الأربعاء 7 مايو 2025
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري
رئيس مجلس الإدارة
هبة الله صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري

من قتل رجاء عليش؟

من قتل رجاء عليش؟
من قتل رجاء عليش؟


كتب: خيرى حسن
على قبرى ستكتب تلك العبارة:
(هنا يعيش إنسان.. مات أثناء حياته!)
إذا كنت شاعرًا أو روائيّا أو قاصًّا أو فنانًا أو كاتبًا، فدعنى- بكل مودة - أطلب منك، ألّا تُكمل معى القراءة؛ لأن السطور التالية تحمل بين حروفها سيرة، ومسيرة، ومأساة، وملهاة، كاتب مثلك أحب الثقافة وتعايش معها، وعشق الكتابة، وعاش لها، واقترب من الناس بحب، وود، وصفاء سريرة، لكنهم كعادة بعض البشر تجاهلوه، وخذلوه، وفى مرّات كثيرة هاجموه، ولم يبادلوه تلك المشاعر المرهفة الصادقة، التى هو عليها، وظلوا يطاردونه بالنظرة، والكلمة، واللمز، والغمز، والسخرية، أو هكذا اعتقد، حتى جعلوه يفقد اتزانه، وتماسكه، ورغبته فى الحياة كلها، الأمْرُ الذى جعله كثيرًا ما تجول بين الطرُقات خائفًا، وجلس فى المقاهى تائهًا، وقرأ صحف الصباح صامتًا، ونام على سريره متوترًا، وقضى يومه يائسًا، بعدما شعر بالحصار يشتد، ويمتد، ويلتف حوله من كل جانب.
وبسبب هذا كله أو بعضه أستأذنك- للمرّة الثانية- ألّا تُكمل القراءة؛ حتى لا تصدمك الأحداث المؤلمة، وتُحزنك النهايات المؤسفة، التى مرّت، وألمت بالكاتب الروائى محمد رجاء عليش (-1932 1979م)، الأمرُ الذى قد يؤدى إلى اهتزاز ثوابتك الفكرية، وسقوط أركانك الإبداعية، وانهيار قواك النفسيّة، لكن إذا ما دفعك الفضول بدواعٍ إنسانية لمواصلة القراءة، فعليك أن تتسلح بالهدوء، والصبر، والقوة، والتماسُك، وأنت تُعايش وتتعايش مع الواقع والخيال، والليل والنهار، والكاتب والكتابة، والموت والحياة، والعدل والمساواة، والحلم حتى يصل إلى منتهاه، فى مشوار حياة رجاء عليش، تلك الحياة التى بدأت مثل أى حياة، لكنها انتهت للأسف بمأساة، رجاء عليش فى النهاية استسلم للضغوط النفسية، واليأس. والإحباط، وتجاهل الوسط الثقافى له، وقرر.. قرر.. الانتحار!..


فى الساعة الواحدة والنصف من صباح يوم السبت 21أكتوبر من ذلك العام، وبالتحديد فى شارع بغداد، أطلق على نفسه 4 رصاصات من مسدسه الشخصى، لم تنفذ منها إلّا رصاصة واحدة اخترقت رأسه، من الجهة اليسرى، فحولتها إلى أشلاء مبعثرة داخل سيارته- (71760) ملاكى القاهرة، كانت مازدا حمراء موديل 1978م ـ؛ ليودع الكتابة التى عاش لها، والحياة التى أحبها، بعدما تحوّلت حياته من الهدوء إلى الضجيج، ومن النور إلى العتمة، ومن الحب إلى الكُرْه، ومن السَّكينة إلى الضغينة، ومن السلام إلى الحرب، ومن النعيم إلى الجحيم. باختصار.. أصبحت حياته دراما إنسانية دراماتيكية، مكتملة المَعالم والتضاريس.. لكن ما الأسباب التى سارت بالأحداث إلى ما صارت إليه؟.. يحدثنا هو عنها فى مقدمة مجموعته القصصية الوحيدة التى أصدرها وحملت عنوان «لا تولد قبيحًا».
يقول معبرًا عن نفسه، وما يعانيه ويشعر به فى مجمل حياته: «القبح هو الفكرة المسيطرة تمامًا على حياتى ومشاعرى، أبدأ منه وأنتهى إليه؛ فهو محطة البدء والوصول بالنسبة لى. القبح هو ذلك الرماد الأسود المتراكم فوق كل ذرات وجماليات ومُتع حياتى يصبغها بلونه القاتم الرمادى». ثم يلخص مشكلته مع القبح قائلًا: «سأحاول أن أحلل ظاهرة القبح كما عشتها بنفسى، فلا أحد فى هذا العالم عاش القبح كما عشته، أحَسَّ بفظاعاته، ودمويته كما أحسستُ بها، لقد اقتربت من القبح كما لم يقترب إنسان فى هذا العالم.


الساعة الآن الرابعة والنصف من مساء يوم حار جدّا، فى وسط القاهرة، أسير فى طريقى إلى نقابة الصحفيين؛ حيث موعدى مع الكاتب الصحفى مصطفى عبدالله رئيس تحرير صحيفة أخبار الأدب القاهرية الأسبق، التى تصدر عن مؤسسة أخبار اليوم؛ للحديث عن صديقه الأديب الراحل رجاء عليش، المصعد توقف بى أمام الدور الرابع، لمحته من بعيد فى نهاية القاعة، بعد لحظات جلسنا سويّا، نتحدث لدقائق فى أمور شتّى منها الاجتماعى والسياسى وبالطبع الثقافى، حتى وصلنا إلى نقطة البداية، ونقطة البداية والنهاية فى حديثنا كانت: رجاء عليش.
قال مصطفى عبدالله: «يا صديقى.. دعنى فى البداية أقول لك، إننى أنتظر وصول الشاعر «فريد أبوسعدة» الذى سيأتى بعد قليل؛ لوجود موعد سابق بيننا». هززت رأسى ببطء ولم أعلق. بعد دقائق جاء عامل البوفيه يخبرنا أن موعد فترة عمله أوشك على النفاد، قال ذلك وهو يضع أمامنا فنجان قهوة وكوب شاى، وزجاجة مياه صغيرة، ومعها نظرة حزينة من ملامح وجه عشرينى أرهقته الحياة، رُغْمَ حداثة عمره. أومأتُ برأسى لتحية العامل البائس، التائه، الحزين، فلم ينتبه لتحيتى، وابتسم له مصطفى عبدالله، بعدما شعر بما شعرتُ به، وأخرج من جيبه حافظة نقوده، ودفع له الحساب. ثم وجّه كلامه لى لحظة انصراف العامل قائلًا: «عندما يأتى فريد أبو سعدة، سوف نصعد جميعًا للمطعم فى الدور الثامن. اتفقنا». قلت: أبحث وأفتش فى مشوار حياة الأديب الراحل محمد رجاء عليش، هذه الحياة التى انتهت بمأساة، مؤلمة، ومرعبة، وحزينة، ولقد علمت من صديقى الأديب مصطفى عبيد أنك أول من ساند موهبته، عندما نشرت له فى صفحة «أخبار الأدب» التى كانت تصدر صباح كل يوم أربعاء فى «الأخبار» خبرًا عن روايته (كلهم أعدائى)، كان ذلك فى أوائل عام 1979م ـ وهذا النشر والاحتفاء به جعله يتراجع عن فكرة الانتحار ويؤجلها عدة مرّات.. أليس كذلك؟ هز رأسه قليلًا، وشرد ببصره للسماء من النافذة التى أمامنًا طويلًا وكأنه يعيد أمام عينيه شريط ذكريات قديمة، وجميلة فى نصفها الأول، وحزينة، ومؤلمة، فى نصفها الأخير.


«فليرحمنى الله من قارئ يُسطّح كلماتى، ومن ناقد بلا ضمير.. ومن مطبعة لا تدور.. ومن مجتمع كبحيرة الزيت».
«رجاء عليش- كلهم أعدائى»
بهذه الكلمات البسيطة لخص «عليش» مأساته مع الكتابة والكُتّاب، والنقد والنقاد؛ حيث كان يتوجس خيفة من القارئ الذى لا يفهم كتاباته، ومن الناقد الذى لا يهتم بما يكتبه، ويتجاهل إبداعاته، ولا ينشر عنه ولو خبرًا صغيرًا؛ قد لا يتجاوز عدة أسطر قليلة فى مطبوعة محدودة الانتشار، سواء بالمدح أو بالقدح. هذا التجاهل بدأ يتسرب إلى داخله مُحَمّلًا باليأس، والغضب، والإحباط، ما جعله يفكر فى التخلص من حياته ويقرر الانتحار. فى مجموعته القصصية (لا تولد قبيحًا) نجده فى القصة السادسة منها، التى حملت عنوان «المنتحر» يكشف عمّا بداخله من رغبة مسبقة للانتحار على لسان بطل القصة قائلًا:
«المنتحر يُصفّى كل علاقاته القديمة.. يقطع كل الخيوط التى تربطه بأناس بعينهم فى هذا العالم؛ حتى لا يرحل عن الدنيا مدينًا لأحد؛ حتى لا يسبب إزعاجًا لأحد، هذا كله يحتاج منه إلى أن يخطط لهذا العمل الخطير، قبل فترة مناسبة».. وبالفعل خطط «عليش» للانتحار أكثر من مرّة، وفى كل مرّة يتراجع، عندما يجد ما يُسعده، ويُفرحه، ويُعطيه الأمل فى نهار جديد، وابتسامة جديدة، مثله مثل أى مبدع، يعيش على أمل أن ينتبه لإبداعه النقاد ومحررو النوافذ الأدبية، والصحف اليومية، والدوريات والمجلات الثقافية، وتنشر أعماله، وأفكاره، وكتاباته للناس، وهذا ما فعلته صفحة «أخبار الأدب» التى كانت تصدر صباح كل أربعاء فى أواخر السبعينيات من القرن الماضى، والتى رحّبت واستقبلت واحتفت بكتاباته، وكانت سببًا فى تأجيل انتحاره ثلاثة أشهر كاملة.


الساعة الآن الواحدة ظهرًا، من يوم الثلاثاء 15مايو من العام نفسه، مصطفى عبدالله محرر الصفحة الثقافية يقف فى بَهو المبنى يحمل أوراقًا وقصاصات صحف قديمة، وكتاب «الأيام» لـ طه حسين. أحد أفراد الاستعلامات يلمحه من بعيد، فيترك مكانه مسرعًا ويأتى إليه: «أستاذ مصطفى هذا الكتاب جاء به صباح اليوم شخص ما، وسأل عنك ثم تركه لك». ألقى عليه نظرة سريعة وهو يستقل المصعد فى طريقه لمكتبه بالدور الرابع، فوجدها رواية تحمل عنوان «كلهم أعدائى» واسم المؤلف رجاء عليش. وضعها أمامه ثم انهمك فى مهامه اليومية؛ لتنفيذ وتوضيب الصفحة ثم عاد إلى بيته ومعه الرواية.
هكذا يتذكر مصطفى عبدالله تلك الأيام البعيدة التى تعرَّفَ فيها للمرّة الأولى على إبداع هذا الكاتب، ثم يكمل قائلًا: «عدتُ إلى بيتى؛ حيث كنت أسكن فى مدينة نصر، وجلستُ إلى مكتبى لقراءة هذا العمل الذى لفت انتباهى بعنوانه المختلف، واستغربت، واندهشت، من حروفه الأولى فى الإهداء التى لم تتعد عدة كلمات قال فيها: «وزّعت شبابى على نساء لم يحببننى، ومنحت صداقاتى لرجال خانونى، وخسرت على طول الخط».. من هذه الكلمات أدركتُ أننى أمام أديب مرهف المشاعر، يتعذب بإنسانيته، يشعر بالغبن والاضطهاد من الجميع، فى حلقه مَرارة، وفى قلبه ألم، وفى عقله شىء ما، وبالفعل بدأتُ رحلتى مع قراءة الرواية التى كانت تقريبًا فى حدود 600 صفحة من الحجم المتوسط ورقم إيداعها بدار الكتب 1513 - فبراير1979م، وانتهيت منها بعد أيام قليلة، وعندما عدت للصحيفة نشرت عنها خبرًا من عدة سطور، مصحوبًا بغلاف الرواية؛ ليكون لهذه السطور مفعول السّحْر، وكأنها دون أن أدرى كانت الأمل الذى جعله يؤجل للمرّة الأولى قرار انتحاره الذى كان قد أعده مسبقًا».. هنا توقف مصطفى عبدالله قليلًا وارتشف القليل من فنجان قهوته، ثم لمح من بعيد الشاعر فريد أبوسعدة يترجّل أمام باب «الأسانسير» بعدما خرج منه يتكئ على عصاه ويبحث بعينيه عن مكانه فى القاعة. وقف «مصطفى» منتصبًا، بعدما وضع الفنجان أمامه، وأشار له ليرانا، وقد كان. بعد لحظات جلس «أبوسعدة» معنا، بعدما ألقى التحية والسلام علينا، ثم قدمنى له، هز رأسه وقال: «نعم أعرفه اسمًا» ، وسلم على مُرَحّبًا. قال مصطفى: «صديقنا هذا صحفى يقوم برحلة بحث عن حياة أديب مات منتحرًا فى أواخر السبعينيات!». امتقع لون وجه «أبوسعدة» قليلًا وهو يهز رأسه مستندًا على عصاه ثم قال موجهًا كلامه لى: «من هذا الأديب؟». قلت: رجاء عليش. قال: «صاحب رواية «كلهم أعدائى» والمجموعة القصصية «لا تولد قبيحًا»؟». رد مصطفى عبدالله مبتهجًا: هل تعرفه؟ قال: «عرفته كأديب فقط، ولم أعرفه شخصيّا، وكان حادث انتحاره لافتًا وحاضرًا بقوة فى المشهد الثقافى عام 1979م واستمرت حكايته نتداولها، ونسمعها، ونتابعها، لعدة سنوات»، ثم بعد لحظات سكت، وكأنه يستحضر روح الشاعر بداخله ثم بتأثر وضح على ملامحه، قال: «كُثُرٌ هم الكُتّاب الذين تخلصوا من حياتهم بالانتحار فى مصر والعالم».

بعدما جلسنا سويّا فى مطعم النقابة، عدتُ مع مصطفى عبدالله إلى زمن الأديب رجاء عليش الذى عاشه معه. قال: «من البداية أدركتُ أننى أمام أديب مختلف، يحمل بداخله مشاعر جارفة، وقوية، ومرهفة، ومتضاربة، ومتناقضة فى الوقت نفسه، وهذا ظهر لى من خلال المقدمة التى تحدثنا عنها من قبل وتصدرت روايته الوحيدة «كلهم أعدائى»، ثم تأكد لى ذلك من خلال ثلاث رسائل بعد المقدمة، جاءت الرسالة الأولى منها إلى أمِّه التى ماتت فجأة قال فيها: «عشتُ فى الظلام كل سنوات عمرى.. أرجو أن تشرقى فجأة فى حياتى لتبددى الظلام من حولى؛ لتبعثى الدفء فى أوراقى الجافة الميتة».
الرسالة الثانية إلى أبيه قال فيها: «أبى.. بنوّتى لك تمنعنى من كراهيتك.. لا أعتقد أننى حقيقة أكرهك.. لكنى لا أستطيع أن أغتفر لك أنك أحضرتنى إلى عالم يناصبنى العداء الشديد حتى نخاع عظامه.. خلقتنى غريبًا يا أبى أبحث عن الانسجام فى عالم ملىء بالفوضى.. أتعذب.. أتعذب وحدى دائمًا على إيقاع ضحكات الآخرين وسخرياتهم».
والرسالة الثالثة إلى يناجى ربه، قال فيها:
«إلهى.. لقد أرسلتنى إلى عالم أشعر فيه بخجل شديد من نفسى، كلما أبصر بها فى عيون الآخرين. إلهى.. لن أسألك عن السبب.. فلا ريب أنك تملك سببًا وجيهًا لذلك»؟.
كانت هذه الرسائل الثلاث لها دلالاتها فى تصديره للمجموعة القصصية وتدل فيما أعتقد إلى أنه كان يشعر بغربة، وتجاهُل، ولا أحد يسمعه، ومن ثمّ أراد أن يسمعه الجميع من خلال تلك الأفكار التى تُعبر عنه، وليس عن أبطاله سواء فى الرواية، أو المجموعة القصصية.
بعد 40 دقيقة تقريبًا كنا انتهينا من تناوُل وجبة الغداء، وطلبتُ أن ننتقل إلى روف المطعم فى الهواء الطلق، وهناك نحتسى الشاى معًا. كان «أبوسعدة» على موعد فى مقهى زهرة البستان الساعة السادسة، لكنه أجرى اتصالًا، قام فيه بتأجيله ساعة أخرى؛ ليحتسى معنا فنجان قهوته، ويُكمل معى سماع مأساة رجاء عليش، ذلك الأديب الموهوب باعتراف الوسط الثقافى بعد انتحاره الذى فجّر شقته فى العقار رقم 43 شارع محمد فريد بالنزهة، بست أنابيب بوتاجاز وضعها فى حجرة الصالون، وصفيحتين من البنزين، ومثلهما من الجاز، قبل نصف الساعة من مغادرته للعقار كله؛ ليستقل سيارته ويتجه إلى شارع بغداد بحى مصر الجديدة، ويقف بها أمام العقار رقم 16 ويقتل نفسه بمسدس (عيارـ 38) بعدما ترك فى تابلوه السيارة خطابين، الأول للنائب العام أو لمن يهمه الأمر، والثانى لرجال الشرطة. ووصية تاريخية، أوصَى فيها بعقارات تُقَدّر بمليون جنيه بعد حُكم المحكمة عام 1988م ـ لصالح اتحاد الكتاب، وجمعية الأدباء، وصفحة «الأدب» بـ«الأخبار». تلك الوصية التى تُعَد هى الأولى من نوعها فى تاريخ الأدب المصرى والعربى كله فى العصر الحديث.
(يتبع.. فى الأسبوع المقبل)