
عاطف حلمي
ع المصطبة.. «الواسطة» ميت
فى السفر سبع فوائد، وفى الغربة سبعون فائدة، فكلما طالت سنواتها تتم غربلة شبكة العلاقات يدخل دائرة صداقاتك أشخاص جدد، ويغادرها آخرون، إما لهجرة البعض إلى بلاد مهجر جديدة أو لسقوط أقنعة البعض الآخر مع التجارب والمواقف.
وفى سنوات الغربة، فى الخليج تلتقى فى معاملاتك الحياتية بمختلف الجنسيات العربية، ومن ثم تتكون قناعات جديدة بشأن هذه الجنسية أو تلك، لكن هناك جنسية يظل انطباعك الإيجابى الأول عنها راسخًا وتزداد رسوخًا مع مرور السنوات، فلا أطيب ولا أنقى من الشعب السودانى الشقيق، عاشرتهم خلال دراستى بالجامعة فى مصر، وكانوا خير مثال على الطيبة ونقاء السريرة، وما زلت أذكر منهم نور الدايم النعمان، سيد أحمد، ونهلة.
وفى الغربة رزقنى الله بصديق سودانى هو الصحافى المثقف الهادئ نزار عثمان، لتتطور الصداقة الشخصية إلى علاقة أسرية جمعت أسرتى بزوجته الفاضلة أميمة وابنتيه أشرقت وراسيل.
وكعادة من شرب وارتوى من مياه النيل فإن صديقى تمتع بخفة ظل مغلفة بهدوء وتلقائية منقطعة النظير، وأذكر من هذه المواقف استعانته بشخص ميت كواسطة له لدى صاحب الجريدة التى كنا نعمل بها.
ذهب صديقى إلى صاحب الجريدة، ليخبره أنه جاء بتوصية من «فلان»، وهو صحفى سودانى أيضًا وكان صديقًا لصاحب الجريدة.
اندهش صاحب الجريدة وقال له إن فلانًا قد توفاه الله منذ أعوام، فباغته صديقى برد طريف بأنه يعلم ذلك، لكن يعلم أيضًا أنه لو كان فلانًا على قيد الحياة لحضر بنفسه للتوسط لديه من أجل تعيينه بالجريدة.
موقف صديقى لاقى قبولًا من صاحب الجريدة المشهور بخفة الظل أيضًا، بضحكات مجلجلة، ليعلن له تعيينه فى التو واللحظة، ليدخل موسوعة جنيس كأول شخص يتم تعيينه بواسطة من شخص متوفٍ.
كانت جلساتنا سويًا غارقة فى هموم علاقات البلدين والشعبين، خصوصًا، فى فترة حكم البشير وجماعة الإخوان الإرهابية، حيث كان شعاره دائمًا «لا نعلم من أين أتى هؤلاء؟» فهم بالفعل فصيل غريب عن طبائع السودانيين السمحة.
من هذه الجلسات خلصنا سويًا، إلى أن العلاقات بين الشعبين أزلية تتجاوز حدود الجيرة إلى وحدة المصير، وأن ما مر على العلاقات من سحب صيف فى عصور مختلفة يرجع إلى أسباب متعددة يندرج معظمها تحت بند سوء الفهم تارة ومحاولات بعض الأطراف الوقيعة بين الشعبين تارة أخرى، ففى فترة الاستعمار الإنجليزى للدولتين كان يعمد المستعمر إلى تصدير المصرى فى المشهد السلبى، فى حين كان المستعمر ينسب لنفسه الأعمال الجيدة مثل بناء المستشفيات وغيرها من المشروعات الأخرى، ومن ثم يترسخ فى اللاوعى السودانى صورة ذهنية سلبية عن شقيقه المصرى، رغم أن الشعبين كانا يرزحان تحت نير الاحتلال نفسه.
هناك أيضًا سوء فهم ترسخ عبر السينما، فى فترة ما قبل ثورة يوليو بشكل خاص، من خلال حصر شخصية النوبى أو السودانى فى صورة عثمان البواب أو السفرجى.
أما فى العصر الحالى، فقد ساهم إعلام تنظيم الجماعة الإرهابية فى عهد البشير وبشكل مكثف فى الوقيعة بين الشعبين تحت مزاعم وافتراءات شتى.
على الجوانب الثقافية والحياتية، فإن المواطن السودانى، ومن دون قصد من الشعب المصرى، يشعر بأن شقيقه المصرى ربما يتجاهل إنتاجه الثقافى والفنى بل الرياضى، فالمواطن السودانى، وهو بالمناسبة مثقف بطبعه، يتابع الحركة الثقافية والفنية المصرية، ويحفظ أسماء نجوم الأدب والفن والرياضة فى حين أننا فى مصر لا نعلم الكثير عن الأشقاء فى السودان، بل ربما كثيرون يجهلون جغرافيا السودان وتركيبة شعبه المتنوعة المتعددة الثقافات، وهو الأمر الذى يستوجب إعادة بناء الجسور فى هذه المجالات.
خلصنا فى حواراتنا الممتدة إلى أن مصر والسودان يمثلان العمق الوجودى لكل منهما، وأن ما يجمعنا على المستويات كافة يفوق بكثير جدًا أى محاولات للوقيعة.
حفظ الله مصر والسودان وأدام عليهما نعمة الأمن والاستقرار والأمان.