكونان فى حالة حرب مع دول ثالثة، مثل حالة «أوكرانيا»؛ أما التحالفات الدولية، فهى أكثر ما يؤرق المسئولين والمحللين السياسيين على حد سواء، إذ يقلق أغلبهم –إن لم يكن جميعهم- من تحول الأمر من نزاع صغير إلى صراع بين القوى العظمى.