
عاطف بشاى
مصر تنهض
«مصر تنهض» تمثال حديث لأستاذ أكاديمى فى فن «الخزف» بكلية الفنون التطبيقية مصنوع من الرخام الأبيض.. وقد أطلق عليه اسم «مصر تنهض» أسوة بتمثال «نهضة مصر» الشهير الذى أبدعه أيقونة فن النحت الحديث «محمود مختار»الذى ارتبط نبوغه بثورة (1919).. والذى توافر له السفر إلى «باريس» بعد تخرجه فى مدرسة الفنون الجميلة مع أول دفعة تتخرج فى تلك المدرسة عام (1911).. وحاز على جائزة صالون «باريس».. وهى الميدالية الذهبية.. أكبر جائزة فى ذلك الوقت.. وصمم تمثال «نهضة مصر».. وتم الاكتتاب الشعبى لإقامته فى أحد ميادين «مصر».. ويقول عن مختار الكاتب «سيد هويدى» فى دراسة قيمة له أنه كان رمزًا وقدوة.. ومثلًا أعلى للكثير من الشباب ليس فقط لبلوغه مكانة إبداعية سامقة.. ولكن لاقتران اسمه أيضًا بمواقف وطنية تماست مع مشاعر ووجدان ضمير الأمة فى بداية مراحل التنوير.. ويبدو أن دوافعه الوطنية كانت أقوى من الاكتفاء بدور المبدع الذى يجسد عاطفة يبثها فى الأحجار الصلبة.. حيث كان فقه المرحلة يستدعى ضرورة تجاوز كل الأدوار المتاحة.. وقد كان «مختار» أحد أفراد التنظيم السرى «اليد السوداء» والذى كان يمثل رأس الحربة فى مواجهة المحتل الإنجليزى..
المهم أن فناننا الخزاف المعاصر وضع صورة فوتوغرافية لتمثاله – وهو مسخ شائه لفن النحت العظيم الذى كان عنوان حضارتنا ورمز وجودها الخالد.. وأبرز إنجازاتها المبهرة – على صفحات الفيس بوك وهو يقف إلى جواره مستندًا إليه فى خيلاء واستعلاء واضح ويصرح – لا فض فوه – أن التمثال يعبر عن الحالة التى تعيشها البلاد بمحاولتها الخروج من القيود.. ويدلل على ذلك بما تعرض له شخصيًا من حملة تشويه وتنمر واضح وسخرية مقذعة من إبداعه الفذ والحقيقة أن التمثال يفتقر إلى أبجديات فن النحت.. نسب مشوهة.. علاقة مختلة بين الكتلة والفراغ.. فقر فى الخيال.. رداءة فى التكوين.. قبح فى الملامح.. صدر متهدل.. وبطن منتفخ.. ووجه تعلوه تعبيرات الجمود والغطرسة.
وإذا كنا لا نعرف بعد معلومات كافية عن الجهة التى كلفت الفنان بنحته ولا مصيره وهل سيتم وضعه فى ميدان لينضم إلى كارثة تماثيل الميادين مثل تمثال «عبدالمنعم رياض» و«نجيب محفوظ» و«طه حسين» وقد كتبت مرارًا وتكرارًا عن مستواهم الفنى المتواضع.إلا أن ما سبق يطرح سؤالًا مهمًا هو: هل عقمت مصر من مثاليها الكبار حتى يعبث الصغار برموز ثقافتنا وبعظمة فن النحت الذى كان أهم رسائل أقدم حضارة للعالم.. وظل من عجائب الدنيا منذ آلاف السنين؟!
أذكر أن وزير الثقافة الأسبق «فاروق حسني» حينما تمت مواجهته بهذا السؤال أجاب: «كأنكم تطلبون عودة «محمود مختار» إلى الحياة»..
لكن الحقيقة أن مصر الولادة شهدت نماذج عظيمة من النحاتين الكبار سواء من الذين عاصروا «مختار» مثل «السجيني» بتاريخه المشرف بحصوله على وسام الاستحقاق من إيطاليا والميدالية الذهبية فى المعرض الدولى للفنون فى موسكو.. وله تمثال من البرونز لـ«أحمد شوقي» فى روما.. أو من الأجيال التالية مثل «آدم حنين» (الذى أسس سمبوزيوم أسوان الدولى لفن النحت) و«زوسر مرزوق».. و«عبدالهادى الوشاحي» الذى تم تسجيل اسمه فى موسوعة «كامبريدج» البريطانية كأحسن نحات دولى لعام 2001 وكانت له مقتنيات فى متحف الفن المعاصر بأسبانيا.. والفن الحديث بميلانو.. وحاصل على جائزة الدولة التقديرية فى الفنون.. وتصريحاته التى أدلى بها قبل وفاته فى عام 2013 تعكس حالة إهمالنا لأهمية وقيمة فن النحت وخاصة فيما يتصل بتماثيل الميادين حيث يرى أن الموجود منها حاليًا تسبب تلوثا بصريا وازعاجا وتدنيا فى المستوى الفنى.. وتصريحه الأخير والشهير الذى يقول فيه أنه لو لم يمارس فن النحت لكان مصيره نار جهنم لأن الإبداع نعمة ومنحة من الله للبشر... كما أن العين يجب تدريبها على رؤية الأشياء الجميلة وهذا دور المبدع.. يعتبر ردًا حاسمًا على تنامى التيارات السلفية والوهابية بعد وصول الإخوان للحكم قبل ثورة يونيو وتصاعد نشاط التكفيريين الذين وصفوا الحضارة الفرعونية بالعفن ونقبوا تمثال أم كلثوم بالمنصورة وطالبوا بتحطيم التماثيل باعتبارها أوثانا.
لكن بصيصًا من أمل رقراق يبزغ من خلال أجيال طالعة من النحاتين الشباب مثلت بالنسبة لى مفاجأة سارة بمستواها الفنى الرفيع تؤكد أن شموع التنوير لم تنطفئ وتطوق إلى طرد خفافيش الظلام وعودة الفن الراقى بقيادة سنابل ومواهب جديدة من خريجى كلية الفنون الجميلة بالمنيا.. تلك المدينة التى سبق أن شهدت تحطيم التكفيريين لرأس تمثال «طه حسين» فى مسقط رأسه.
وتتمنى «منة عبدالعزيز» بمشروع تخرجها ذلك التمثال البديع (القربان الجميل) ألا يكون مصيره مخازن الكلية!