
حسن عيسى
«كورونة» الست «أم عباس»
صرختُ فى وش الست «أم عباس» إللى بتساعدنا فى البيت أول ما فتحت باب الشقة ولاقيتها فى وشّى من غير كمامة وقلت لها بصوت الشاويش عطية: فين كمامتك يا ست انت؟!
فرفعتْ إيدها الشمال بسرعة قُدّام عينى وكأنها هاتعمل علامة النصر، وقالت أهى يا أستاذ، لابساها أهى.. وبعدين ضحكت برخامة لمّا لاقتنى اتخضيت من الحركة المباغتة إللى عملتها وحسّت إنها كبستنى من أول جولة وأنا بكمّل بصوت مخضوض: انت عملتيها غويشة ليه؟!.. فاخدت نفَس عميق قبل ما تشرح للتلميذ البليد: حطاها فى دراعى بدل ما تعرق منّى وأنا مسكاها فى إيدى ولّا تقع على الأرض.. ولسّه هاهتف بذكائها وكِدَهُوَّن، قلت: يا واد خليك تقيل علشان تاخد الموضوع بجد وماتستهترش بالإجراءات الوقائية وكِدَهُوَّن!
فرسمت على وشّى (111) وقلت لها: وليه تحطيها فى إيدك أصلاً، مكانها فى وشّك يا «أم عباس»، ولّا عايزة تلقطى عدوَى من السوق والزحمة والمواصلات وتعدينا كلنا مع بعض؟
ولأن الحرب خدعة قررتْ تاخدنى على قد عاقلى وطلّعت الكمامة وحطتها على بؤها وبعدين نزّلتها بسرعة على ذقنها وزُورها فى حركة روتينية وكأن ده هو البروتوكول المصرى المتفق عليه فى استخدام الكمامات «احنا كده بنخدع الكورونا فى عُقر دارنا»!!
وبثقة خبير استراتيجى قالت لى: وهو انت مصدّق إن فيه حاجة اسمها كورونا وبتموّت بصحيح؟ فرديت بسذاجة المواطن المتوسط الذكاء: أمّال الناس اللى بتموت دى ماتت إزاى؟!
فقالت وقد بدأت تشك فى قدراتى العقلية: عمرهم كده يا أستاذ، هو يعنى ما كانش فى موت قبل الكورونا دى ما تيجى ولّا الناس هاتخلل فى الدنيا ؟!
الصراحة كلامها مقنع بس كمّلت بصوت «زكى رستم» فى فيلم (نهر الحب) هو بيقطم الست «نوال» انت ماتعرفيش يا «أم عباس» إن ده وباء عالمى وموّت ملايين لغاية دلوقتى ولازم ناخد حذرنا؟
فتاهت منّى ثوانى وقالت لى: يعنى أشتغل ولّا أروَّح ؟! فرميت نظرة سريعة على الغابة إللى عايش فيها وقلت لها بصوت مهزوم: طيب اشتغلى بس لو سامحتى ماتقلعيش الكمامة خالص طول ما انتى فى البيت وكِدَهُوَّن!!
فبصّت لى باستغراب وهى بتقولى: طيب وأنا هافضل لابسة الكمامة ليه وأنا بشتغل كده هاتخنق منها وبعدين هو حضرتك غريب يعنى؟
فتنرفزت وقلت لها: هو أنا قلت لك البسى الحجاب ياست انتى؟! ما تسمعى الكلام وخلاص دى إجراءات وقائيةً!!.. حسيت إنى لو كملت فى المناقشة دى أكتر من كده هاعيط منها وعمرها ماهاتحترمنى تانى، فأخذت نفَس عميق وأنا بستعد للتقهقر لأدخل غرفتى وأعيط براحتى بعيد عنها.
وفجأة ألاقيها بتطلع كمامتين شكلهم مشبوه وبتقولى: اتفضل دول هدية ليك!! قلت لها بتوجس: جايباهم منين، دول شكلهم غريب قوى. قالت بفخر: «صنع إيديّا وحياة عنيّا».. الحقيقة المفاجأة كانت أكبر من إنى أكمل أسئلتى الغبية، فسكت أنا وترجمتْ هى سكوتى على أنه علامة رضا وقبول بالهدية، فكملت حكى أسطورتها: «أنا قلت أجيب لى قرشين فى يومين الكورونا دى بدل وقف الحال ده وماحدش عايز يشغلنى غيرك، والرزق يحب الخفية، فجبت توب قماش وفصّلته كمامات صغيرة طلعت اتنين وسبعين كمامة بالضبط بعتهم كلهم وسبت لك الاتنين دول هدية». فتنحنحت وقلت: «بس الكمامات دى لازم لها شروط طبية للحماية مش مجرد حتة قماشة وكِدَهُوَّن»!!
مصمَصت شفايفها وقالت: «يا أستاذ إحنا بنلبسها واحنا داخلين المحلات وبعد كده بنزّلها على طول.. يعنى الحكاية مش مستاهلة اشترطات اللى بتقول عليها دى». وبقمصة مفاجئة قالت: «اتفضل بقى وسيبنى أشتغل، البيت كله مكركب ولسّه هاطبخ قبل العيال ما ترجع من المدرسة»، قلت لها وأنا بتفرج على الكمامتين بحذر ومش عايز أمسكهم: ماهو انتى اللى جيتى متأخرة قوى النهاردة. ولفيت علشان أسيبها وأمضى لحال سبيلى.. ردّت وهى بتشيل السجاجيد: «ماهو أنا عديت الأول على «أم حنفى» علشان آخد قسط الجمعية من حبابى عنيها .. تصدّق الوليّة الناقصة هربانة وفاكرة لما تقول إن عندها كورونا هانخاف نقرّب منها ونجرى بعيد، لكن على مين، كان غيرها أشطر»!!!
وهنا اتسمّرت فى مكانى وحسّيت ببوادر شلل رباعى.. فقلت لها: أوعى تكونى رُحتى لها فعلا؟؟؟، ردت عليّا بمنتهى الثقة اللى فى الدنيا «أمّال هاسيبها، دى وليّة ملاوعة، طبيت عليها وقعدت تعطس فى وشّى وتتحشنف وتترعش علشان يعنى تسبّك الكدبة وأصدقها».. فسألتها ببراءة الأطفال: وصدقتيها؟
ردّت بخبرة العارفين: «عيب عليك، فضلت قاعدة على قلبها ومرضتش أمشى لغاية لما ماتت وهى على حجرى»!!
حجرك؟! رددتها وأنا مذبهل وحاسس بتنميل فى خدّى الشمال.. وهنا سكت الكلام ومارداش يخرج من زورى غير سرسعة غير مترابطة: «هى مين إلى ماتت ؟! انتى لازم تعملى مسحة حالاً»..
فردت وهى بتجيب جردل وممسحة: «طبعًا ياأستاذ، مانا هامسح الشقة كلها وهارش مطهر كمان علشان تطمّن، يا خويا ماتقلقش أنا فاهمة الإجراءات دى كويس»!!، وهنا تركت دموعى تنزل براحتها خالص وبما تبقّى من قدرة على النطق قلت: يا «أم عباس» لازم تعملى تحاليل علشان ممكن تكونى لقطى الفيروس من «أم حنفى» الله يرحمها، أنا عايز أطمّن عليكى. فضحكت للمرة الأخيرة وقالت: «ياخويا ماتبقاش موسوس كده، هى دى أول مرة واحدة عندها كورونا تموت على حجرى ياأستاذ؟!».
يقطع الأستاذ على سنيين الأستاذ، همّا كتير اللى ماتوا على حجرك؟!.. أنا إللى لازم أروح أعمل مسحة، أوعى من سكّتى دلوقتى، أنا بدأت أحس إن الشقة كلها فيروسات من كل شكل ولون وكِدَهُوَّن..
وإذ بها وبكل حماس تقول: «لا والنبى مايحصل أبدًا، تقوم تمسح الشقة وأنا موجودة، يا ندمتى، أنا إللى هامسح الشقة، ده أنا لا عشت ولا كنت يا خويا». رديت وأنا فى مرحلة ما قبل الغيبوبة «كِدَهُوَّن انتى لا هاتعيشى ولا هاتكونى يااختى». عاش حجر أم عباس مقبرة الكورونا وقاهر الفيروسات!!