الجمعة 29 مارس 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري
رئيس مجلس الإدارة
هبة الله صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري

نساء فى حياة الأنبياء النبى سليمان.. المَلك القوى: بلقيس حكمة وذكاء الملكة! "10"

يرى البعضُ أن تعاليم الإسلام تنظر للأنثى نظرة دونية مقارنة بالذكر، وهى رؤية تأسَّست على فهم غير صحيح لآيات قرآنية، مثل قوله تعالى: (وَجَعَلُوا الْمَلَائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثًا أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ) الزخرف 19، (أَمْ لَهُ الْبَنَاتُ وَلَكُمُ الْبَنُونَ) الطور 39، (أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنثَى) النجم 21.



فى القَصص القرآنى جاء الحديث عن أكثر من مَلك من الرجال، لكن المَلكة الوحيدة التى جاء ذكرها فى القرآن الكريم هى مَلكة سبأ، فقد حدثنا عن مُلكها وحُكمها، واختلفت المَراجع التاريخية فى تحديد اسمها ونَسَبها، وتنسب الملكة بلقيس إلى الهدهاد بن شرحبيل، كما أنه لا يوجد تاريخ لسنة ميلادها ووفاتها.

وقد اتخذت كمَلكة من سبأ مقرًا لحُكمها، وجاءت قصتها فى القرآن الكريم دون أن يذكر اسمها فى الآيات من 22 إلى 44 من سورة النمل ضمن أحداث قصة النبى سليمان وهو ابن النبى داود عليهما السلام، ولم يجتمع لنبى من بنى إسرائيل المُلك والنبوّة إلا لهما، والنبى سليمان وهبه الله النبوّة والحكم فكان نبيًا مَلكًا، وهو من سبط يهوذا.

 مشهد (1).. استطلاع

كان قوم بلقيس يعبدون الشمس ويسجدون لها، وهذا ما عرفه الهدهد الذى كان قد بعثه النبى سليمان ليبحث عن مورد للماء؛ حيث كان النبى سليمان يعلم لغة الطير: (وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ وَقَالَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنْطِقَ الطَّيْر)، النمل 16.

وتبدأ قصة مَلكة سبأ بعد عودة الهدهد بالأخبار: (فَقَالَ أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِن سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ)، فقد وجد الهدهد فى طريقه مملكة سبأ وعلم أحوالهم: (إِنِّى وَجَدتُّ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَىءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ)، فوجدهم تحكمهم امرأة لها مُلك كبير ولكنه أنكر عليهم عبادتهم الشمس: (وَجَدتُّهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِن دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لا يَهْتَدُونَ).

وقد أراد تعالى أن يوضح لنا ألا نستصغر أى كائن، فالهدهد علم ما لم يعلمه النبى سليمان والذى أراد أن يرى مدى صدق كلام الهدهد، وأرسل إلى بلقيس ملكة سبأ برسالة تدعوهم إلى طاعة الله ورسوله بأن يأتوه مسلمين خاضعين لحُكمه وسُلطانه.

 مشهد (2).. التشاور

وكانت رسالة سليمان للمَلكة تحمل الكثير من الاعتداد بالنفس، ومع ذلك فإن المَلكة حين قرأت الرسالة استشارت وزراءها: (قَالَتْ يَا أَيُّهَا المَلأ إِنِّى أُلْقِى إِلَى كِتَابٌ كَرِيمٌ. إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ. أَلاَّ تَعْلُوا عَلَى وَأْتُونِى مُسْلِمِينَ)، ومع أنها صاحبة النفوذ والتصرف؛ فإنها عرضت الأمْرَ على وزرائها وقرأت الرسالة على مسامعهم، وكانت من الذكاء بأن وصفت الرسالة بأنها كتاب كريم، فى إشارة منها للوزراء حتى لا يأخذهم التكبر ويعتبروا الرسالة مهينة لهم فتنطلق منهم صيحات إعلان الحرب.

وصفت بلقيس كتاب سليمان بأنه (كِتَابٌ كَرِيمٌ)، رُغم عدم معرفتها بالنبى سليمان، وقد يكون ذلك بسبب أنه بدأ كتابه بالبسملة (إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ)، وهذا أمرٌ جديد عليها، ولكن فطرتها النقية أوحت لها بذلك. 

وتأتى الفتوَى فى القرآن الكريم بمعنى طلب الرأى وليس لطلب الحُكم الشرعى فى الحلال والحرام، مثلما طلبت ملكة سبأ: (قَالَتْ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِى فِى أَمْرِى)، النمل 32، فالفتوَى هنا تعنى طلب الرأى لإيجاد الحل الأمثل للخروج من مشكلة، لذلك فهى تحتاج إلى دراسة من المختصين، كذلك كان طلب مَلك مصر: (يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِى فِى رُؤْيَاى)، يوسف 43.

وفى القرآن الكريم تأتى بلقيس مَلكة سبأ كمَلكة حكيمة ولها مجلس شورى: (قَالَتْ يَا أَيُّهَا المَلأ أَفْتُونِى فِى أَمْرِى مَا كُنتُ قَاطِعَةً أَمْرًا حَتَّى تَشْهَدُونِ).

كانت بلقيس من رجاحة العقل بحيث علمت من ألفاظ الرسالة أن سليمان ليس مَلكًا عاديًا، ومع ذلك كان رأى وزرائها: (قَالُوا نَحْنُ أُولُوا قُوَّةٍ وَأُولُوا بَأْسٍ شَدِيدٍ وَالأَمْرُ إِلَيْكِ فَانظُرِى مَاذَا تَأْمُرِينَ)، لذلك خالفت وزراءها الرأى عندما أشاروا عليها باللجوء إلى القوة: (قَالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ).

رفض قومُها التهديدَ وأخذوا يلوّحون بالحرب عندما طلبت مشورتهم: (قَالُوا نَحْنُ أُولُوا قُوَّةٍ وَأُولُوا بَأْسٍ شَدِيدٍ وَالأَمْرُ إِلَيْكِ فَانظُرِى مَاذَا تَأْمُرِينَ)، فلما رأت تطوّر وطنها والحضارة والرفاهية التى كان يعيش فيها شعبها خشيت عليهم الغزو، فرجحت الحكمة على الحرب وقررت اللجوء إلى اللين: (قَالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ)، النمل 34، مع أنها لا تعرف نوايا سليمان فقد يكون طامعًا بثراء مملكتها فاقترحت بإرسال هدية: (وَإِنِّى مُرْسِلَة إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ فَنَاظِرَة بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ)، النمل 35.

وبذلك يمكن لرُسُلها دخول مملكته ليكونوا عيونًا لها يرجعون بأخبار عن مُلكه وقومه وجيشه، ومن ثم تحدد موقفها الحقيقى بعد علمها وإدراكها مدى قوته، وتعرف مدى طمعه فى خيرات بلدها، وتكسب الوقت لصالحها فتجهز نفسها للحرب.

ورأت أن ترسل إليه بهديةٍ لتعرف إن كان مَلكًا عاديًا فسوف تغريه الهدية وإن كان مَلكًا نبيًا فلن تغريه الهدية، ولتعرف أكثر عن مُلكه وجنوده: (وَإِنِّى مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ)، لكن عندما جاء رُسل مملكة سبأ بالهدية لسليمان أدرك الهدف من الزيارة والهدايا، فحشّد جيشه من الجن والإنس والطير والوحوش أمام الرُّسل، فى استعراض لم ولن يتكرر فى البشرية لغير هذا النبى المَلك، ورد عليهم هديتهم لأنه لا يقبل الرشوة، فرد هديتهم ثم هدّدهم: (قَالَ أَتُمِدُّونَنِ بِمَالٍ فَمَا آتَانِى اللَّهُ خَيْرٌ مِمَّا آتَاكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ). 

ولكن النبى سليمان رد عليهم بقوة منكرًا فِعلهم ومتوعدًا إياهم: (ارْجِعْ إِلَيْهِمْ فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لَا قِبَلَ لَهُمْ بِهَا وَلَنُخْرِجَنَّهُمْ مِنْهَا أَذِلَّةً وَهُمْ صَاغِرُونَ)، عندها أيقنت بلقيس بقوة النبى سليمان وعظمة سُلطانه، فجمعت وزراءها وجنودها وسافرت إليه.

 مشهد (3).. الإسلام

وكان عرش بلقيس موجودًا فى سبأ عندما تركتها وسافرت، إلا أن النبى سليمان عليه السلام أمَرَ جنودَه بأن يجلبوا له عرشها قبل أن تصل إليه: (قَالَ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَيُّكُمْ يَأْتِينِى بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِى مُسْلِمِينَ)، فتطوَّع أحدُ الجان بأن يأتيه به قبل نهاية اجتماع النبى سليمان بهم: (قَالَ عِفْرِيتٌ مِّنَ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن تَقُومَ مِن مَّقَامِكَ وَإِنِّى عَلَيْهِ لَقَوِىٌّ أَمِينٌ).

لكن أحد الموجودين كان يملك قدرة أكبر مما يملك الجان: (قَالَ الَّذِى عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ)، أى قبل أن ترمش عينك، وهنا علم الرجل غلب قوة عفريت الجن.

ويعترف النبى سليمان بفضل ربّه عليه ولا يَنسب الأمْرَ لنفسه: (فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ قَالَ هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّى لِيَبْلُوَنِى أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّى غَنِىٌّ كريم).

ثم أمرهم بتغيير مَعالم عرشها ليرى إن كانت بالذكاء الذى يليق بمقامها: (قَالَ نَكِّرُوا لَهَا عَرْشَهَا نَنْظُرْ أَتَهْتَدِى أَمْ تَكُونُ مِنَ الَّذِينَ لَا يَهْتَدُونَ).

وكان من ذكائها حين سألها عن عرشها: (فَلَمَّا جَاءَتْ قِيلَ أَهَكَذَا عَرْشُكِ قَالَتْ كَأَنَّهُ هُوَ)، عرفته لكنه اشتبه عليها، إجابة حكيمة لم تثبت ولم تنفِ، فلم تؤكد أنه هو لعدم علمها بالقدرة التى يمكنها جلبه من مملكتها، كما أنها لم تنفِ ذلك لأنه يشبه عرشها.

وكان النبى سليمان قد أمر جنوده ببناء قصر من الزجاج على الماء أرضيته من زجاج صلب وشفاف معًا يسير عليه السائر: (قِيلَ لَهَا ادْخُلِى الصَّرْحَ فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً وَكَشَفَتْ عَنْ سَاقَيْهَا قَالَ إِنَّهُ صَرْحٌ مُمَرَّدٌ مِنْ قَوَارِيرَ)، وظنت بلقيس أنها ستمشى فى الماء فكشفت عن ساقيها حتى لا يبتل ثوبها.

والغرض من إدخالها الصرح أن تعتقد أنها ستمر من فوق الماء لأن الزجاج كان شفافًا، ففهمت مَلكة سبأ أن ما يغيب عنا لا يعنى أنه غير موجود، فهى كانت تعبدالشمس لأنها تراها، ولكنّ هناك إلهًا وراء الشمس لا نراه، ولكنه موجود بفعله فى الكون وهو المستحق العبادة، كانت رسالة تخاطب العقل فما كان منها إلا أن استجابت.

ولما رأت ما أتاه الله تعالى لسليمان اعترفت بأنها كانت ظالمة لنفسها بعبادتها لغير الله: (قَالَتْ رَبِّ إِنِّى ظَلَمْتُ نَفْسِى وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ)، واختارت بلقيس أن تعلن إسلامَها.

إن الله  تعالى ذكر فى القرآن حالة امرأة حاكمة وهى ملكة سبأ ولم ينكر وجودها كمَلكة؛ وإنما أنكر سجودها وقومها للشمس، وقد كان سلوكها حكيمًا مع قومها فى الاستشارة وطلب الرأى، لم تغتر بالمستشارين أولى القوة والبأس الشديد وإنما قدرت العواقب، مما يدل على استحقاقها للمُلك.

وفى القصص القرآنى نموذجان للحكام أحدهما فرعون مصر والآخر ملكة سبأ، فرعون مصر كان حاكمًا مستبدًا منفردًا برأيه، وملكة سبأ كانت تستشير مَن حولها، وبسياستها العاقلة تمكنت بلقيس من الوصول إلى الحل الأفضل لها ولشعبها، بينما غرق فرعون وجنوده فى قاع البحر، وهذا هو الفارق بين استبداد مَلك هو فرعون وحكمة مَلكة هى بلقيس.