الأحد 8 يونيو 2025
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أحمد إمبابي
رئيس مجلس الإدارة
هبة الله صادق
رئيس التحرير
أحمد إمبابي
« عرابى» والجيش والسياسة (3)

« عرابى» والجيش والسياسة (3)

لدينا قضايا نتداولها فى الشارع السياسى، هى وليدة فكر استعمارى يعتنقها البعض دون تعقل أو فهْم، يتم ترديدها دون تحليل لنشأتها ومضمونها، ومن تلك القضايا ما يتم إثارته من وقت لآخر بفصل (الجيش عن السياسة)، الذى تُعبر عنه بعض القوى السياسية بأن للجيش (ثكناته)، قاصدين مَهامه العسكرية دون تدخُّل منه فى أى شأن آخر، ولكن. عندما تحدُث الأزمات الكبرى نرى هؤلاء أول من يصيحون ويجهرون بنزول الجيش أو وقوفه لإنقاذ البلاد والعباد من براثن السياسة المتقلبة.



 

الحقيقة، أنا من الذين يرفضون تمامًا أن يكون العسكريون مجرد آلة احترافية للعمل الحربى فقط؛ لأن أى قرار يتخذ بشأن أى تحرُّك عسكرى هو من رحم فعل سياسى، ولتوضيح أكثر؛ فإن دول العالم الأول أو المتحضر عندما حاول أن يطبق ما أطلق عليه (الديمقراطية) كان شروعه الأول من خلال عملية (التجنيد) التى أوصى بها علماء الاجتماع السياسى الذين وجدوا أن إشراك عامّة الشعب فى الجندية ولا تكون مقصورة على طبقات بعينها، مثل النبلاء من أهل الحُكم والسُّلطة، ثم توسعت لتشمل أولاد الأعيان وأصحاب رءوس الأموال، كون لهم مصالح يجب أن تتم حمايتها وليس حماية (العرش) لأهل السُّلطة فقط، ومع توسيع رقعة الحروب لحماية أراضى الدول وفرض السيادة لكل منها عبر حدود تم الاتفاق عليها فى دساتير تم وضعها وأقرّوها، هنا ظهر معنى (الوطن) وليس السُّلطة الحاكمة أو المتحكمة فى وسائل الإنتاج، سواء زراعة أو صناعة، ومع دخول الثورة الصناعية الأولى ظهرت أهمية الجيوش الوطنية من كل فئات الشعب التى تعيش على أرض واحدة.

 

مع كل تقدُّم بَشرى كانت الجيوش الوطنية هى القاطرة التى تقود المسيرة؛ لأنها المكون الجامع لكل الطبقات أصحاب الحقوق، كبرت أو صغرت، ولذلك كانت هى قاطرة الديمقراطية، وحتى الآن هى الضامنة لها وتعمل على صيانتها من وقت لآخر، ولكن ما الذى حدث ليجعل تلك الدول الكبرى أو المتقدمة التى تؤمِن بدور الجيش فى السياسة هى التى تصدر معنى مغايرًا خارج أراضيها للغير، وكيف تنامَى الوجود السياسى فى جيوشها حتى صار لديهم فى بعض الأحيان (راسين) يتحكمان فى جيوشهم، أحدهما سياسى لا يحترف العسكرية مهنيّا ليجعلوا منه الواجهة التى يريدون القول من خلالها أنهم يفصلون بين الاحترافية المهنية العسكرية وبين الأداء والاحتراف السياى…

 

كانت بداية هذا العصف الفكرى الأوروبى الكاذب فى التناوُل والتطبيق قد تم مع ظهور الميول الاستعمارية وأطماع تلك الدول الكبرى فى مقدرات وامتيازات دول العوالم الأخرى، إلّا أنها اصطدمت بأبناء تلك الدول الذين انخرط بعضهم فى الجيش ليمثلوا حائط صد للاحتلال والاستعمار بقدر ما أتيح لهم؛ حيث إن جيوشهم كانت مختلطة ما بين مرتزقة وأرباب للغزوات السابقة التاريخ.. المهم؛ أن جيوش العالم الأول وأصحاب الكلمة السياسية العُليا فى بلدانهم حاولوا طمس ومحو أن يكون للسياسة وجود فى صفوف جيوش العوالم الأخرى؛ لأنهم يعلمون أنها ستطلعهم أكثر على كواليس المجهول الذين يريدون إخفاءه.

 

فى مصر كانت بداية تلك القضية مع حركة (عرابى) الذى حاول أن يكون الجيش القاطرة التى تُبصر الشعب بحقوقه وأهمية أن تكون له نوافذ مُعبرة عن تطلعاته يكون السَّنَد لها هو الجيش، ولذلك عندما فكّر فى أن يقود ثورة ضد الخديوى الموالس مع قوى خارجية لحماية عرشه، نادَى بإعطاء حقوق للضباط المصريين داخل جيشهم مثل الأجانب الموجودين معهم، وكان تفكير «عرابى» أن الضباط الوطنيين هم الأحرص على بلادهم وتطوير جيشهم ليتمكنوا من أن يكونوا قاطرة التقدُّم، ولذلك عندما طلب بزيادة عدد المصريين فى الجيش طالب أيضًا بوجود أول برلمان مصرى يمثل الحياة النيابية، وأنه بذلك يكون حقق طرفَى المعادلة: جيش وطنى قوى، ومسرح سياسى يطالب بالحقوق ويرسى الواجبات.. وكان له ما أراد، وبَعدها وجد أن البرلمان فى أول ممارسة له يحتاج إلى من يعضده ويدفعه فأسّس الحزب الوطنى فى الجيش كأول حزب سياسى حتى يشجع المجتمع بأن يقلدوه وينشئوا أحزابًا كُثُر تقوّى الحياة السياسية وتدعمها، وحزب عرابى الأول هو ما مكنه من أن يكون أداة ضغط يقوم من خلالها بالمطالبة بإقالة وزارة لا تعمل لصالح الشعب ليأتى بوزارة وطنية متعاونة مع أهداف الجيش فى التقدم العسكرى والسياسى على حد سواء، إذن؛ الجيش بحركته وثورته ضد ما ليس وطنيّا هو صاحب إرساء اللبنة الأولى فى وجود وتفعيل الحياة السياسية والنيابية بمصر عام 1881م.. 

 

ولكنْ، اكتمال شكل الدولة المصرية بإقامة حياة نيابية يدعمها الجيش جعل الخديو (توفيق) يتحسّس مجلسه على العرش، فاستنجد بدول كانت توحى بأنها حامية له، والحقيقة أنها كانت طامعة من خلف حاكم ضعيف فجاءت تجر أساطيلها وهى تعلم أن وزير الحربية المصرى الجديد (عرابى) لم يُكمل شهورًا فى منصبه، وهو ما لم يمكنه من تقوية الجيش وتطويره خلال تلك الفترة القصيرة، فانقضت على ميناء الإسكندرية ترسو أساطيل إنجلترا وفرنسا معلنة أنها أتت لحماية الخديوى بناءً على اتفاق بينهم، ولكن الجيش تحصّن فى قلاع حول الميناء لحماية مصر وأنزلوا بهم هزيمة بَحرية فى 26يوليو 1882م بـ«أبوقير» انسحبت على أثرها أساطيل فرنسا خوفًا من أن تعيش هزائم متكررة كما حدث مع (نابليون بونابرت) من قبل فى حملته على مصر، وظلت إنجلترا متربصة على الحدود البحرية بالإسكندرية وتطالب الخديوى بأن يصدر أوامره للجيش المصرى بترك القلاع بالميناء والانسحاب.