
عاطف بشاى
حكايات الليثى
يرصد الإعلامى المتميز «عمرو الليثى» فى كتابه الأخير «حكايات الليثى» الغنى بالأحداث والذكريات والمواقف المثيرة للجدل شهادة على عصر كامل من تجارب الإبداعيين الكبار.. فى بانوراما ممتعة وبنبرة وثائقية صادقة وأمينة ومفعمة بالدلالات المهمة والمؤثرة فى مسيرة الفن المصرى.. ولعله من المناسب فى هذا المقال أن نلقى نظرة على هذه الدلالات من خلال الفصل الثانى من الكتاب «أبى وصاحب نوبل» الذى يستعرض فيه المؤلف الابن ملامح من إبداعات والده «ممدوح الليثى» بصفته كاتبًا للسيناريو والحوار لمجموعة من الأفلام المأخوذة عن روايات أديبنا الكبير «نجيب محفوظ» هى «ميرامار» و«ثرثرة فوق النيل» و«السكرية» و«الحب تحت المطر» و«الكرنك» و«المذنبون» التى تشهد ببراعة فى تحويل الكلمة المكتوبة إلى صورة مرئية مبهرة ومشحونة بجرأة فريدة على تجاوز الخطوط الحمراء والقفز فوق الأسوار العالية والأسلاك الشائكة لسينما سياسية جسورة فى أزمنة لم تكن تسمح إلا بالنذر القليل من الإشارة أو التلميح أو الرمز الذى ما يلبث أن يتوارى خوفًا من بطش أكيد وإطاحة عاجلة.. لكن الرجل كان مقاتلًا شجاعًا ومحاربًا عنيدًا.. ومعارضًا عتيدًا يسعى إلى معارك يكون فيها النزال دمويًا وعاصفًا دون أن تلين إرادته أو تخبو عزيمته.. لذلك فقد دخل عش الدبابير كثيرًا واصطدم بكل أنواع السلطات ابتداء من سلطة الرقابة العاتية على المصنفات الفنية حتى السلطة الحاكمة فى «المذنبون» و«الكرنك» و«ثرثرة فوق النيل».. ودخل ساحات المحاكم يدافع عن حرية الرأى والتعبير وخرج من حلبة الصراع مزهوًا بانتصارات كان خليقًا بها وكانت جديرة به.
فى «ثرثرة فوق النيل» الرواية والفيلم قدم نجيب محفوظ أبشع صورة لفقدان الطريق ولا جدوى الواقع المعاش.. العزلة الكاملة والسلبية المطلقة إزاء حركة الحياه.. والأمل فى المستقبل.. وبجريمة قتل خارج العوامة التى كانت تضمهم وجلسات الكيف.. قال لنا بحسم: إن العزلة السياسية والاجتماعية ليست مجرد عزلة أو سلبية.. إنما هى نشاط مخرّب وقاتل.. ومن خلال جماعة المثقفين تكتمل الصورة على امتدادها فى رواية «ميرامار» وجماعتها الموتورة يتضح الرمز الجلى.. هنا جريمة قتل.. وهناك أيضًا جريمة قتل.. فى «ميرامار» يقتل «سرحان البحيرى» نفسه.. وفى «ثرثرة» تجمع شلة المثقفين فى سيارة أحدهم ويخرجون لأول مرة إلى دنيا الناس ليصدموا مواطنًا مجهولًا فقيرًا وشبه عار لا يعرف له أحد أسمًا أو أهلًا.. لعله الوطن أو الشعب.. وفى السيناريو فضل «ممدوح الليثى» أن تكون امرأة فلاحة ليكون الرمز إلى «مصر» أكثر وضوحًا وتحديدًا ومغزى.
ليس صدفة إذا أن تلك النماذج البشرية التى التقطها «نجيب محفوظ» من مجتمع «يوليو» فى مرحلة ما قبل الهزيمة وما بعدها ليس بينهم نموذج يدعو إلى الاحترام أو الثقة، فالذين كانوا يتصدرون المشهد الثورى فى تلك الأيام هم الانتهازيون والخونة والمنافقون الذين تنكروا لمبادئهم ويكررون بآلية شعارات تتسلط بها أجهزة الإعلام على عقولهم.. إنهم مثلًا يدافعون عن الاشتراكية ويطالبون بالعدالة الاجتماعية وتذويب الفوارق بين الطبقات لكنهم يحلمون سرًا بالامتيازات المادية.
يصف «عمرو الليثى» مشهد النهاية فى الفيلم الذى صاغه «ممدوح الليثى» ببراعة مستخدمًا جمل حوار موجزة وبليغة تعبر بحدة وانفعال عن المأساة عندما فاق وندم «أنيس» (مثل دوره عماد حمدى) من غيبوبته محاولًا إيقاظ ضمائر شلة العوامة مرددًا: «الفلاحة ماتت ولازم نسلم نفسنا» رقص الجميع وطردوه من العوامة.. بينما قام «عبده» خفير العوامة بفك سلاسلها لتنطلق فى النيل بمن فيها وهم لاهون كدليل على ضياعهم.. وانطلق «أنيس» بين الجموع يصيح فيهم «فوقوا.. فوقوا» فى إبراز وتوضيح بالغ لرسالة الفيلم الذى كتب قصته أستاذ «نجيب» وطورها أبى فى سيناريو الفيلم لتعبر عن المجتمع المصرى فى هذه الفترة وتدل على أن السينما كانت بحق مرآه للمجتمع.
أما بالنسبة لسيناريو «ميرامار» فبعد عرض الفيلم على الرقابة وعلى المصنفات الفنية فقد أحالوه للرئيس «جمال عبدالناصر» وكما أكد الأستاذ «سامى شرف» أنه أجازه للعرض الجماهيرى دون أى حذف.. فقد كان الرئيس بعد نكسة (67) يشعر بما يتردد فى صدور الناس من أن هناك انتقاصًا للحريات وكانت لديه رغبة كبيرة وجامحة فى المزيد من الحرية فى الأعمال الأدبية.
إن كتاب «حكايات الليثى» يتميز تميزًا خلاقًا بثراء وتنوع المحتوى.. ويقدم وليمة دسمة وعامرة تعبر بصدق وحميمية عن أحوال الأدب والفن فى بلادنا.