الخميس 25 أبريل 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري
رئيس مجلس الإدارة
هبة الله صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري

روايــة سوناتا عزيزة “الحلقة الخامسة”

عزبة السعداوى 2008



عندما خرج النعش الخشبى يضم جثمانها من غرفة نومها فى طريقه للمقابر، انتحب البيانو الأبيض بكل موسيقى عزيزة هانم التى عزفتها على أوتاره وعزفها بأصابعها منذ لقائهما الأول من سنوات بعيدة وحتى لقائها الأخير، انتحب بنغمات شوبان وبكت أوتاره بموسيقى ذكريات الماضى الحزينة، تتداخل نغماتها وأدعية أهل البلدة وهمهمات حزنهم وهم يحملون النعش ويدعون لها بالرحمة، وقلوبهم تبكيها وتبكى فراقها، وسيرتها الطيبة تلاحق جثمانها بحزنهم ومحبتهم ودموعهم السخية. 

 فرحانة تنتحب فى حديقة السرايا تنتظر عبور النعش أمامها لتلوح بكفيها لسيدتها وعشرة العمر عزيزة هانم، تودعها وصوتها المتهدج الحزين يصرخ مع السلامة يا غالية، مع السلامة يا حبيبة، مع السلامة يا ست عزيزة. 

 كنت أقف فى الشرفة الواسعة التى طالما جلسنا فيها معًا، أتابع النعش بعينى الحزينتين وأعاصير دموعى المكتومة تحرق روحى،أحسست أن النعش تباطأ بعض الوقت أمام مقعدها الذى قضت عليه آخر أيامها لا تعرفه ولا تعرف البيت ولا تعرف نفسها، كأنها تودع مقعدها الحبيب بعدما استعادت عقلها ووعيها وصحتها حين تخلص جسدها من مرضه، وأطلق لروحها عنان حريتها صوب حياتها الأبدية الخالدة، وكأنى رأيت المقعد يبكى رحيلها، تشاركه الحزن عصافير الحديقة التى طالما حاولت طيلة مرضها أن تنبهها لنفسها، وأفلحت أحيانًا وفشلت كثيرًا، كأنى سمعت بكاء المقعد ونحيب العصافير، المرعب أنى رأيتها بابتساماتها الطيبة تودعهم كأنهم تطمئنهم على صحتها، التى تخلصت من لعنة المرض برحيلها للبراح الآمن والحياة الأخرى.

كان النعش يخرج من البوابة العالية متجهًا إلى الشارع الضيق صوب المقابر، وأنا أتابعه بدموع عينى ونحيب فرحانة يعلو ويعلو مع كل خطوة يخرجها النعش من السرايا، سمعتها توصينى وسط صخب الأدعية والنحيب بكتابها، تقصد كتابنا، توصينى أن أوزعه على الناس كلهم وأحكى حكايتها لهم، توصينى أن أهتم به قدر اهتمامى بها وأحبه مثلما أحبها. صوتها الذى كنت نسيته طيلة سنوات مرضها، خدعنى حتى تصورتها شفيت من مرضها اللعين، وعادت بصحتها إلى مقعدها وشرفتها والبيانو الذى تحبه، سنوات طويلة مُرة مرت علينا وهى صامتة، حتى نسيت صوتها فعلًاً، كنت أسمع من حنجرتها أصواتًا مبهمة غير مفهومة، اليوم عاد لها صوتها وعادت لها صحتها ورحل عنها المرض ورحلت هى عنا للأبد..

ابتسمت وسط دموعى أطمئنها على الكتاب، تواسينى لأن الظروف أجبرتنى أن أكتب عنها كتابى الأول، وأؤجل كل أحلامى التى لطالما حكيت لها عنها فى أثناء دراستى بالجامعة وبعدها.

كنت أحكى لها منتشية عن مشروعاتى الثقافية، سأكتب عن التاريخ وحكاياته وأساطيره وأهله، كل هذا تأجل جبرًا وقت أن سلمتنى صندوق جدتها وأوصتنى بحكايتها، ووعدتها أن أحقق لها أمنيتها الأخيرة، لم أكن أعرف وقتها أنها أمنيتها الأخيرة، لكنى اليوم عرفت، الحق عرفت وقت أن نهش المرض عقلها، فنسيت الأمانى والتمنى،وصارت وصيتها الأخيرة وأمنيتها الأخيرة آخر ما عبرت عنها قبل أن يتوه عقلها وتتوه هى أيضا فى غياهب المرض المتوحش.

لوحت لها وللنعش أودعها فى رحلتها الأخيرة، ووعدتها أن أفى بوعدى وأحقق أمنيتها وأنفذ وصيتها وأحكى حكايتها للناس، كل الناس، صدقتنى وأعطتنى ظهرها وخرجت للأبد من السرايا صوب المقابر، أو هكذا كنت أظن، لأنها فى الحقيقة لم ترحل قط، رحل جسدها التعب وبقيت معى فى السرايا تؤنسنى،كأنها تشفق علىَّ من وحدتى القاسية التى تنبأت بها رقية ولم أصدقها، لكن قلبها البصير كان يرى ما لا أراه، رحل جسدها التعب لكنها بقيت معى للأبد، وفى تمام السابعة مساء من كل يوم وحينما تقدم الساعة العتيقة دقاتها المعتادة، تصلنى رسالة حبها بموسيقى شوبان التى تعزفها وتؤنسنى وتهون علىَّ ليلى الطويل. امتننت لها لأنها لم تغادرنى وامتنت لى لأنى حققت وصيتها الأخيرة وزاد الحب بيننا، مع السلامة يا غالية.

ثلاث سنوات ويزيد قضيتها بجوارها والمرض يلتهم عقلها ووعيها. 

 حاولت فيها أن أسدد لها كل ديون حبى وامتنانى،وأرعاها من كل قلبى وبكل طاقتى،وكنت أظن أيام المرض لن تنتهى،وسنبقى أنا وهى لآخر الدهر أسرى ذلك المرض المتوحش، لكن الأيام انتهت والمرض رحل عن جسدها وقلبها وسراياها والبلدة كلها، ورحلت معه إلى حيث حياتها الأبدية التى تستحق أن تعيش فيها الراحة التى لم تحققها لها كل أيام عمرها الذى عاشته بكل ما عاشته وواجهته فيه وفى أثنائه. 

 خرج النعش من بوابة السرايا وابتعد عن سورها وشرفتى ومرمى بصرى،لأفقد الإحساس بالزمان والمكان، لفترة لا أعرف طولها حتى ظننتنى مرضت مثلها وتاهت الأيام منى والعقل كمان، ما الذى حدث وقتها؟! وأين ذهب النعش والمعزون؟ ومتى عادوا وكيف غادرت هى السرايا وإلى أين؟ هذا كله لم أدركه بعدما غرقت فى وجع رحيلها الحقيقى،وكنت أظنه لن يوجعنى بعدما عشت معها أيام مرضها القاسية. ثلاثة أعوام وأكثر من المرض والنسيان، وهى الحاضرة الغائبة، حتى تمنيت لها الموت راحة وكرامة وكبرياء أفقدها لها المرض بتوحشه المهين سنوات كثيرة. 

 فى آخر الليل وبعدما خلت السرايا من المعزين، وقفت فرحانة تائهة فى الصالة التى لا تعرف ما الذى يتعين عليها فعله، بعدما رحلت صاحبة السرايا التى قاسمتها الحياة خمسين عامًا وأكثر، كنت تائهة مثلها وأكثر، تتعثر خطواتى على أرض السرايا كأنى لم أسِر عليها من قبل، أخبرت شقيقاتى اللاتى قضين اليوم فى السرايا معى أنى سأقضى أيام العزاء فى السرايا، ولن أغادرها لا إلى دار أبى ولا إلى بيت أى واحدة منهن، ولا إلى بيتى فى المنصورة. كنت أظن - وهن جميعا ظنن - أنى سأرحل عن السرايا بعد انتهاء أيام الحزن والحداد، ورغم وجع هذه الفكرة، آثرت وقتها البقاء فيها لبعض الوقت علىَّ أرتشف من ذكريات وجودها ما يهون علىَّ رحيلها فى البداية ورحيلى من السرايا التى عشت فيها أيامًا سعيدة كثيرة من حياتى فى النهاية. 

 لم أكن أعرف وقتها أن عزيزة هانم، وبعدما تخرجت فى الجامعة وقبل أن يسحق المرض اللعين عقلها وروحها، وهبتنى السرايا إرث المحبة بيننا ملكية خاصة بى، وأنها أخفت عنى الأمر، ثم عصف بها المرض فنسيت الأمر كله ونسيت نفسها ونسيتنى، حتى عرفته من محاميها الذى فاجأنى بعد أربعين يومًا من وفاتها، وسلمنى الأوراق والمفاتيح وآخر خطاب منها كتبته لى، كل هذا بالطبع لم أعرفه يوم الوفاة وأنا أبكيها فى السرايا، كنت حزينة لرحيلها أفتقد وجودها فعلاً قبل أن تخرج من السرايا، وفى الوقت نفسه أحس بعض الراحة لأنها تخلصت من مرضها اللعين واستردت نفسها، ولو فى براح بعيد لن أشاركها وجودها فيه كما تشاركنا طويلا أيام عمرنا.

سألنى مستور أن يبقى معى فى السرايا ليأخذ بحسى فى تلك الليلة الصعبة، شكرته وطلبت منه يعود لبيته وأولاده ويصحب شقيقاته لبيوتهن، وسرعان ما أغلقت الباب خلفهم ممتنة لبقائى وحيدة أنا والسرايا وفرحانة، وذكرياتى مع الحبيبة الغالية وحزنى عليها. 

 جلست على الكنبة أمام البيانو أحدق إليه وأسمع نحيب أوتاره يبكى غياب صاحبته حزينا، وأوتاره تنتحب بموسيقى (الليل) ودعا لصاحبته الجميلة التى أحبته وأخلصت له طيلة حياتها، أحدق إلى البيانو وأتمنى أن أبكى مثله بعدما تحجرت دموعى،فعجزت عن البكاء ولو بدمعة واحدة تعبر عن حزنى العميق لرحيلها. فرحانة تراقبنى ولا تعرف ما الذى يتعين عليها فعله، تائهة فى الصالة كأنها غريبة مخطوفة، تلف حول نفسها كأنها تبحث عن سيدتها لتقدم لها العشاء وأدوية قبل النوم، وتحكم عليها الغطاء حتى تنام فتلحق بها على البطانية االصوف أمام فراشها مثلما اعتادت منذ وفاة لطفى بيه، لكن سيدتها رحلت وخلت السرايا إلا منا أنا وهى،فاحتاست لا تعرف كيف تنهى يومها بعدما تلاشت كل طقوسها التى عاشتها كل ليلة لسنوات وعقود طويلة، وفى النهاية أطفأت كل أنوار السرايا وحملت بطانيتها على كتفها لتفرشها فى الصالة، وانفجرت فى عويل موجع لأن حياتها انتهت كما تقول، لكنها ما زالت حية لا تعرف كيف تعيش بقية الأيام.

أتركها وأتسلل إلى غرفة عزيزة هانم، أرتدى ثوب نومها وألقى بدنى على فراشها، أشم رائحتها على مخدتها ومن بين ثنايا مرتبتها القطنية، أسمع صوت أنفاسها كأنها تركت لى بعضًا منها يؤنسنى فى ظلام السرايا، أسمع صوتها الطيب وهى تدعو لى بالفرحة وتشكرنى على محبتى، فأرفض شكرها وأعتذر لأنى مهما قلت وفعلت لن أوفيها حقها أو أرد جميلها، أسمعها تنهرنى لأنى ابنتها وما بين البنات والأمهات شكر ولا جميل، أرانى أقفز فى حضنها أؤكد لها أنها أمى فعلا، وأترحم على أمَّه رقية التى حرمتنى مخاوفها وفزعها من أمومتها وحبها، هنا تنفجر دموعى وأنتحب بصوت لم أسمعه منى من قبل مهما اشتد حزنى،إنه صوت دموع اليتم التى انهمرت بعدما ماتت عزيزة هانم، لأعيش اليتم الموجع وأواجه الحياة للمرة الأولى وحدى بلا أمى. 

 على فراشها أستدعى ذكرياتنا أيام صحتها، أيام وجودها القوى، أيام عطائها المتدفق لكل من أحبتهم بإخلاص وصدق، أعيش ذكرياتنا التى أحبها، أغلق عينى بشدة أطرد صورتها وهى شاحبة تائهة تحدق إلى الفراغ أمامها وحولها وقت أن تمكن المرض اللعين من صحتها، فتاهت وهى فى بيتها،وغابت وهى حاضرة، وقتلتنا بموتها وهى حية، أغلق عينى بشدة أطرد مرضها من ذاكرتى وذكرياتنا، أنكر مرضها كأنه لم يحدث قَط، كأننا لم نعش تلك الأيام ونتعذب بها وفيها، أنكر مرضها وأقوى على إنكاره، اليوم من حقى - بل من واجبى - إنكار ذلك المرض كأنه لم يحدث قط، أسقط تلك السنوات من خيالى، أنسى عينيها الزائغتين وملامحها المهزومة وشفتيها المرتعشتين، وهى تبحث جاهدة عن كلمات لتقولها فلا تعثر إلا على فراغ موحش اعتقلها بين طياته الثقيلة، فتاهت وغابت ورحلت وهى على قيد الحياة، اليوم من واجبى أن أنكر تلك الأيام، ذلك الإنكار الذى طالما لمت نفسى عليه وقت أن كنت أتمنى عودتها من بحار التيه التى أغرقتها، فأخجل من نفسى كأنى أضيق بها وهى ضعيفة تائهة ضائعة بلا حيلة ولا وجود، اليوم لا ألوم نفسى على إنكارى لمرضها ولا أخجل منه، بل سألوم نفسى لو استسلمت لقهر مرضها وذكرياته، وأبقيته يستبد بها وبذكرياتها ويمحو حياتها ووجودها الحقيقى من خيالى وذكرياتنا. 

 على فراشها وفى مكانها الذى بقيت فيه كل أيام مرضها، أغلق عينى بشدة وأنسى مرضها، وأتذكر فقط ملامحها الطيبة وعينيها المتوهجتين وحبها الفياض لى ولفرحانة وللحياة كلها. على فراشها وفى حضرة روحها الطيبة وغيابها الموجع، أغمضت عينى وألقيت عليها السلام، عليكِ السلام يا جميلة، عليكِ السلام يا أمى الطيبة، ألقيت عليها السلام واستعذت بالله من مرضها المتوحش وتنفست الصعداء لرحيله عن بيتها وعن جسدها وروحها، تنفست الصعداء لعتقها من توهتها الطويلة ولو للبراح البعيد الذى أثق بأنها ستكون سعيدة فيه وحولها كل محبيها، لعلها تعيش معهم بقية الحكاية التى لم تعرفها ولا أعرفها، لعلها الآن تعرف منهم بقية التفاصيل التى تعذر علىَّ وعليها وقت صحتها ووقت مرضها معرفتها، ألقيت عليها وعلى روحها الطيبة السلام، ودعوت لها بالرحمة والمغفرة فى ليلتها الأولى فى مقبرتها، وحيدة لا تملك إلا أعمالها ودعواتنا تشفع لها وتهون عليها الوحشة، ابتسمت لأن أعمالها الطيبة الخيرة ستنير مقبرتها وتمنحها سكينة الخيرين بين يدى الله وفى حضرته، الله يرحمك يا عزيزة هانم، وكأنى سمعت صوتها يعاتبنى لأنى لم أنادها بما تستحقه وتتمناه منى حتى فى تلك الليلة الحزينة. الحق هى عاتبتنى سنوات كثيرة لأنى ضننت عليها ببنوتى ومنحتها لأمَّه رقية لا يشاركها فيها أحد، حتى عزيزة هانم التى اعتبرتنى ابنتها وعاملتنى بحنان أمومتها الطيبة طيلة حياتها، كنت ألمح نظرة عتاب فى عينيها وهى تشتهى وتتمنى أن أناديها بلقب أمومتها الحقيقية الفياضة التى أغدقت سعادتها وعطاءها علىَّ، لكنى فى سنوات مرضها الأخير ووقتما كانت تعود لوعيها ولو للحظات عارضة قصيرة وتشكرنى لأنى أرعاها وأحميها من مرضها ومن نفسها ومن الفراغ الذى تحدق إليه ليل نهار، كنت أقبض على كفيها وأهمس: مافيش شكر بينا يا أمى، وكنت أقصد وقتها كل حرف أقوله وأعنى معناه بالضبط، فتهمس فرحة بصوت حنون طيب كأنها لم تمرض قَط: أنا عمرى طويل يا عزيزة لأن اللى خلف مامتش، وقبل أن أرد عليها تتوه عن دنيانا وتنسانى وتنسى نفسها وتنسى بقية الكلام الذى تمنت أن تقوله، وقتها كنت أسكن فى حضنها أدعو لها بمعجزة الشفاء وبطول العمر الذى كنت أحس أن أيامه أوشكت على النفاد، وأنا أتابع تأخر حالتها الصحية ونهايات مرضها المتوحش تلتهمها وتخطفها للفراغ واللا شيء، وتأسرها فى صور شاحبة بلا ملامح فى عالم من النسيان لا تعرف فيها نفسها ولا تعرفنى. 

 ومرت الليلة الأولى على رحيلها موحشة قاسية علينا أنا وفرحانة، وحتى على البيانو الأبيض الذى قرر فى السابعة مساءً أن ينتحب بأوتاره على نغمات موسيقى «الليل» تارة وموسيقى «رياح الشتاء» تارة أخرى،تلك المعزوفات التى كانت تحبها وتختبئ فى نغماتها الحزينة من فيضانات أحزانها التى تداهمها بين كل حين وآخر.

منذ سنوات بعيدة كنت أسألها ماذا بك ولم هذا الحزن؟ فتبتسم وتصمت كأنها لم تسمعنى، حتى طالعت أوراقها التى منحتها لى قبل مرضها، فعرفت منها كل شيء وعرفت لِمَ جمعنا القدر ولِمَ قادتنى الظروف إلى السرايا الكبيرة، وقادتها لاحتضانى لتبدأ بيننا وقتها الحكاية الحقيقية التى عشناها معا، وها هى كل الأيام بيننا قد مرت وانتهت، وها هى رحلت وغابت، وها أنا أعيش وجع ليلة غيابها الأولى أنا والحزن ووصيتها الأخيرة.