ثورة «القوى المدنية» على دستور «السلفية»

اسماء نصار
لم يعد الخلاف فى الجمعية التأسيسية لكتابة دستور ما بعد الثورة مقصورا على بعض المواد التى يمكن التفاوض حولها بين تيار الإسلام السياسى الأكثر تشددا والتيار الليبرالى الذى يحاول الحفاظ على مدنية الدولة، إنما تعدى الأمر ذلك ليصل إلى شكل الدولة ومرجعية التشريع بها.
فبينما يسعى التيار السلفى إلى مرجعية مستترة بالأزهر الشريف يهيمن من خلالها بأفكاره على كافة التشريعات والقوانين، يرى ممثلو التيار المدنى أن ذلك إقحام للأزهرالشريف فيما هو سياسى واستنساخ النموذج الإيرانى بصيغة سنية.. وأن الأصل فى الأمور أن «السيادة للشعب الذى هو مصدر السلطات كافة ولا مجال لأى سلطة- مهما كان قدرها فى قلوب المصريين - أن تكون فوق السلطات الشرعية المنتخبة».
شهدت الساعات الأخيرة سعيا من قيادات القوى المدنية والمعارضة لمواجهة خطر الصياغات المتطرفة والعبارات الملغمة التى تهدد الحريات العامة وحرية الصحافة والاعتقاد وحقوق الأقليات والمرأة والطفل.. تجلى ذلك فى الاجتماع الذى دعا له د. محمد البرادعى - مؤسس حزب الدستور - لقيادات القوى المدنية والمعاضة لبحث تنسيق المواقف من قضية كتابة الدستور.. الاجتماع الذى أجرى الثلاثاء الماضى بمنزل الدكتور أحمد البرعى وزير القوى العاملة السابق ناقش وجهتى نظر الانسحاب نهائيا من التأسيسية أو الاستمرار المشروط بالاستجابة لمطالب القوى المدنية بحذف وتعديل بعض المواد التى يسعى تيار الإسلام السياسى لفرضها.
هذا الاجتماع جاء بعد اجتماع عاصف للتأسيسية بين التيار الإسلامى والمدنى حدثت به مشادات بين الداعية السلفى ياسر برهامى وعمرو موسى بسبب المادة 9 التى تتعلق بالذات الإلهية التى يريد السلفيون فرضها على دستور مصر.. اذ تنص على أن «الذات الإلهية» مصونة يحظر المساس أو التعريض بها وكذا ذات أنبياء الله ورسوله جميعا. وكذلك أمهات المؤمنين والخلفاء الراشدون. وكان رأى التيار المدنى أن الله عز وجل والذات الإلهية لا تحتاج لمواد دستورية لصونها، وهنا ظهرت النوايا الخفية للسلفيين فى التأسيسية.. فهم يرغبون فى مواد دستورية تهيئ مصر لأن تكون دولة دينية تماما حتى لو لم يكن المجتمع المصرى مهيأ فى هذا الوقت لتشريعات وقوانين وهابية.. فمع الوقت سيكون كذلك.
السلفيون بدأوا تبرير رغبتهم فى مثل تلك المواد بحجة أن هناك هجمة علمانية وإلحادية على مصر ترغب فى السماح بزواج المثليين، وتحل الزنى وغيرها وأن القانون غير كاف ولابد أن ينص الدستور على ما يمنع ذلك من خلال التشريعات الإسلامية.
فضلا عن فتح باب الجدل مرة أخرى حول المادة الثانية من الدستور اذ كشفوا عن رغبتهم فى تحويلها من «مبادئ الشريعة» إلى «أحكام الشريعة».. ولم يظهر فى تلك الجلسة موقف الإخوان المسلمين من هذا الارتداد الشديد، فيما اعتقد أنه تم التوافق حوله وبدا كأنهم أعطوا الضوء الأخضر للسلفيين لخوض تلك المعركة.. فى تلك الجلسة العاصفة لوح عدد من أعضاء التأسيسية المنتمين للتيار المدنى منهم عمرو موسى وأيمن نور بتقديم استقالاتهم وتطور الأمر للتلويح بالكارت الدولى وكادت التأسيسية أن تنفجر حتى تراجع السلفيون لخطوات للخلف وتم الاتفاق على الاجتماع مرة أخرى الأربعاء المقبل لتحديد مصير المواد المختلف حولها وإعادة صياغتها بما تتوافق عليه كل التيارات.
موسى ونور انتقلا من اجتماع التأسيسية مساء الثلاثاء الماضى للاجتماع الذى تم فى منزل الدكتور «أحمد البرعى» الذى دعا إليه الدكتور البرادعى وحضره حمدين صباحى عن التيار الشعبى وعبدالغفار شكر عن حزب التحالف الشعبى وزياد بهاء الدين عن المصرى الديمقراطى الاجتماعى ومنى ذو الفقار وأحمد سعيد عن المصريين الأحرار، وكان محور الاجتماع الدستور.. وقد تداولت وسائل الإعلام أنباء عن أن هذا الاجتماع فشل فى تكوين تكتل التيار المدنى لإسقاط دستور الإسلاميين بالانسحاب وهذا ما نفاه لروزاليوسف الدكتور أحمد البرعى حيث قال لنا: الاجتماع كان موفقا للغاية وكل ما نشر عن عدم التوافق عار من الصحة، بالفعل تحدثنا عن الانسحاب من التأسيسية والحديث كان مطروحا قبل اجتماعنا أصلا ولوحت به بعض الشخصيات داخل التأسيسية، ولكن الاجتماع لم يكن لفرض الانسحاب على أعضاء التأسيسية ولكن للتشاور وسماع وجهات النظر المختلفة والبحث عن مخرج للمأزق الذى نحن فيه الآن بصدد الدستور.
البرعى أوضح لنا أنهم اتفقوا خلال الاجتماع على الخطوات التى ستتخذ لإنقاذ دستور مصر ومنها مسيرة شعبية للمستشار حسام الغريانى رئيس اللجنة لتسليمه مطالبهم من الدستور القادم وأنه فى ضوء مدى الاستجابة لتلك المطالب سيتم تحديد الموقف التالى فإذا لم يستجب ستنسحب الأحزاب التى شاركت فى تلك الاجتماعات من التأسيسية.
«أيمن نور» - عضو الجمعية التأسيسية وأمين عام حزب المؤتمر المصرى وأحد الذين هددوا بالاستقالة- قال: نحن لا نرغب فى الانسحاب من التأسيسية ولكننا لا نرغب أيضا فى المشاركة فى دستور يفرض فيه تيار معين وجهة نظره على باقى التيارات.
وأضاف: التأسيسية كانت تعمل بشكل جيد ومتوازن ولم يكن هناك اختلاف كبير فى وجهات النظر حتى الثلاثاء قبل الماضى.. حينما ألقى الشيخ حسن الشافعى ممثل الأزهر فى التأسيسية كلمة عن مفهوم للشريعة الإسلامية متسامح جدا وعاقل.. وأن مبادئ الشريعة أعم وأشمل من أحكام الشريعة وإذا بنا نفاجأ بهجوم شرس على الرجل من قبل التيار السلفى وفى طيات الهجوم جاءت عبارات لتكشف عن بعض النوايا الصادمة ولم تكن متوقعه وأن هناك من يسعى داخل التأسيسية لإصدار دستور يعبر عن أفكاره وليس أفكار الجميع، وهذ أصاب الناس داخل التأسيسية بالصدمة ومن يومها بدأت مشاعر القلق تتسرب داخل وخارج التأسيسية.
حديث أيمن نور معنا صار فى نهايته فى اتجاه أن التوافق فى الفترة القادمة هو ما يرغب فيه لأنه من وجهة نظره على عكس ما يرى البعض أن تشكيل اللجنة ليس سيئا وأن الأزمة فقط فى تشدد البعض.. بالإضافة إلى أنهم قاموا بمجهود كبير منذ بداية التأسيسية ومن الصعب أن يذهب هذا المجهود هباء وهذا ما أكده نور أيضا للبرادعى خلال الاجتماع.. حيث تبنى وجهة نظر أنه لا يعيب ولا يسىء التيار المدنى الاستمرار فى التأسيسية فى ظل هذا التشدد ولكن ما يسىء إليه هو المنتج النهائى إذا لم يخرج متوازناً وأنه مازال يأمل فى أن يعود هذا التوازن للتأسيسية .
د.وحيد عبدالمجيد خلال حديثه مع روزاليوسف أطلق على تلك الجهود لإعادة التوازن للتأسيسية «جهود المحاولة الأخيرة لإنقاذ الجمعية» وأن الأسبوع المقبل سيوضح إذا ما كانت تلك الجهود ستؤتى ثمارا أم أنهم سيكونون مضطرين لخيار الانسحاب.
عبدالمجيد قال لنا: إن الخلافات الحادة بين التيارين تتمحور حول علاقة الدين بالدولة والحريات والحقوق العامة وإنه لن يقبل أن يصدر مشروع دستور بالتصويت على الأعمدة الرئيسية للدستور وأنها لحظه فارقة.. إما أن يحدث توافق وإما ستحتم عليه المسئولية التاريخية الانسحاب حيث إن هناك مواد وأفكاراً لا يمكن المساومة عليها فى دستور سيحدد شكل مصر ومستقبلها فلا يمكن مثلا القبول بأحكام الشريعة بدلا من المبادئ التى من المفترض أنه تم التوافق عليها.
عبدالمجيد أوضح لنا أن موقف الإخوان لم يكن واضحا مما يطرحه السلفيون.. لذلك طالبوهم فى الاجتماع التوافقى القادم بموقف واضح ومحدد بلا لبس أو غموض.
وفيما قال لنا «طلعت مرزوق» - عضو الجمعية التأسيسية عن حزب النور وعضو لجنة الحريات والحقوق العامة - أننا علينا أولا أن نفسر ما تعنيه كلمة مدنية ثم نقول بعدها إذا كنا نتفق عليها أم لا، فهل المدنية ضد الكهنوتية أم معها، هل المدنية ضد العلمانية المتطرفة التى تمنع الحجاب وتحلل الزنى أم معها؟ مصر دولة دينها الإسلام والشريعة الإسلامية مصدر التشريع ونحن نقول بمرجعية الأزهر للاحتكام عند الاختلاف..كان أن أوضح لنا داود الباز عضو -التأسيسية- وأستاذ القانون الدستور بجامعة الأزهر إنه رفض المادة الخاصة بالذات الآلهية.. لأن وضعها فى الدستور معناه تحصين أى حاكم مستبد من أن يحاسبه شعبه إذا لم يراع مصالح هذا الشعب.
وعلى النقيض من هذا الموقف قال لنا الباز: إن إصرار القوى المدنية على مبادئ الشريعة وليس الشريعة أو أحكامها هو تمييع للقضية وتسويف لتطبيق الشريعة الذى سيتم فى مصر لا محالة.. لأن الشعب تواق لذلك ولأن مصر دولة إسلامية ولن ينصلح حالها إلا بتطبيق الشريعة وأن الدستور لا بد أن يكفل إقامة دور العبادة لأصحاب الديانات السماوية فقط.. أما الأديان غير المعترف بها فلا يحق لهم ممارسة شعائرهم وبناء دور عبادة وهو ما ترفضه بعض التيارات المدنية لأنه يتناقض مع حرية الاعتقاد والفكر التى ينص عليها نفس الدستور.
سألنا يوحنا قلتة عضو الجمعية التأسيسية عن الكنيسة عن موقف الكنيسة مما يحدث فى التأسيسية وعما إذا كانت ستنسحب أم لا؟ فأجاب أنهم ينسقون مع الأزهر الشريف وأنها لن تأخذ موقفاً إلا بالتوافق معه وأن الكنيسة تفتح حواراً ودياً وصريحاً مع جميع الأطراف وهناك صياغات ومواد لم تكتمل بشكل نهائى.. لذلك الحكم الآن قد يكون متسرعا وأن الكنيسة ليس لديها أى نية للانسحاب من التأسيسية إطلاقا على حد تعبيره.
عمرو حمزاوى قال لـ«روزاليوسف» إن رؤيته من البداية أنه من الأفضل إعادة تشكيل الجمعية التأسيسية ولكن فى ظل استمرارها بهذه الصورة ليس أمامهم إلا الاشتباك بصورة واضحة للدفاع عن الحريات وعن مدنية الدولة.. فلابد من عمل جماهيرى مشترك فى الفترة المقبلة لأن الدستور مسألة حياة وهناك مواد تمثل خطراً كبيراً مثل مرجعية الأزهر السياسية ورفض حظر الإتجار بالبشر وهذا يعد تحايلاً على المواثيق الدولية التى وقعت عليها مصر.
د.عمرو عبدالرحمن عضو حزب التحالف الاشتراكى قال لنا: سواء حلت التأسيسية أو استمرت فسنظل فى نفس المتاهة لأن الإخوان هم من يسيطرون على مقاليد الأمور فى البلاد الآن وإذا حلت التأسيسية سيعيد تشكيلها الرئيس مرسى والتشكيل الجديد من رأيه أنه سيظل المسيطر على التأسيسية هو التيار السلفى وتمثيله سيظل على ما هو عليه.. وحيث إن التيار السلفى هو سبب الأزمه سنظل فى تلك الحلقة المفرغة.. أما الإخوان فسيحافظون على التمثيل السلفى لأن تحالفهم الانتخابى مع السلفيين سيحتم عليهم أن يعطوا الضوء الأخضر للسلفيين فى التأسيسية، والإخوان ليس لديهم مشكلة فى ذلك لأنهم لم يكن لديهم أبدا تصور واضح لشكل الدولة وما يهمهم أكثر ضمان الانتخابات القادمة، بينما قضية السلفيين هى تديين الدولة وجعلها إسلامية.
عبدالرحمن يرى أن القضية الأساسية أنه حتى لو خرج هذا الدستور للنور فلن يكون قابلا للحياة ولن يحترم من قبل أحد نتيجة لاحتوائه على مواد كثيرة لن ترضى قطاعات كبيرة من المجتمع.