الجمعة 26 أبريل 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري
رئيس مجلس الإدارة
هبة الله صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري

قراءة فى حروب الرحماء "القتلة الأوائل" - لإبراهيم عيسى "5"

نَهرٌ من الإبداع يتدفق بين سطوره، وسَيل لا يتوقف من الوقائع التاريخية الشيقة، وبحر من السلاسة اللغوية والتشبيهات الرشيقة.. كل هذا تجده بين صفحات رواية «حروب الرحماء»؛ الجزء الثانى من سلسلة «القتلة الأوائل» للمفكر الكبير إبراهيم عيسى، الذى لا يترك شاردة أو واردة فى التاريخ الإسلامى إلا ويسلط عليها الضوء؛ راويًا ومفسرًا وموثقًا، لتتعرف عمّا جرى بربوع بلاد المسلمين فى كل حقبة، ومع تولى كل خليفة، وتكتشف الكثير من الخبايا والأسرار، التى ينقب عنها الكاتب بعناية بين كتب الأوائل، وينقلها إلينا فى سياق روائى لا يخلو من الإثارة والتشويق والبيان البديع.



 «قميص عثمان»

من المدينة إلى الشام، يبدأ إبراهيم عيسى رحلة جديدة من كشف الأسرار؛ لنعرف كيف وصل قميص عثمان بن عفان الملطخ بدمائه إلى معاوية، ساردًا: «لم تخُض حُبى قبل هذه الأيام فى الصحراء كما خاضت هذه المسافات الوسيعات القابضات على صدرها، والمساحات الشاسعات المقبضات قلبها. ما الذى أجبرها على الرحيل والارتحال مُحملة بالسّر ومُثقلة بالأمانة؟ هى التى تشعر أنها قد هرمت منذ حصار عثمان، كأن السنين جعّدت روحَها قبل أن تبين تجعيدات جلدها. كانت تعظ دومًا بأن التجعدات والتكرمشات لا تظهر فى النسوة كما خبرت وأخبرت إلا حين تجف فيهن رغبة الاشتهاء، لم تشعر بنفسها عجوزًا فاجأها العجز إلا حين ضاق قَصْرُ عثمان بالعتمة، وأصبح السواد يعبئه إلا من حمرة الدم تلطخ جدران الغرف. ما الذى جعلها لصيقة هكذا بنائلة؟

يزورها طيف نائلة وهى نتنحب وقتيلها المذبوح فى حضنها، وهى تتلقى الحجارة تقذفها الأذرع الفظة، وهى تحاول دفن زوجها، وهى تضع قميص عثمان الملفوف على أصابعها المقطوعة وإبهامها المذبوحة فى كيس دمشقى مربوط بخيوط من الكتان، وتترجاها أن تفعلها.

أهى حُبى التى تطوعت أمْ نائلة التى عرضت؟ ليس مُهمًا الآن يا حُبى وقد وصلت إلى دمشق بعد رحلة مشقة الانزواء وسط القوافل، لم تودع عبيدًا زوجها؛ بل عاقبته بالاختفاء. هل سترجع يومًا بعد المهمة، أمْ تنتظر نائلة أن تأتى خلف كفها المبتورة؟ تركتها وحيدة فى قصر عثمان لا ترضى الخروج منه ولا الرحيل عنه، كأنه سيهب من مخدة سرير أو من خلف باب ويعود لها زوجها. فهمت الآن لماذا طلق عثمان زوجته أمّ أبان؛ حيث تركته وحده بين سِهام ورِماح، ولم تنجده بحنان أو ترسل ابنها من مكة ليقف مع بنى عمومته على باب أبيه، هل خشيت على فتاها الأبرص؟ هل غيرة من نائلة أشعلت قلبها فتركته لحبيبة قلبه؟ حيّرها عثمان فعلًا حين طلق زوجته فى الأيام الأخيرة خلال حصار لا يعرف أيخرج منه ماشيًا أمْ محمولًا. لِمَ العَجَلة وما النفع؟ تظن الآن أنه مكافأة حب لنائلة كأنه يقول لها إنه لا أحد فى هذا القلب العجوز المفارق لحياته إلا أنتِ، الرقيق الذى حَباه الله بزوجتين من نُطف النبى لا يمكن أن يَخشَنّ مع زوجة إلا بحق وإلا حبًا لأخرى تستحق. حتى وأنتِ فى مرجل الألم يا حُبى تفكرين كامرأة تسبر أغوار آبار قلوب الرجال!

كانت دمشق جميلة أمام عينيها، بيوتها مبنية بعلو وبقباب وبألوان زاهية، وحدائقها أكثر خضرة ونضرة، ونهرها أزرق بهىّ، وملابس أهلها أفخم وأبهج، لو كان معها طويس لأحب هذه المدينة وأقسَم على أن يكون مُغنيها الأطرب صوتًا والأمهر عزفًا، لكنها تشتاق للعودة إلى يثرب؛ للجلسة على عتبة بيتها وتحت سقيفتها، والنسائم المختلسة من حر النهار تهل عليها، وهى تمد ساقيها تنتظر متحرقة متلوية مجىء عبد الليثى، بينما صوت طويس يغنى بآلته. لعلها تريد العودة حى تقنع نفسَها أن الأيام يمكن أن تعود كما كانت، ثم أين هى من هذا الصخب وهذه الوجوه الدمشقية التى لا تعرفها ولا تفهمها ولا تنتظر زيارة بناتها للنصيحة ولا شبابها للخطبة. هى هنا كى تجلس الآن كما هى فى مكانها تنتظر معاوية لتسلم عليه وتسلمه أمانة نائلة، تعرف وجهه، وامتلاء جسمه، واعتناءه بهندامه، وحفاظه على صحته، وحرصه على متعته، لكن الوجه الذى جاءها مرحبًا على مضض وعلى قلق يحمل وهقًا وقلقًا بين جفنيه، سمعت بما فعل مع الأمير الذى ابتعثه عليّ، وروت لها القوافل والقافلون من المدينة ما فعله موفده فى المدينة حين رفع القرطاس متحديًا أهلها وكاسرًا هيبة إمامهم الذى تركه يمضى دونما عقاب رُغْمَ تمرده، وعصيانه المكلفين من تمرُّد وعصيان معاوية، هو خاذل عثمان الذى تلجأ إليه نائلة وكانت قد حاولت أن تردها عن إراداتها: أتثقين فيه يا نائلة بعدما ترك الخليفة بلا نصير، وحيدًا بلا جند يرسلهم، ولا حرس يوفدهم، ولا حيلة يبثها فى محاصريه؟

لم يكن أمام حزن نائلة المغلول بغلّه إلا أن يقترع لمعاوية، فحملتها حمولتها، وجاءت إليه حُبًّا فى حبيبة ووفاءً إلى وفية وإخلاصًا لمخلصة، نائلة قرّة عينيها، لكنه ليس سعيدًا هذا الرجل الذى تقابله الآن، لعل معاوية أحس بانطباعها فقال وهو يميل ناحيتها من كرسيه واضعًا مرفقيه على ركبتيه: ومَن فينا كما كان يا حُبى؟.. وأضاف: ما وراءَكِ؟ وكيف جاءت سيدة الحب إلينا دونما رفقة ولا صحبة؟.. ردت وقد عرفت أنها لن تمكث فى دمشق وقتًا لتراه ثانية: حملتنى لك السيدة نائلة تلك الأمانة.

مدت كفيها مترددة نحو كيسها الذى وضعته على حجرها منذ دخلت، فرفع معاوية نظرته إلى حراسه أن يبتعدوا، ولمرافقين كانوا على أطراف قعدته أن ينصرفوا. حينها اطمأنت حُبى ففكت رباط الكيس ثم أخرجت قميص عثمان، فانتفض معاوية قائمًا من مقعده جزعًا، ولمعة دهائه طفت فوق لمعة دمعة فى عينيه: أهو فعلًا؟

أجابت بإيماءة حزينة كأنما تستعيد اللحظة التى خلعت فيها مع نائلة القميص عن الجثة المذبوحة المُرقعة بالطعان والجروح والملتصقة قِطَع جلدها المنسولة بالقماش المضرج بالدم.. مَد يده ليتناوله منها، ولكن حين فردته رأى أصابع نائلة المبتورة موضوعة داخله، فبهت وجهه شاحبًا، واتسعت مُقلتاه، وتجمدت يده الممدودة فى وقفته، فقالت واهنة كسيرة: هذه أصابع نائلة التى دافعت عن الخليفة فبترها سيف ذابحه.

كان معاوية قد أمسك القميص بين يديه وتأمله كثيرًا صامتًا مُطرقًا، ثم التفت إليها وقال هامسًا آمرًا: يا حُبى؛ أخبرى نائلة أننى أريد الزواج بها حين تتم عدتها.. ذهول حُبى المأخوذة بما قال لم يمنعها من أن تسمعه يضيف: كى تكون زوجة لخليفتين».

 «حلم ابن العاص»

يكشف إبراهيم عيسى تحركات عمرو بن العاص سعيًا وراء الحلم الذى لم يفارقه أبدًا؛ أن يعود إلى ولاية مصر، فلا يزال الرجل يرى معالم الفسطاط أمامه كل حين، ومستعدًا لفعل أى شىء فى سبيل الجلوس مرّة أخرى على كرسى الوالى، إذ يسرد الكاتب بمهارة العارف بالنفس والمُلم بأطماعها: «لا شىء كمصر، لكنه حين يعود سيدها لن يكتفى بقصره الذى كان. ها هو معاوية رفع البناء، وفرش الأبسطة وعَلق الثريات، وأقام الأعمدة، ونقش الزجاج، وأوسع على نفسه كرسى الإمارة؛ ليجلس بألْيَتيه الضخمتين مرتاحًا، ويضع ساقيه تحت فخذيه متبسطًا دونما ضيق ولا تبرُّم، والحرير لا يلبسه لكنه يلمسه فى كل مسند ومتكأ، ووزع العبيد، وكدس الجوارى، ونشر الحرس وأوقفهم على بابه وفى ممراته، وزين عمامته وعباءته الدمشقية بالقصب، ووضع الصحن النحاسى الكبير عامرًا بثمرات الفاكهة وحبات العنب المرشوشة بقطر ماء الورد، والكؤوس المقدمة للشراب كبيرة وطويلة وملفوفة ومنقوشة بالألوان والأشربة نفسها متعددة بين بُنّى غامق وأحمر وردى وأبيض مُخضَر.

دارت عينا عمرو بن العاص حوله، وتفحصتا كل شىء رمقًا وشزرًا، وهو لا يرى شيئًا من حِداد على ميت مات لرجل فى القصر، رُغم سمة الحزن التى يرسمها معاوية على وجهه وهو يتأمله منذ دخل، يعلق على شفتيه ابتسامة تشق صدر عمرو ولا يحتاج أن يعلم ما فيه. يوقن معاوية أنهما يمتلكان قلبين يبقيان فريدَين وحدههما بين شباب مكة كلهم، لقد تربيَا على إمساك مفاتيح قلبيهما، فيغلقانهما ويفتحانهما دونما تعب لا نَصَب. لا يحبه عمرو كثيرًا ولا طويلًا، تمشى عواطفه وراء مصالحه، ومعاوية كذلك. لا يحبان بعضهما بعضًا، هذا واضح جدًا؛ لا لسبب إلا لأنهما لا يحبان أحدًا إلا أبناءهما ومَن يحتاجان إليه الآن، فمَن احتاجا إليه أو مَن قد يحتاجان إليه أمر آخر، هل فى ذلك عيب؟ كلاهما وهما يتناولان ويتناوبان الأفكار من رأسيهما، لا يجدان فى ذلك أى حكة فى صدريهما.

كان عمرو جافًا، وكثير الإيماء، وطويل الصمت، ومشيح اليد، وعابث النظرة، يريد أن يقول بهذا لمعاوية شيئًا وسط هؤلاء الداخلين والخارجين والمتوددين، والسائلين والمتثاقلين عند كرسيه، وتلقى معاوية رسالة ابن العاص مصطنعًا الضجر، فتابع نظراته بابتسامة مرتاحة وهزة رأس متفهمة. صرف مَن عنده، وأمر حراسه أن يغلقوا الباب عن الزائرين، وفى لفتة أنهت تبرُّم ابن العاص نزل من كرسيه وخطا درجتين إلى الأريكة التى يجلس عليها ابن العاص وجلس بجواره فتبسطت ملامح عمرو.

أسند معاوية ظهره إلى وسادة الأريكة، وقد أوسع ابتسامة بين شفتيه، وقال وهو بين الهمس والنجوَى، بينما أفسح له عمرو كى يتوسع فى راحته: لعلك رأيت كيف هى دمشق والشام الآن، وليس فيها بيت إلا ويعادى عليًا ويطلب دم الخليفة المغدور المظلوم عثمان بن عفان.

ضحك ابن العاص رائقًا: نعم، وليس فيهم واحد يسألك لماذا لم تهرع له لتدافع عنه بدلًا من أن تندفع لتتحصل ثأره!

- لو أحببت يا عمرو لجعلتهم يسألون، وأجبتهم بأننى أرسلت للخليفة جيشًا لكنه أمرنى بألا أقترب من مدينة الرسول بسنابك خيلى فعُدت، أو أقول إننى أوفدت أقوى جنودى وأشد فرسانى فلم يكادوا يصلون حتى عرفوا مقتل خليفتهم، وإن شئت قلت إننى كنت مطيعًا للخليفة حين أبَى أن أرفع سيفًا ضد أصحابه وأصحاب رسول الله يا ابن العاص، والآن وقد قُتل الخليفة، فلست مأمورًا إلا بما يلزمنى به دينى وقرابتى.

تنهد معاوية وقد مال فسقى نفسه شربة من ماء، وتلفت إلى عمرو وهو يقوم ليعود فيجلس على كرسيه المرتفع ممددًا قدمَيه: ولو أردت لقلت لهم إنك يا ابن العاص قد ألَّبت على الخليفة المظلوم، وحرَّضت على قتله، وفتنت الناس بدعوتك للثورة عليه؛ بل لقد كنت تمضى بين المحاصرين من العصاة المارقين، فتشعل نارهم وتبرى رماحهم. وإن شئت لأتيت بالشهود للشاميين لأثبت لهم ذلك، وأول مَن أطلب منهم الاستماع إليه هو ابنك العابد التقى عبدالله بن العاص الذى يلزمك كظلك، وهو صدوق لن يكذب ولن يكتم شهادته.

قام عمرو بن العاص عن الأريكة، ووقف متهملًا عند صحن الفاكهة، فالتقط حبة عنب ولفها بين أصابعه وخاطب معاوية: هذه دعايتك يا معاوية بين رجالك ورعاياك، لكنك لم تختبرها ولم تختبرهم حين يسمعون غير ما تقول، فأنت تواجه هنا على أرضك ظل ابن أبى طالب الخافت بين ظهرانيك، إنه رجل كما تعرف وأعرف ليس لديه ما لدينا، وهو ممن يحب ألا يكون ما لدينا لديه، فهو يرسل لك رسولًا، لكنه لا يبعث عندك عيونًا، ولا يشترى بينك رجالًا، ولا يبث فيهم دعاية، ولا يثبط فى عزائمهم، ولا يلعب فى عقولهم، ولا يشترى ولاءَهم، ولا يفرّق بينهم. ولو كنت معه لأشرت عليه أن يقول لهم إنك لم تقل ما قلت عن الثأر لعثمان، ولا دعوت لما دعوت، إلا عندما خلعك عن الشام، وخفت أن يقاسمك ثروتك، أو يصادر أراضيك ودُورك وعقاراتك وقصورك، وأن يجرد بيت مالك، وإنه لو أرسل لك ابنه الحسن ليثبتك على شامك لنسيت أن عثمان قد قُتل أصلًا، ودعوت الناس للصلاة عليه صلاة الغائب؛ لا للثأر من قتلته. ولو كنت أنا معه لاصطنعت كتابًا منك إليه تطلب ولاية الشام ومصر ثمَنًا للمبايعة، ولجئت بشهود من قصرك هنا يوافقوننا على صحة خاتمك، وحرف كتابك، فشققت لك صفك، وألبت عليك أهلك.

جلس عمرو مرتاحًا وهو يكمل: أوَتعرف، لكنت أقول إن هذا القميص المعلق على حراب مواكب دمشق، والموضوع على منبر جامعها قميص بالٍ لم يلبسه عثمان يومًا، وإن الدماء مزورة، والأصابع ليست لنائلة؛ بل هى لجارية مقتولة. رد معاوية: ما كان لأحد أن يُصدقك.

رد عمرو: ما كان أحد إلا ويشك، دعك من أن يصدقوا فليس هذا ما تبغى وأبغى؛ بل يكفينى ويكفيك أن يشكوا.

- إذن لماذا لم تذهب إلى علىّ؟

- لنفس السبب الذى لم تذهب إليه.

قهقه معاوية: لن يعطيك ما أعطيك.

نظر عمرو حادًا وجادًا وكأنه يثبت راية على حدود أرضه: بل لن أحصل على حقى معه.

تراجعت قهقهة معاوية وأومأ برأسه: نعم، رأيتها فى عينيك يا عمرو، هو حق تأخذه منّى لا عطية أمنحها لك.

ثم قام وأمر الحارس بأن يفتح الأبواب، وأمسك بذراع عمرو: هيا بنا إلى الشرفة يا أخى.

ثم نبّه على الحرس الذين توافدوا على الباب المفتوح: أعدّوا لنا طعامًا شهيًا يليق ببطنين لا يشبعان!

شاركه ابن العاص الضحك، وهما يتحسّسان كرشيهما، وقد أحسّا أنهما لا تليقان بمعركة يذهبان إليها».

فى الحلقة التالية، نواصل كشف خبايا التاريخ الإسلامى عبر قراءتنا لرائعة إبراهيم عيسى «حروب الرحماء».