
أكرم السعدنى
الأستاذ جمال عبدالناصر.. مات
بدأت الحياة تتغير من حولنا وجاء عم محمد البواب بمادة زرقاء مكعبة وقدمها للحاجة أم أكرم فوضعتها فى إناء وجاءت بقطنة فإذا بالإناء يتحول إلى الأزرق قولت لها إيه ده.. أجابت: دى نيلة سألتها ح تعمل فيها إيه.. قالت: ح ندهن كل إزاز البيت.
بالفعل تحولت القاهرة ليلا إلى اللون الأزرق حتى فوانيس العربيات أصبحت تشع بنفس اللون وسمعنا عن كلمة غريبة تتردد على لسان كل من حولنا «النكسة» ومعرفتى بالنكسة تنحصر فى دور برد قاتل أصابنى فحرمنى من اللعب والضرب والنزال مع أخواتى البنات وأيضا من مشاكسة خلق الله من البلكونة.. وبعد أن تعافيت عاد المرض من جديد.. فسمعت الدكتور العبقرى جارنا فى الجيزة عزت شندى وهو يكشف على شخصى الضعيف ليقول: ده حدثت له نكسة.. وجاء العم صلاح وبصحبته صديقه عصام المغربى وسمع نفس الكلمة.. ويسأله العم صلاح أنت عارف نكسة يعنى إيه، فقلت له هى إيه حكاية نكسة دى.. قال مصر انتكست.. قلت له هى جالها برد مرتين برضو.. فضحك العم صلاح وقال... اسم الله عليك مصر أخدت نزلة برد.. ولم أفهم شيئا.. ولكننى فى تلك الأيام انجذبت بشدة وأنا أستمع إلى جمال عبدالناصر وكنا نعشقه حتى ونحن أطفال صغار، هالة وأنا، وكان السعادنة الكبار يجلسون وقد حط الطير فوق الرؤوس وقد لمعت عينا السعدنى الكبير محمود وكان عصيا على الدمع أحسست أن هناك كارثة حدثت وكان يجزع بشكل عصبى ومتواصل وتحولت بشرته إلى السمرة الداكنة وهى حال السعدنى عندما تقع الكوارث الكبرى أو الغم العظيم.. وجلس العم صلاح فى أقرب مكان إلى جهاز التليفزيون بسبب ضعف فى النظر أصابه بفضل مدرس الدين والعربى لعنة الله عليه وهى قصة سوف نرويها فى مستقبل الأيام.. وطلع ناصر ليعلن أن مصر انهزمت وأنه يتحمل وحده المسئولية وحده يرشح زكريا محيى الدين لكى يحكم مصر.. هنا صرخت هالة وقالت: الله عم زكريا الحجاوى ح يبقى الرئيس ووسط المأساة ضحك العم صلاح من أعماقه، أما أنا فضحكت من أمعائى.. بينما الولد الشقى يقاوم حالة الحزن الدفين ويمنع بكل ما أوتى من قوة دموعا خانته عندما قال ناصر على أن أعود إلى صفوف الجماهير أؤدى واجبى معها كأى مواطن آخر.
وما هى إلا دقائق بعد خطاب عبدالناصر.. إلا ودق جرس الباب فإذا بستى أم محمود وقد احمرت عيناها وسال الدمع حتى أغرق ملابسها وبلغ الاحمرار أرنبة أنفها وهى تستنشق الهواء بصعوبة بالغة، قالت للسعدنى الكبير: صحيح يا محمود عبدالناصر استقال.. فقال لها السعدنى: أيوه يا أمه.. وهنا.. أخذت ستى تحكى كيف أصبحت حالة سمكة.. وكيف أن عم «حنا» جارنا الطيب الوديع المحب لكل البشر والحيوانات أصابته وكسة فقدان ابن أخيه فمشى فى الشارع لأول مرة وهو يلبس بيجامته ويكلم نفسه والحاجة أم رأفت التى فقدت ابنها فى سيناء وتحول بيتها إلى مندبة شارك فيها سكان حارة سمكة والحوارى التى جاورتها.. وأضافت الحاجة أم محمود الحارة كلها لبست أسود فى أسود وكانت حارة الشيخ رويس خلف منزلنا قد أصابها من هذه المأساة الشيء الكثير، فقد جاءت السيارات وبشكل يومى تحمل صناديق ممنوع الاطلاع على ما فى داخلها قالوا إنها جثث الشهداء والضحايا وأصبح البشر فى مصر يرتدون الأسود وكل شيء تلون بلون النيلة ولم نكن نعلم حجم المأساة تصورنا أنها تلخصت فى موت شباب مصر فى سيناء ووسط هذه المآسى.. وإذا بستى أم محمود تتكلم عن ضحاياها هى شخصيا وتقول: الفراخ والبط والوز ماتوا، العشة كلها راحت يا محمود.. وهنا لعن السعدنى العشة (التى فيها واللى عملها وارتدى ملابسه وخرج.. حتى العم صلاح «فيلوسوف» العائلة وعقلها المفكر بالنسبة لنا فقد كان يتولى الشرح سألناه عن سر هذا الخراب، فلم نجد لديه للمرة الأولى أى إجابة.. غرق فى صمت قاتل وتولت الحاجة أم محمود عملية الشرح واكتشفنا أن إسرائيل استولت على مدن مصرية لم أعرف أيامها سوى المدينة الأجمل فى بر مصر والتى ولدت فيها الإسماعيلية.. وتبين فيما بعد أن سكان المدن الثلاث؛ الإسماعيلية وبورسعيد والسويس، قد تم تهجيرهم إلى مدن أخرى ولم يعد ممكنا أن تزور الإسماعيلية بعد الآن.
وحدث أن خرج الناس فى الشوارع يهتفون لعبدالناصر تحت البيت عشرات الآلاف وكان هذا أول عبور لشارع البحر الأعظم تحت بلكونة منزلنا لا ينال أصحابه أى أذى منا.. بل العكس كان صحيحا.. وقفنا هالة وأنا نهلل لهذه الجموع ونصرخ بأعلى صوت باسم جمال عبدالناصر ونحن لا نعلم الهدف من هذا التجمع ولا ذلك الهتاف.. ولكن كان لهذا الرجل نوع من الكاريزما التى تخلب عقول الجميع.
وبدأت مرحلة نضج.. ووعى.. صادف ضرب مدرسة ابتدائية لزملاء لنا فى الدراسة فى مدرسة بحر البقر.. اهتزت قلوبنا لمنظر التلاميذ الذين يفترشون فناء المدرسة غارقين ليس فى بحر البقر ولكن فى بحر الدماء بفضل البقر الذين ضربوا الأطفال الذين لا يملكون سلاحا سوى الأوراق والأقلام وربما سلاح التلميذ.. لعنة الله على هذا العدو الخسيس الذى استهدف أطفالا فى أعمارنا.. ولم يكن هذا المشهد وحده المحفور فى ذاكرة الألم.. فقد كان لمشهد الطائرة المصرية التى أسقطها العدو أثر أصاب القلب بجراح لم نعرف لها مثيلا.. ولو لم تكن سلوى حجازى بين ركاب الطائرة لربما كانت الصدمة أقل وطأة.. فقد أحب جيلنا من الأطفال سلوى حجازى وعشقناها.. ومعها انجذبنا إلى رجل له حضور طاغٍ وجاذبية لا مثيل لها اسمه ماجد عبدالرازق وكان يقدم برنامجا اسمه «فتافيت السكر» كان لوجود سلوى حجازى بالطائرة أثر أليم فى نفوسنا وذلك اليوم كرهنا هذا الكيان الذى ضرب كل ما عشقناه فى مقتل وقتل أطفالا فى عمر الورود.
فى العام 1970 سافر السعدنى إلى لندن بصحبة المعلم رضا.. أو الفنان الرائع النادر التكرار محمد رضا والحاج إبراهيم نافع المعلم الذى أخذ عنه الفنان الكبير محمد رضا الكثير من شخصية ابن البلد وفى هذه الأثناء.. والسعدنى بعيدا عن الديار خرجت ذات يوم السبت الشغالة لتحضر الفول والطعمية من شارع المحطة وتعود لتضرب يدها على صدرها وتقول.. الأستاذ عبدالناصر.. مات!!