
أسامة سلامة
هل تكرم وزارة الثقافة الأب يوحنا قلتة؟
يستحق اسم الأب الدكتور يوحنا قلتة، الذى غادر عالمَنا منذ أيام التكريم، وهو الأمْرُ الذى كان يجب أن يتم فى حياته من هيئات ومؤسَّسات ثقافية وعلمية وتعليمية مدنية رسمية وغير رسمية وعلى رأسها وزارة الثقافة؛ تقديرًا لعطائه الفكرى والأدبى والإنسانى، وهناك جهات وهيئات عديدة ارتبط بها وأسهم بعلمه وثقافته فيها، وبعضها كان وجوده أو تلقيه العلم بها له دلالات كبيرة وتعطيها رونقًا رائعًا، ومنها جامعة القاهرة وأكاديمية الفنون، كان الأب الدكتور «قلتة» من رجال الدين القلائل الذين درسوا بالجامعة وهم يرتدون زى الكهنوت، ومن المؤكد أن مثل هذه الصورة الرائعة تكفى وحدها لإبراز دور الجامعة وعطائها، حصل الكاهن الكاثوليكى على ليسانس الآداب من الجامعة العريقة عام 1965 فى اللغة العربية والدراسات الإسلامية، كما نال الماچستير من الجامعة نفسها عن رسالته «أثر الثقافة الفرنسية على أدب طه حسين» عام 1972، واتبعها بالدكتوراه بعد ذلك بست سنوات عن أطروحته العلمية «دراسة المستشرقين الفرنسيين للأدب العربى»، وليت جامعة القاهرة تعيد نشر الرسالتين المميزتين، صحيح أن الأب المثقف نشر رسالة الماچستير فى كتاب، ولكن على حد علمى فإن رسالة الدكتوراه لم تُنشر حتى الآن.
أمّا أكاديمية الفنون؛ فقد قام الأب بالتدريس بها من عام 1981 إلى عام 1985، وطوال هذه السنوات كان يحاضر لطلابها عن الآداب الفرنسية، ولا أدرى هل لا تزال تحتفظ الأكاديمية بهذه المحاضرات أمْ لا؟ وإن كنت أتمنى إذا كانت موجودة أن تطبعها وتنشرها، ويكفى أن صاحبها كان له موقع دينى رفيع، ومع ذلك كان يحاضر فى الأكاديمية وهو يرتدى الزى الدينى.. مثل هذا النموذج لرجال الدين المثقفين والمستنيرين والمطلعين على الآداب والفنون نحتاج إلى إبراز دوره لعل أحد رجال الدين يقتدى به ويسير على دَربه.
الجهة الرابعة التى أتمنى أن تلتفت لتكريمه اتحاد الكُتَّاب حتى ولو لم يكن عضوًا به، فهو صاحب مؤلفات عديدة ومتنوعة فى الآداب، فجانب كتاباته الأكاديمية، نشر أيضًا أعمالاً قصصية أبرزها روايته (قرية غرب النيل) التى تضمنت جزءًا من طفولته فى قرية القطنة التابعة لمركز طما بمحافظة سوهاج، وكشفت أحداثها كيف دخلت الكاثوليكية إلى الصعيد ومنها هذه القرية الصغيرة؟ وكيف أصبح لها أتباع ورعايا يؤمنون بمَذهبها؟ وفى هذه الرواية وصفٌ أدبىٌ دقيقٌ لوضع الريف ومعاناة أهله من الفقر والجهل والمرض فى الأربعينيات والخمسينيات، بينما قدّم كتابَيْه (مذكرات كاهن فى الأرياف) و(مذكرات كاهن فى القاهرة) صورة صادقة لرجال الدين وما يواجههم من مواقف مختلفة، ومتاعب الحياة فى الريف والقاهرة، وذلك من خلال يومياته الشخصية وما صادفه خلال عمله الكنسى، ولم يخلُ الكتابان من الحس الفكاهى والساخر بجانب دروس رائعة فى الإنسانية وسماحة الدين، وهو أمْرٌ كان يشغله طوال عمره وظهَر جليًا فى كتابات عديدة له أهمها كتابه (الإنسان هو الحل) والذى عبَّر فيه عن أزمة الإنسان العربى، واصفًا إياه بأنه يعيش فى بلْدان تحتقر الفقير والضعيف، ولعل أبرز مثال على رؤيته المتسامحة للآخر قوله «ليس من حق المسلم أو المسيحى أو أى أحد مَهما كان معتقده أن يدّعى أنه خليفة الله فى الأرض، فمن يظن أن الجنة محجوزة له وللبعض فهو مخطئ ولا يزال يعيش فى العصور الوسطى». هذه الأفكار الإنسانية السامية وضعته على طريق دراسة الحضارة العربية والإسلامية وهو المنهج الذى قام بتدريسه سنوات طويلة فى كلية اللاهوت والعلوم الإنسانية التابعة للكنيسة الكاثوليكية، كما أنها وطدت علاقاته بهيئات إسلامية عديدة، وهو ما يجعلنى أتمنى أن يقوم الأزهر والمجلس الأعلى للشئون الإسلامية بتكريمه؛ فقد كان رئيسًا للجنة الأسقفية للحوار الإسلامى المسيحى، كما كان من رواد الحوارات الإسلامية المسيحية الرسمية وغير الرسمية وساعده فى ذلك علاقاته الكبيرة بالكُتّاب والمُفكرين والصحفيين من كل التيارات الفكرية داخل مصر وفى الدول العربية والغربية، كما كان عضوًا ببيت العائلة المصرية، بالإضافة إلى ما سبق كان الأب «قلتة» مسئولاً لفترة طويلة عن الإعلام والصحافة فى كنيسته، ما جعله على علاقات طيبة وودودة مع كثير من الصحفيين، وهو ما يدعونى إلى طلب تكريمه من نقابة الصحفيين؛ حيث كان عضوًا بها، وذلك حسب النعى الذى نشرته الكنيسة عقب وفاته، ولا شك أن الكنيسة الكاثوليكية لن تتوانى عن الاحتفاء باسمه بعد أن أعطاها عمره كله؛ فقد التحق بالإكليركية الكاثوليكية فى طهطا عام 1950 وسُيِّمَ كاهنًا بعد ذلك بعَشر سنوات باسم «يوحنا» تاركًا اسمه العلمانى «كمال ثابت قلتة»، ثم عمل فى كنيسة مطاى بالمنيا قبل أن يرعى كنيسة السجود بشبرا، ثم تولى رعاية كنيسة مصر الجديدة، كما تولى موقع المعاون البطريركى للأقباط الكاثوليك وهو منصب له أهمية كبيرة فى الكنيسة،- وإن كان طلب إعفاءه منه فى السنوات الأخيرة بسبب ظروفه الصحية- كما كانت كتاباته الدينية مميزة، مثل: (المسيح دعوة للحرية) و(الأقباط إلى أين؟) و(الإنسان معجزة الخَلق) و(المسيح لن يغادر العالم)، وغيرها من المؤلفات المهمة.
مسيرة حاشدة للراحل الكريم الذى سيظل نموذجًا لرجل الدين المثقف والمفكر والمنفتح على الآخر.