الأحد 8 يونيو 2025
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أحمد إمبابي
رئيس مجلس الإدارة
هبة الله صادق
رئيس التحرير
أحمد إمبابي
ناصر وحليم والسعدنى.. أغنية «توبة» لحنها عبدالوهاب تحية تقدير واحترام لصوت حليم : الحلقة 3"

ناصر وحليم والسعدنى.. أغنية «توبة» لحنها عبدالوهاب تحية تقدير واحترام لصوت حليم : الحلقة 3"

فى عالم الأضواء هناك مساحات شاسعة تتسع للموهوبين ولأنصاف الموهوبين وللصف النادر من العباقرة.



تبدأ الدرجة الأولى بالسكالية ومفردها «سوكل» وهؤلاء الذين يظهرون فى المجموعات وقد يفتحها الله فى وش أحدهم فيتحول إلى كومبارس متكلم يقول جملة أو جملتين، وقد تلعب البلية مع السوكل فيصبح ممثل أدوار ثانوية تحفظ معها رسمه دون أن تعلم اسمه على الإطلاق.

وما بين «السوكل» و«العبقرى» هناك مرات لا حدود لها.

 

من خلال تتبع الخط البيانى للعندليب سنجده لفت انتباه عباقرة زمانه، كامل الشناوى، أعظم شعراء هذه المرحلة، ومحمد عبدالوهاب عبقرى اللحن والنغم فى كل العصور، ولكن ومع إحساس هذين الهرمين بموهبة حليم، فإن كلا منهما تحسس الموهبة واختبرها ولمسها جيدا ليتبين قماشتها، ولا أخفى أن هذا التصرف قد يسميه البعض حكمة أو حنكة، ولكن بالتأكيد هذا نوع من أنواع الدهاء الذى لا بُدّ للعبقرى أن يتوافر لديه كم وفير منه، لأن العبقرى لو أشار إلى أحدهم بأنه صاحب موهبة وأنه سوف يلمع ويضىء سماء الفنون، ثم حدث العكس.. فإن أحدا ساعتها لن يرحم العبقرى وسوف يتهمونه بأنه أفلس وأن العبقرية خاصمته ولم تعد تطاوعه تماما مثل لاعب الكرة الذى شطب ولم تعد الكرة تطيع لمساته ولا تصويباته.. وقد لبد عمنا العبقرى محمد عبدالوهاب فى الدرة للعندليب وقتا طويلا جدا من أجل التأكد من أصالة موهبة حليم، ولعب دور المخبر الذى بحث ودقق وتابع وفتش فى حنجرة حليم وحسه وإحساسه وعن جودة اختياره للكلمة واللحن وكل حرف خرج من حنجرة حليم وشفتيه ،وعندما أدرك العملاق العبقرى عبدالوهاب أنه أمام كارثة عبقرية كبرى لا مثيل لها.. لم يهرب منه.. أو يتبرأ أو يتجنب اللقاء.. كان سلوك الكبار، سلوك العظماء حاضرا، فقد فتح ذراعيه بالمراحب الحارة واحتضن هذا الثائر القادم من أعماق الريف ليحطم كل ما تعارف عليه فى عالم الطرب والغناء فى مصر أولا.. ثم فى عالمها العربى بأسره، شأنه شأن الثائر العظيم جمال عبدالناصر الذى انطلق بثورته البيضاء إلى دوامات أرحب فى عالمنا العربى الكبير.

 بدا لحليم أن هناك كبيرا للفن والطرب فى بر مصر والعالم العربى وإليه اتجه واقتحم صومعته واكتسب وده وإن لم يكتسب ثقته الفنية أو رضاه الفنى، وظل ملازما للأستاذ عبدالوهاب يقدم نفسه وجديده للعملاق، ولكن ولأن حليم لم يكن هو الآخر شخصا اعتياديا أو صاحب أفق محدود أو على نياته.. بل كان أشد مكرا وأعظم دهاءً من الجميع، فلم يفاتح الأستاذ فى طلب لحن أو لقاء فنى.. ولكنه اجتهد وتعبقر.. أى شغل العبقرية لديه ولدى كتاب عصره وملحنى زمانه حتى طفا إلى السطح وتحول إلى ظاهرة وتغنى الناس بأغانيه وأصبح وجود حليم كما الشمس والهواء وانتشر الفتى الذهبى فى هذه التربة الخصبة التى وهبها المولى عز وجل توكيلا أبديًا خاصا بأهلها وحدهم دون خلقه من العرب أجمعين.

ففى هذه البقعة العجيبة من الأرض المحصورة بين بحرين ويشقها النيل يعيش على ضفافه أناس علموا البشرية الفنون والعلوم وتحولوا إلى مركز إشعاع للأشياء كلها، والجديد فيها على وجه الخصوص.. ها هو الولد النحيل العدمان المعدوم الأب والأم والمال والجاه والواسطة، كارت التوصية الأوحد الذى يحمله يكمن فى حنجرته وعقله المنير.. وفى العام 1954 كتب له أن يخترق الحواجز كلها فأصبح هدفا للجميع.. المخرجين والمنتجين والشعراء والملحنين والكتاب والصحفيين، ورضخ العملاق عبدالوهاب وقدم لحنه «توبة» تحية احترام وتقدير لعبقرية قلما يجود بها الزمان.. تحررت الأغنية من القيود وقالب الأسمنت وجردل النشا الذى كان المطرب يعيش داخله وانطلق على مسرحه يسرح يمرح، ويلاغى جمهوره ويكسر الحواجز، بل أصبح الغناء مواكبًا لحياة المصريين وأحلامهم لم يتوقف على الرومانسيات والمحب والولهان والعاشق والمكلوم والمظلوم.. ومن شدة النجاح الذى تحقق ولفرط سعادة عبدالوهاب بالتعاون مع القادم الجديد، فقد قرر أن يستغل النجاح المدوى لـ «توبة» ليقدم حليم فى فيلم من إنتاجه، وهنا تتجلى مقدرة عبدالوهاب على قراءة المستقبل الفنى لحليم.. فقد تأكد هذا الهرم الفنى من أن الشاب الجديد فرض ذوقه وجديده على مصر بأكملها، وأنه ماض لا محالة فى التغيير وأن الناس أصبحت على مختلف أذواقها تتمايل قلوبهم رقصا وطربا على نغمات وصوت وآهات حليم.. لذلك فقد قرر استثمار هذا الفتى فنيا وتجاريا، بل حدث أن تعاقد معه العملاق عبدالوهاب على الورق ليلعب بطولة فيلم لقاء مبلغ 500 جنيه، ولكن بعد نجاح حليم بعيدا عن إنتاج عبدالوهاب والإيرادات المرعبة التى تحققت فى دور العرض، كان على أجر حليم أن يتغير تبعا لأوامر السوق فأصبح أحد أغلى فنانى مصر على الإطلاق، وبلغ أجره 5000 جنيه، يعنى العقد مع عبدالوهاب يساوى واحد على عشرة من أجر حليم الجديد.. ولكن الدهاء على الجانبين ارتفع إلى عنان السماء فلا عبدالوهاب فاتح حليم فى تغيير الأجر ولا حليم طالب عبدالوهاب بتصحيح الأوضاع، وبالفعل قام ببطولة الفيلم لقاء المبلغ المتعاقد عليه وتصالحت المصالح.. وإذا بشركة تبدأ لتعيش مع الزمان.. وهى صداقة لم يستطع أحد أن يقوض بنيانها وشراكة لم تكن خاضعة لحسابات الطمع والمنفعة الخاصة، ولكنها صداقة أعذب صوت عرفته أمة العرب مع أعظم مهندس موسيقى ظهر على أرضها.. وهى قصة تختلف تمام الاختلاف عن العلاقة التى سوف تكون مع شاعرنا الأكبر كامل الشناوى وحليم، فد اقترب حليم من المجال المخملى لعظماء ذلك الزمان ولعلنى لا أبالغ لو قلت إن أعظمهم كان كامل الشناوى.. فقد عاش السعدنى العمر بأكمله يحكى فى مجالسه عن كامل الشناوى فلا النوادر انتهت ولا كرر السعدنى حكاية واحدة كأنه يحكى عن حبات رمال فى الصحراء، أو عن نقاط مياه فى محيط.. كان الشناوى يمتلك خفة ظل لا مثيل لها وسخرية جعلته محط أنظار الجميع، وجاذبية للبسطاء ومن هم يسيرون على أول دروب الفنون والجنون فى كل مجال، وقد اجتمع السعدنى وحليم فى أشياء كثيرة وعلى شخوص كثر.. كان أهمهم كامل الشناوى.. فى بيته كان حليم يأتى ومعه الموجى والعود.. فإذا كان كامل بيه نائمًا فلا أحد يجرؤ على أن يوقظه.. دخل حليم غرفة الانتظار فقد كان بيت الشناوى أشبه ببيت سمير خفاجى وبهجت قمر.. ملتقى لأصحاب المواهب يدخلونه فى أى وقت فى الليل أو النهار، دون سابق إنذار.. وكان حليم إذا أمسك بالعود عزف وغنى وأبهر وأدهش وجنن الحضور جميعا.. ومع مرور الأيام والشهور والسنين كان على حليم والسعدنى معا أن ينالا الشىء الكثير من تعليقات الشناوى التى لابد أن يخلدها الزمن.

فقد قال عن السعدنى: كنت أعتقد أن خيال محمود السعدنى أقوى ما فيه، فهو إذا كتب أو تحدث، أضفى على ما يكتبه، وما يقوله صورًا يستمدها من خيال أوسع من عقليات العلماء، وذمم المرابين!

ولكن مذكرات «الواد الشقى» أثبتت أن ذاكرة السعدنى أقوى من خياله.. إنه يروى أحداث طفولته بدقة وتفصيل، كما لو كانت هذه الأحداث قد وقعت له منذ لحظات.

ولقد توهمت وأنا أتابع حلقات هذه المذكرات فى «روزاليوسف» أن خيال السعدنى قد طغى على الحقيقة، ولكن أصدقاء طفولته الذين زاملوه فى الحارة، أكدوا لى أن السعدنى قدم نفسه فى مذكراته وهو متجرد من خياله، ومن ثيابه معًا!

والصورة التى تطالعنى للسعدنى من خلال مذكراته، أنه كان فى طفولته يملأ حجره بالطوب، ويمشى فى الحارة، ويقذف الناس، ويجرى.. ولا هدف له إلا أن يضحك من رؤية من يقذفهم وهم يتوجعون!

هذا الولد الشقى فى الحارة، أصبح الولد الشقى فى الصحافة فهو يملأ حجره بالطوب، ويقذف أهل الفن، ولاعبى الكرة، ويجعل منهم مادة للهزء والسخرية.

والفرق بين محمود السعدنى فى الحارة، ومحمود السعدنى فى الصحافة، أنه وهو فى الحارة لم يكن له هدف من إلقاء الطوب على عباد الله إلا أن يضحك منهم، ويجرى.. أما السعدنى فى الصحافة فإنه يهدف من إلقاء الطوب إلى تقويم ما يراه معوجًا، بالمنطق، والعنف، وبالأسلوب النابض الساخر الذى يتحدى من يهاجمهم ألا يشعروا باللذة وهم يقعون تحت ضربات قلمه القاسى!

وهو فى الصحافة يلقى الطوب على ضحاياه، ولا يجرى!

يخطئ من يظن أن السعدنى سليط اللسان فقط.. إنه سليط العقل والذكاء أيضًا!

وهذا سر جاذبيته، كصحفى، وكاتب، وإنسان.

.. فيما قال عن حليم إنه لا يصدق أبدا.. إلا إذا غنى.