الثلاثاء 10 يونيو 2025
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أحمد إمبابي
رئيس مجلس الإدارة
هبة الله صادق
رئيس التحرير
أحمد إمبابي
روح صناع عصر النهضة

روح صناع عصر النهضة

قام الدكتور «عبدالله حمدوك» رئيس الوزراء السودانى بتوقيع بيان بإعلان مبادئ جوهرية من شأنها أن تقود إلى مجتمع مدنى علمانى يرسى دعائم ديمقراطية حقيقية فى السودان بحيث يقوم دستورها على مبدأ فصل الدين عن الدولة.. بما يعلى من شأن المواطنة فوق الطائفية.. وتصبح بموجبه الممارسة الدينية مكفولة لجميع المواطنين السودانيين.. وبالتالى احترام حرية الاعتقاد والعبادة.



والبيان الذى أعلن فى أديس أبابا وفى وجود رئيس الحركة الشعبية  لتحرير السودان  يستدعى ذكرى تاريخية لا تغيب عن الذهن وتمثل تطوراً حضارياً مهماً وجذرياً  تم فى 3 مارس 1924 بتركيا – يعيد فى التاريخ نفسه الآن – حينما أصدر برلمان الثورة بزعامة الضابط التركى «مصطفى كمال» قراراً حاسماً بإلغاء منصب الخلافة نهائياً.. وخلع السلطان الخليفة «عبدالمجيد» وطرده من تركيا نهائياً.. وإعلان الجمهورية ومن ثم فصل الدين عن الدولة.. وتفاصيل الطرد تشبه إلى حد كبير ما قام به مجلس قيادة الثورة فى مصر (1952) إزاء الملك فاروق.. فى تركيا ذهب قائد الشرطة ومعه القرار إلى قصر السلطان وطلب إيقاظه من النوم فوراً.. وقبل الفجر كانت الشرطة  قد حملته وحريمه فى سيارته إلى محطة سكة الحديد وقذفوا به فى القطار المتجه إلى سويسرا.. وهو نفس ما حدث مع الملك فاروق بعد قيام ثورة 1953 بإجباره على مغادرة البلاد.. متجهاً إلى منفاه بعد تنازله عن العرش.. مع الفارق أن فاروق عومل معاملة طيبة من قبل الضباط الأحرار.. حيث ودعوه وداعاً ملكياً.. وأدى له «محمد نجيب» وأعضاء مجلس قيادة الثورة التحية العسكرية وأطلقت له المدفعية 21 طلقة.. واستقل مع أسرته اليخت الملكى «المحروسة» متجهاً إلى ايطاليا.

أما السلطان «عبدالمجيد» الذى تم قذفه فى القطار فهناك واقعة طريفة حدثت معه فعند الحدود السويسرية توقف القطار.. ومنع دخوله سويسرا لأنه متعدد الزوجات والقانون يمنع ذلك.. وطلبوا منه العودة إلى بلاده.. فأخبرهم أن بلاده طردته.. نفته فى منتصف الليل.. فأعطوه تصريحاً مؤقتاً بالدخول إلى أن يتم الاستعلام عن وضعه الاجتماعى وعدد زوجاته بالضبط.

ومن اليوم التالى مباشرة لرحيل السلطام – حسب تعبير الكاتب الكبير محمود عوض – فى كتابه المهم «أفكار ضد الرصاص» بدأ لعاب الملك فاروق فى مصر يسيل على اللقب الرنان.. وفكر فى نقل الخلافة من شاطئ البوسفور إلى شاطئ النيل.. وضم أريكة الخلافة إلى أريكة الملك فى «عابدين» واختار أن يبدأ الترويج لذلك عن طريق دعوة الأزهر إلى مؤتمر مهم هدفه إقناع ممثلى الأقطار الإسلامية بمبايعة الملك «فؤاد» خليفة للمسلمين.. لكن الرياح لا تأتى بما تشتهى السفن.. فيظهر فى «الكادر» الشيخ «على عبدالرازق» القاضى الشرعى بمحكمة المنصورة الذى صدر كتابه اقنبلة «الإسلام وأصول الحكم» والذى يرى فيه أنه لا خلافة فى الإسلام.. هناك دين وهناك سياسة.. الدين لله والسلطان للدنيا.. الدين نقدسه.. والسياسة  نراجعها..الدين نؤمن به.. والسلطان  نحاسبه.. وتوالت منذ صدور الكتاب ردود الأفعال الصارخة والكتب التى توصمه بالكفر الصريح.. منها كتاب الشيخ المطيعى مفتى الديار المصرية الذى قال فيه أن «على عبد الرازق» طفل أعمى الله بصيرته.. أبله يعبث بالأمن العام.. فقد سعى فى الأرض فسادا.. يطعن الملوك ويعتدى على الأمة..

يدرك الملك خطورة الكتاب ويرى أن الهجوم على الخلافة هو تمهيد الدعوة لقيام الجمهورية.. ألم يحدث هذا فى تركيا؟!

إن الكتاب بمثابة ثورة.. ولابد من محاكمة مؤلفة  بتهمة الإلحاد.. وتمثل المحكمة هيئة كبار العلماء برئاسة شيخ الجامع الأزهر.. وتنتهى المحاكمة بمحو اسم «على عبدالرازق» من سجلات الجامع الأزهر والمعاهد الأخرى وطرده من كل وظيفة ومنع مرتباته من أى جهة وعدم أهليته بأى وظيفة عمومية.. دينية كانت أو غير دينية..

وتتسبب هذه الأزمة التى أثارها الكتاب فى استقالة رئيس الوزراء «إسماعيل صدقى» وثلاثة وزراء وإقالة وزير وانهيار ائتلاف وزارى وقيام أزمة سياسية ضخمة بينما يتلقى «على عبدالرازق» عقوبته فى صمت وانزوى إلى النسيان فى مرارة.. يقول فى ذلك «محمود عوض».. «أصبح على عبدالرازق بلا وظيفة ولا مرتب ولا تقدير.. والصداقة معه أصبحت تهمة.. والكتابة عنه أصبحت خطيئة.. ولكن الحرمان من الرأى هو أقصى عقوبة.. أنه حكم دائم بالحياة مع القطيع».  

ويدور الزمن دورته وتجرى فى النهر مياه كثيرة حتى ينجح الإخوان فى الوصول إلى حكم مصر.. فيرتدون عباءة الدين لإعادة تزاوج السلطة السياسية بالدين – والدين منهم براء – تمهيداً لحكم إعادة إقامة دولة الخلافة.. حتى جاءت ثورة 30 يونيو لتطيح بهم بقيادة الرئيس «السيسى».. بعد حزن مقيم فى ظل عناكب الجهامة وخفافيش الإرهاب.. عادت مصر للمصريين.. وتحررت من الظلاميين لتعود روح صناع عصر النهضة ترفرف فى سماء المحروسة.. «الطهطاوى» و«محمد عبده» و«طه حسين» و«الشيخ على عبدالرازق».