
أسامة سلامة
المكارثية تعود من جديد
لعل أسوأ تداعيات الحرب «الروسية- الأوكرانية» حتى الآن- بعد الضحايا من البشر- هو ما يحدث على الساحة الثقافية الأوروبية، فلم يتصور أحد مَهما كانت الدوافع أن تقوم دول غربية بمنع الفنون والإبداعات الروسية فى مسارحها وجامعاتها، ما ينبئ عن قصور فى النظر، وفاشية راسخة فى الأذهان، وخوف بالغ أدى إلى اضطراب فى اتخاذ القرارات، وهو ما ظهر جليًا فى العديد من المواقف المخزية، مثلًا سحبت أوركسترا زغرب الفيلهارمونية مقطوعتين موسيقيتين للمؤلف الروسى الشهير تشايكوفسكى من حفلة لها منذ أيام بدعوى التضامن مع أوكرانيا، وقال مدير الأوركسترا ميركو بوخ: «لدينا زملاء كثر من أوكرانيا كانوا مستاءين للغاية، وشعرنا جميعًا بالسوء، لذلك غيّرنا برنامج الحفل الموسيقى.. نحن فنانون، ولا يمكننا أن نحارب إلا عبر الموسيقى»، هذا الكلام غير المنطقى يُعبر عن موقف ضد الفن وليس ضد روسيا والتى بالتأكيد لن تتأثر بمنع إبداعات تشايكوفسكى وإنما من يدفع الثمَن هو الفن، تشايكوفسكى توفى عام 1893 وبالطبع ليس له علاقة بما فعله بوتين، وأعماله ظلت خالدة طوال قرون مضت وستظل باقية لقرون مقبلة.
الهستيريا فى أوروبا وصلت إلى حد قيام جامعة بيكوكا بمدينة ميلانو الايطالية بإلغاء سلسلة محاضرات لتدريس روايات دوستويفسكى، قبل أن تتراجع عن قرارها بعد اعتراض عدد من المثقفين الإيطاليين.. دوستويفسكى رحل عن دنيانا عام 1881 وإبداعاته ظلت حتى الآن تلقى التقدير وتدرس فى كل جامعات العالم، إلا أن الأمر امتد من الأموات إلى الأحياء، فقد أعلنت دار الأوبرا الملكية بلندن منذ أيام عن إلغاء عروض فرقة باليه بولشوى الروسية الشهيرة، أيضًا تم منع المايسترو الروسى فاليرى غيرغييف من المشاركة فى حفلات موسيقية، كان من المقرر أن يقودها مع أوركسترا فيينا الموسيقية فى قاعة كارنيجي بنيويورك، وفى ألمانيا طلبوا من نفس المايسترو الروسى اتخاذ موقف علنى ضد العمليات العسكرية التى أطلقها الرئيس الروسى بوتين ضد أوكرانيا وإلّا سيواجه خطر فقدان عمله الذى يقوم به منذ عام 2015 كقائد رئيسى لأوركسترا ميونيخ الموسيقية، كما طلبت دار أوبرا «سكالا» فى ميلانو بإيطاليا من غيرغييف أيضًا توضيح موقفه من الهجوم على أوكرانيا وإلا سيتم إقصاؤه عن العروض المقبلة.. فى السياق نفسه أعلن اتحاد البث الأوروبى عدم السماح لروسيا بالمشاركة فى نسخة العام الحالى من مسابقة الأغنية الأوروبية «يوروفيجن» الشهيرة، وقال الاتحاد فى بيانه إن إدراج مشاركة روسية من شأنه أن يؤدى إلى «تشويه سمعة» المسابقة التى تعقد هذا العام بمدينة تورينو الإيطالية فى مايو المقبل، أيضًا مهرجان كان الذى يقام الشهر المقبل فى فرنسا استبعد من فعالياته الأفلام الروسية.. ما يحدث ينم عن العقلية التى تتحكم الآن فى أوروبا، والتى تتجاهل أن الإبداع الفنى والأدبى ملك الإنسانية كلها، وأن هناك فارقًا كبيرًا بين مقاطعة المؤسّسات الروسية الرسمية وبين منْع الأعمال الفنية والأدبية؛ خصوصًا لمن رحلوا منذ سنوات بعيدة، فهل المقاطعة الثقافية سلاح فعال لجعل الفنانين الروس يدينون بوتين أمْ أنها تلقى بهم فى أحضانه؟ وأيهما أجدى إبعادهم أمْ مقابلتهم ومناقشتهم فيما يحدث ومحاولة جذبهم نحو رفض الحرب؟ لا شك أن مؤسّسات ثقافية وفنية غربية تصرفت بطريقة غير مدروسة، ومنع الأدب الروسى وإلغاء عروض الأوبرا والباليه والسينما تكشف حالة من التخبط والتطرف غير مسبوقة، وتعكس الكراهية البغيضة التى انفجرت فى أوروبا، والخوف أن تتصاعد مع مرور الوقت إذا لم يقف المثقفون ضدها، وقد نصل إلى مطاردة المبدعين وتوجيه اتهامات لهم، وهو ما يذكرنا بالمكارثية التى ظهرت فى الولايات المتحدة الأمريكية، فى الفترة ما بين عام 1947 وعام 1957، وتبناها السيناتور الجمهورى جوزيف مكارثى، رئيس إحدى اللجان الفرعية بمجلس الشيوخ الأمريكى؛ حيث بدأت باتهام عدد من موظفى الحكومة الأمريكية بالشيوعية وموالاة الاتحاد السوفيتى والعمل لحسابه، ثم امتد الأمر إلى المبدعين؛ حيث تم إرسال وفد إلى الدول الأوروبية لوضع قائمة سوداء تضم الكُتّاب والفنانين المتهمين بموالاة اليسار والشيوعية، كما تم منع دخول كتب أكثر من 400 كاتب وصحفى وأستاذ جامعى أوروبى إلى أمريكا، واتسع نطاق ملاحقة الشخصيات العامة حتى طالت الاتهامات رموزًا فى الفنون والآداب والعلوم، مثل مارتن لوثر كينج، وأينشتاين وآرثر ميللر وشارلى شابلن وغيرهم، ثم تبين بعد سنوات أن معظم الاتهامات كانت غير صحيحة، وفى عام 1954 تم توجيه اللوم لمكارثى ومحاكمته بتهمة الفساد والتزوير، اختفت المكارثية ولكنها تركت أسلوبًا ما زال يُستخدم فى إرهاب وتشويه المبدعين، ويبدو أنها عادت هذه الأيام من جديد لتطل بوجهها القبيح مع الحرب «الروسية- الأوكرانية».