الخميس 25 أبريل 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري
رئيس مجلس الإدارة
هبة الله صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري

روايــة سوناتا عزيزة

سوناتا



Sonata

No.9

chopin

عندما علّقت الدكتورة عزيزة صورة أمّها على الجدار الكبير فى صالة سرايا السعداوى، وهى جالسة أمام البيانو الأبيض بجدائلها الفضية وثوبها القرمزى الوقور الأنيق، وأصابعها على أصابعه العاجية وابتسامتها الزاهية تزين اللوحة، فى تلك اللحظة ومع دقات السابعة مساءً، قفزت عزيزة هانم من إطار اللوحة لتجلس أمام البيانو الأبيض، الذى يزين ببهائه الصالة الكبيرة وتعزف سوناتا من أجمل موسيقى شوبان التى تحبها، لكن البيانو الأبيض المرسوم فى اللوحة تشبث بالسيدة الأنيقة ووجودها معه، وبدأت أوتاره تعزف مع قلبها كل موسيقاها التى تحبها. وكانت هذه اللحظة أغرب ما عاشته عزيزة الصغيرة فى سرايا السعداوى منذ دخلتها من عشرات السنين، وقد أقسمت للكثيرين الذين لم يصدقوها، أن لوحة أمها كل يوم ووقتما تدق الساعة العتيقة دقات السابعة مساءً، تعزف لمدة ساعة كاملة بأصابع عزيزة هانم المنيرى وروحها كل مقطوعات شوبان التى أحبتها وأجادت عزفها طيلة حياتها، لم يصدقها الكثيرون، لكنها هى شخصيًا صدقت ما تراه أمام عينيها، وبقيت كل يوم تنتظر دقات السابعة وسوناتا شوبان وروح عزيزة هانم المنيرى، التى قررت ألا تغادر السرايا وتبقى مع ابنتها تؤنس وحدتها وتسعدها بوجودها، هى وموسيقى شوبان التى طالما أبهجتهما.

مازالت حية

الدكتورة عزيزة

برن- 2009

سألت فى الفندق عن عنوان «القاعة الكبيرة» التى سيفتتح فيها مساء اليوم المعرض الذى وصلت إلى برن خصيصًا لحضور فعالياته، رفع موظف الاستقبال، رغم ملامحه الصخرية الباردة، حاجبيه اندهاشًا لاهتمامى كسائحة بذلك المعرض من بين كل المعارض الفنية والثقافية والسياحية الأخرى المقامة فى المدينة، وفى نهاية حديثنا القصير، منحنى كتابًا بخرائط المدينة وطرقها، وأشار لى بقلمه الأخضر على الصفحة والطريق الذى سيوصلنى إلى القاعة، ونبهنى لضرورة التحرك مبكرًا لازدحام الطرق فى ذلك الوقت، فطلبت منه سيارة أجرة لتقلنى قبل ميعاد الافتتاح بساعتين، ونبهت عليه ألا تتأخر، فأكد بصرامة آلية أن السيارة ستأتى فى الميعاد المناسب، وأنهى الحديث معى، وغرق فى الأوراق أمامه كأنه لا يرانى أصلاً.

بقيت بعد الغداء المبكر فى غرفتى مضطربة، أعد نفسى لما سأراه فى ذلك المعرض، قضيت الوقت الطويل فى الغرفة أراجع نص كلمتى التى سألقيها هناك، جهزت الحقيبة التى سأحملها معى وبها بعض نسخ من كتابى «من ضفة آرى لضفة النيل، مازلت حية»، بالعربية والفرنسية، وبضعة ملفات ثقيلة مليئة بصور ضوئية من الخطابات والأوراق والدفاتر والصور الفوتوغرافية.

الوقت يمر بطيئًا، أرتب ملابسى الرسمية الأنيقة التى سأرتديها، واثقة بأنها مناسبة تمامًا لأجواء المعرض وطبيعة رواده، وأعود للكتاب الذى سأوزع نسخه المجانية هناك، أراجع فهرسه وصفحاته وملاحقه التى نسخت فيها كل الوثائق التى تمنح حكايتنا كل الثقة والصدق.

مازالت بينى وبين الافتتاح ساعات طويلة أحسها تنتظرنى فى بهو الفندق بثوبها الأنيق وشعرها المصفف وشالها الأحمر على كتفها، كأنها ستذهب معى إلى حفل افتتاح المعرض وتحكى لجمهوره حكايتها، حكاية عزيزة هانم المنيرى، بصوتها ومشاعرها بنفسها.

أراها فى بهو الفندق أنيقة وقور هادئة، كأنها وصلت أخيرًا إلى آخر رحلتها الطويلة المضئية، أرى فى ملامحها ملامح لورا وأشواق، أشعر روحها كروح شاندور وعرفان، أرى شموخها كالسنديانة الكبيرة التى تزين حديقة سرايا المنيرى والصفصافة أم الشعور التى تقودنا من الطريق الكبير إلى مدخل عزبة السعداوى، أسمع شوبان يحييها ويعزف لها مقطوعته الجميلة «فالس الربيع»، متداخلة بنغمات الماندولين وشعر الحياة والعشق بصوت شاندور، وقبلما تغادر خيالى ألمح ابتسامتها الحنون تطمئننى، كأنى أسمع صوتها الحانى يتمنى لى الحظ السعيد فى مهمتى الصعبة، فأزداد توترًا وقلقًا، وأتمناها بحق لو كانت معى فى هذه الليلة بالذات.

مازلت فى غرفتى ومازال الوقت بطيئًا، أنظر إلى الكتاب وأسئلة قلقة تنهش روحى، هل أفلحت فى انتقاء تصميم فنى جذاب يعبر عن الرحلة الصعبة ومحطاتها الكثيرة؟ شوبان والبيانو الأبيض والشال الأحمر والعينان الزرقاوان وبحيرة جينيف وقطار برن وسرايا المنيرى وعزبة السعداوى، أظننى أفلحت، أسألها، إيه رأيك؟

تمنحنى ابتسامة رضا على الكتاب والغلاف وعنى، فأتمنى لو كانت معى فعلاً، وذهبت إلى المعرض لتحكى حكايتها بصوت قلبها ووجعها، ليمزق الحاضرون- كما أتوقع وأتمنى - أكفهم تصفيقًا بعدما تنتهى من حديثها، ودموعهم فياضة لا يقوون على إخفائها تأثرًا بكل ما قالته وما عاشته، أتمنى لو كانت معى تقوينى وتدعمنى مثلما فعلت دائمًا، لكنها رحلت منذ بضعة أشهر وتركتنى أواجه وأعيش وحدى كل ما سيحدث الليلة تنفيذًا لوصيتها الأخيرة.

لم يدق جرس التليفون ولم تصل سيارة الأجرة، ومازلت على الأريكة الوثيرة أنتظر مرور الوقت، لكنه بطىء لا يمر، اليوم سأذهب إلى حفل افتتاح المعرض وأحكى الحكاية ووأزع الكتاب وأنفذ الوصية، أما غدًا فسأزور محطة القطارات فى قلب المدينة، سأقف على نفس الرصيف الذى نزلت إليه بصحبة أشواق وعرفان، سأبحث عن القطار القديم الذى استقلته من جينيف، سألمح لورا وهى تلوح لها تودعها، وأرى دموعها الرقراقة وهى ترسم على الأرض قلوبًا مفطورة بالأمومة المعذبة، هذه اليد الخشنة التى ألمحها تشق سحب الهواء الثقيل صوب عينيها هى للجد بلوم، لم أرَ الجدة فيتا لأنها بقيت تبكى حالها وحالهم جميعًا، ولم تقوَ على وداع الصغيرة ابنة الأرض الأم وهى تحلق صوب أرض جديدة تغرس فيها جذرها الضعيف الهش.

عقارب الوقت لا تتحرك والقلق ينهش روحى، كيف سيتقبلوننى وأنا أحكى حكايتها؟ كيف سيتفاعلون مع الكتاب وحكاياته؟ الرحلة ومحطاتها، الطفلة الصغيرة وخطواتها المرتبكة فى رحلة الحياة التى فرضت عليها أن تعيش غرابتها. كنت أتمناها معى، فهى البطلة وهى الحكاية، هى الصغيرة والعجوز، هى الغريبة والحبيبة، هى التى سافرت وهى التى عادت، هى التى عانت وهى التى عاشت.

أراجع صفحات الكتاب وفهرسه، أتصفحه ليذكرنى بكل ما حدث كأنى نسيته، وكأنى لست أنا التى كتبته، وكأنى لست أنا التى قرأت الخطابات البالية والدفاتر الثقيلة والأوراق الكثيرة، كأنى لست أنا التى جلست ساعات وأيامًا أدون هلوسات مرضها التى أعادتها لأيام طفولتها البعيدة، ففسرت الألغاز التى استعصى على الجميع تفسيرها وفهمها، كأنى لست أنا التى وصلت إلى برن لحضور المعرض وتوزيع الكتاب على رواده، وسرد الحكاية كلها تنفيذًا لوصيتها الأخيرة.

مازلت فى الغرفة يوترنى الوقت البطيء والانتظار، سأنزل لبهو الفندق، أشغل رأسى برواده والزائرين، سأحتسى القهوة والعصير حتى تأتى سيارة الأجرة، سأفكر فى أى شيء آخر غير الكتاب والحكاية والمعرض والرحلة، سأزور آنسى بعدما ينتهى المعرض، سأبحث عن المقهى الذى شهد بداية الحكاية، سأعبر الحدود لأعيش رحلة الهروب وقتما فرت الصغيرة فى حضن أمها بحثًا عن ملاذ آمن من جنون البشرية وعسفها، سأبحث عن خطواتها الصغيرة التى وشمت الجبل وأرضه باسمها وحكايتها، لأعرف فصولاً جديدة لا تعرفها الخطابات والدفاتر عن حكايتها الحزينة.

ويدق جرس التليفون ليخطرنى موظف الاستقبال بصوته الرتيب عن وصول السيارة الأجرة أمام الفندق و.. حان الوقت يا دكتورة عزيزة، حان الوقت، وأحمل كتبى وخوفى ووصيتها وأغادر الغرفة صوب المغامرة المجهولة، لتسير بى السيارة بطيئة متعثرة فى شوارع برن المزدحمة، وسرعان ما يهمس السائق، اتفضلى.

هبطت من السيارة وأنزلت حقيبة الكتب والوثائق الثقيلة، ووقفت أمام المعرض أحدق إلى الباب الكبير واللافتة الكبيرة التى تعلوه مدون عليها «طفولة مسلوبة».

أقف على الرصيف مرتبكة شاحبة كأنى سأفقد الوعى، لا أعرف ما الذى ينتظرنى بالداخل، بقيت بضع دقائق أحدق إلى الكتيب الملون الذى يوزعونه على باب المعرض لتعريف الزائرين بموضوعه ونظامه.

هل كنت أتمناها معى فى تلك اللحظة تحكى بصوتها وملامح وجهها وكل انفعالاتها ما عاشته وما عرفته بعدما مر كل العمر عن حياتها وحكايتها؟ هل كنت أتمنى أن أسمع صوتها الطيب يطمئننى ويؤكد على ثقتها بى وبكل ما سأقوله فى قاعة الشهادات الحية باسمها وعنها؟ لكنى فعلاً أسمع صوتها الطيب يؤكد لى أنى سأفلح فى سرد حكايتها بصوتها وصوت كل الأبطال الذين صنعوا بحياتهم حياتها وحكايتها، يؤكد لى أنى سأنجح فى تحقيق وصيتها الأخيرة.

مازلت على الرصيف مكانى وابتسامتها تصاحبنى، تؤكد لى أن كتابى سيحقق الهدف الذى تمنيناه والنجاح الذى حلمنا به، تؤكد لى أنى سأنقل وبنجاح وبراعة للمعرض وزائريه وللكون كله حكايتها البسيطة الموجعة.

وأدخل من الباب الكبير أنا وقلقى وحكايتها، وابتسامتها تسير أمامى صوب القاعة الرئيسية التى ندخلها بخطوات واثقة أنا وعزيزة هانم المنيرى وكل أبطال الحكاية.

 

ذكريات الماضى

Nacturne

No.20

عزيزة هانم المنيرى

سرايا المنيرى- 1995

إنها المرة الأولى التى أدخل فيها سرايا المنيرى بعدما غادرتها وأنا فى السابعة، أراها كبيرة مهيبة أنيقة مثلما هى فى ذاكرتى منذ سنوات بعيدة، ألمح نفسى أجرى طفلة صغيرة على الممر الرخامى الأنيق الذى يقودنا لشرفتها الواسعة، أرى أبى يخرج من الصالة للشرفة ويفتح ذراعيه لألقى بنفسى فى حضنه وأنا فرحة وهو أكثر فرحًا، أرى أمى تجلس على المقعد الوثير فى الركن المشمس من الشرفة، تشتغل فى تابلوه كنافاه أتذكر رسمته، ومازلت أملكه بعدما منحته لى أمى فى زيارتها الأولى لسرايا السعداوى.

كل عمرى مر وأنا محرومة من دخول بيت أبى، وأنا ممنوعة من الاقتراب من سرايا المنيرى التى أحمل اسم ملاكها ولا أنتمى إليها ولا إليهم، كل عمرى مر وأنا أتساءل عن سر حرمانى المهين من دخول بيت أمى وسرايا عائلتى، كل عمرى مر ولم يمنحنى أحدهم أى إجابات للسر الغامض الموجع فى حياتى وحياتهم.

أمس، اتصلت رئيفة هانم بتليفون سرايا السعداوى، عرفتنى بنفسها وقالت إنها زوجة عمى كاظم بيه، لم أرحب بها طبعًا، وانتظرت ما ستخبرنى به، أربعون عامًا يا زوجة عمى لم أسمع صوتك، ما الذى حثك لتكلمينى اليوم؟

أخبرتنى بصوت بارد أن رشيقة هانم «بعافية شوية» وترغب فى رؤيتك. جدتى بعافية شوية؟ وشرحت لى بكلمات قصيرة حال جدتى، وكأنها وخزتنى فى قلبى التعب بأخبارها الحزينة، وفى نهاية المكالمة القصيرة دعتنى لزيارة السرايا، وقالت إن هذه رغبة جدتى وأمرها، وكأنها تنفى عن نفسها جريمة التواصل مع عزيزة هانم المنيرى ابنة عرفان بك، الذى قرر عمى كاظم بك زوجها المحترم ومعه العائلة كلها مقاطعتها وإنكارها طيلة حياتهم وحياتها.

عندما انتهت المكالمة المقتضبة، انهمرت دموعى المشحوذة تحرق قلبى، لا ترحلى يا جدتى وابقى معى، أنتِ الصلة الوحيدة والأخيرة بينى وبين عائلتى وذكرياتى والسر الذى أخفيتموه عنى ولم أعرفه، لا ترحلى يا جدتى أرجوكِ وابقى معى.

وجلست أمام البيانو الأبيض أبكى ويبكى معى بنغمات ذكريات الماضى التى طالما بكيت بها ومعها كلما استبدت بى الأحزان، وارتفع نحيبى خوفًا على جدتى وعلا نحيب الأوتار بنغمات شوبان وذكريات ماضيه الموجع.

وقضيت الليل كله بلا نوم والأرق والقلق ينهشان روحى، أتذكر جدتى وكفها الحانية وهى تمسح دموعى وقتما ألح عليها وأسألها عن السر الذى لا أعرفه، السر الذى أخرجنا من السرايا أنا وأمى بعد موت أبى، السر الذى يخفيه عنى الجميع وبسببه قاطعتنى العائلة وأهلها وتجاهلونى وأنكرونى ونسونى. كنت ألاحق جدتى بأسئلتى فتتجاهلها وتتجاهلنى، وفى النهاية تأمرنى مللاً: انسى يا عزيزة اللى فات وعيشى النهاردا. كنت أتمنى أن أنسى يا جدتى لكنى لم أفلح قط، وكيف أنسى السر وهو ما ينسَنى ومازال يعاقبنى أنا وأمى على ما لا أعرفه؟ ماذا حدث فى الماضى يا جدتى وأخرجنى من بيت أبى ورحمة عائلة المنيري؟ سؤال مر عمرى كله ولم أعرف إجابته، وها أنت اليوم سترحلين وتتركيننى أحترق وحدى أنا وسر ماضيكم الغامض، لا ترحلى لا جدتى أرجوكِ، لا ترحلى وابقى معى.