
أسامة سلامة
الرأسمالية المتوحشة تقتل كرة القدم
كان مشهدًا لافتًا للنظر، وذا دلالات كثيرة، كرستيانو رونالدو لاعب المنتخب البرتغالى يزيح عبوات مشروب كوكاكولا من أمامه خلال المؤتمر الصحفى عقب مباراة فريقه مع منتخب المجر ويمسك بزجاجة مياه، تعبيرًا عن رفضه المشروبات الغازية وأهمية شرب المياه العادية بدلًا منها، وحسب بعض الأخبار غير المؤكدة أن أسهم شركة كوكاكولا تراجعت وحققت خسائر تصل إلى 5 مليارات دولار، وسار بول بوجبا لاعب المنتخب الفرنسى على نفس الطريق وأبعد زجاجة مشروب كحولى من أمامه خلال مؤتمر صحفى بعد مبارة فرنسا مع ألمانيا، ووضعها تحت الطاولة فى إشارة إلى رفضه للمشروبات الكحولية التى حرّمها الإسلام وهى الديانة التى يعتنقها اللاعب الفرنسى ذو الأصول الأفريقية.
لكن الشركتين اللتين أبعدت منتجاتهما مارستا نفوذهما باعتبارهما ضمن الشركات الراعية لبطولة الأمم الأوروبية لكرة القدم، وأجبرتا الاتحاد الأوروبى للعبة على اتخاذ قرارات بمعاقبة الفرق التى يقوم أحد أفرادها بإبعاد سلعة تُساهم شركتها فى رعاية البطولة وتغريمها مبالغ مالية كبيرة.
هدف رونالدو وبوجبا أوقفته المصالح المالية ومنعت غيرهما من تكرار موقفهما، وهكذا تحكمت الأموال فى رسالة الرياضة، رغم أنها تمارس فى الأصل من أجل المثل العليا، مثل التنافس الشريف والحفاظ على الصحة والتعاون والمحبة والتعارف، ولكن هذه المبادئ كانت فى عصور سابقة وقبل أن تتدخل الأموال الكثيرة وتتحكم فى الألعاب الرياضية عامة وكرة القدم خاصة، حتى كادت أن تفسدها، وربما فى السنوات المقبلة تقضى عليها كلعبة شعبية يمارسها ويتمتع بمشاهدتها الفقراء قبل الأغنياء.
ما يجرى الآن هو البحث عن أى طريق لتحقيق أرباح طائلة من اللعبة حتى لو أدى الأمر إلى الاستحواذ عليها وتأميمها لصالح فئات معينة، ولهذا يتم اختراع بطولة جديدة كل فترة بهدف حصد مزيد من الأموال، وآخرها محاولة رؤساء عدد من أكبر الأندية فى إنجلترا وإسبانيا وإيطاليا إقامة بطولة السوبر الأوروبى، وكان الهدف الرئيسى هو الأرباح الكبيرة استغلالا لشعبية الأندية فى بلادها وفى كل دول العالم بما تضمه من نجوم عالميين، وحال دون تنفيذ الفكرة -حتى الآن- وقوف الاتحاد الأوروبى والاتحاد الدولى ضدها ومعهما مشجعو الأندية الذين اعترضوا على تحويل اللعبة من الرياضة والمتعة الكروية إلى التجارة والاستثمار، ولا ننسى أن الاتحاد الأوروبى لكرة القدم ابتكر بطولة جديدة بجانب بطولة كأس الأمم الأوروبية وهى دورى الأمم الأوروبية، كما أسس مسابقة جديدة للأندية تبدأ العام القادم هى المؤتمر الأوروبى بجانب بطولتى الأبطال والدورى الأوروبى.
وإذا كانت بطولة السوبر الأوروبى فشلت مؤقتا، فإن هناك اتجاهًا لإقامة دورى السوبر للأندية الأفريقية ويضم الأندية الكبرى فى القارة السمراء، وذلك بجانب المسابقات الحالية، كل هذه البطولات والتى هدفها المكاسب المالية فقط تهدد اللعبة فى مقتل وتجعل مصيرها فى أيدى أصحاب الاستثمارات يتحكمون فيها ويوجهونها كيف شاءوا، كما أنها تقضى على اللاعبين أنفسهم بسبب الإرهاق الذى يصيبهم جراء اللعب المتواصل فى البطولات المختلفة مع أنديتهم ومنتخباتهم الوطنية حتى كادوا لا يحصلوا على راحة، وعلى سبيل المثال فإن بطولة أوروبا للأمم التى تلعب الآن تأتى عقب قضاء اللاعبين موسمًا طويلًا مع أنديتهم، حيث تقام فى شهرى يونيو ويوليو، بعد أن يكون اللاعب قد استهلك تمامًا من الموسم الكروى الطويل، والذى يمتد من شهر سبتمبر إلى مايو، أى ما يقرب من ثمانية أشهر، ثم ينضم إلى معسكر بلده ويًشارك فى مباريات ودية، ما يجعله يصل إلى المسابقة الدولية منهكًا غير قادر على إبراز موهبته المعتادة، ثم يعود سريعًا إلى فريقه ليبدأ الاستعداد للموسم الكروى الجديد، وهو ما يجهده ويستهلكه تمامًا، يحدث ذلك أيضًا ويتكرر نفس السيناريو مع اللاعبين فى بطولة كأس العالم التى تُقام كل أربع سنوات بعد انتهاء الدوريات الأوروبية.
لا يستطيع أحد حاليا أن يعترض على كثرة المسابقات، فقد أصبحت اللعبة تحت رحمة أصحاب الاستثمارات وما تجلبه من أموال كثيرة حتى لو كان الضحية هم اللاعبون، والذين فى طريقهم ليصبحوا مثل أبطال الرواية الرائعة «إنهم يقتلون الجياد.. أليس كذلك» للكاتب الأمريكى «هوراس ماكوى»، والتى صدرت عام 1935 وأنتجت فيما بعد فيلمًا عالميًا، وتحكى عن شاب وفتاة فشلا فى العثور على عمل فى هوليوود، فقررا الاشتراك فى ماراثون للرقص يتنافس فيه المتسابقون على الرقص لأيام طويلة مستمرة، ويخرج من السباق من يقع أو لا يستطيع الاستمرار، وبعد أن رقصا 879 ساعة ولم يتبق سوى عشرين متنافسًا صامدين، تم إلغاء المسابقة بعد أن قتلت إحدى النساء فى المرقص برصاصة طائشة، ومنح كل مشارك متبقٍ 50 دولارًا تقديرًا لجهدهم، وعندما خرج الاثنان من المرقص بعد خمسة أسابيع، أخرجت الفتاة مسدسًا وطلبت من الشاب قتلها، وفى التحقيق تذكر الشاب كيف أطلق جده الرصاص على حصان العائلة المفضل بعد أن كسرت ساقه ولم يعد قادرًا على المشاركة فى المسابقات، وحين ألح عليه المحققون عن سبب قتلها قال: إنها طلبت منه ذلك، وأضاف قائلًا: «إنهم يقتلون الجياد أليس كذلك».
إنه تقريبًا نفس ما يحدث مع نجوم كرة القدم، والذين يظلون يركضون فى الملاعب لساعات طويلة بحثًا عن فوز ومحققين لأصحاب الاستثمارات أرباحًا كبيرة، إنها قواعد الرأسمالية المتوحشة التى تقتل اللعبة واللاعبين معًا دون رحمة.