ثورة يوليو حبست رئيس البوليس السياسى.. وثورة يناير برأت رئيس أمن الدولة!

موفق بيومي
تعامل مصر مع ديناصورات نظام مبارك سيظل مثار تعجب البشرية.. إذ كيف تحاكم هؤلاء وفق القانون العادى، وأمام قاضيهم الطبيعى، رغم ما فعلوه فى البلاد والعباد.
من هؤلاء الديناصورات حبيب العادلى وزير الداخلية الذى فجر الغضب المكتوم داخل المصريين لما يقارب 60 سنة، وأجهزته الأمنية الشرسة خاصة أمن الدولة.
التاريخ المصرى الحديث يسجل واقعة مشابهة على هامش ثورة يوليو حيث تمت محاكمة البوليس السياسى وإدانة رجاله، وهذا ما لم يحدث مع مملكة العادلى بعد ثورة 25 يناير.
ماهو الفرق بين الثورتين فى التعامل مع أجهزة الأمن المشهورة بالتعذيب ولماذا كانت ثورة يناير شوفانية إلى هذا الحد؟
هذا التحقيق يجيب.
من سجن طرة ومزرعته المثمرة التى استصلحها الفريق حيدر باشا قائد الجيش الملكى ووزير الحربية وخال الصاغ - المشير - عبدالحكيم عامر، إلى سجن الكلية الحربية فى أعقاب يوليو 52 ومن اللواء حبيب العادلى وحسن عبدالرحمن ورفاقهما إلى اللواء محمد إبراهيم إمام والبكباشى محمد الجزار ومعاونيهما.
من المؤكد أن الجانب الأكبر من الشعب المصرى لا يعرف فى الوقت الراهن اسمى إمام والجزار ومن ثم فإنه لا يتخيل كم الرعب والفزع الذى كان يصاحب مجرد النطق باسمهما أمام المواطن العادى قبل أكثر من ستين عاما مضت وقت تربعهما على قمة جهاز البوليس السياسى والقسم المخصوص، ذلك الجهاز شديد الكفاءة سيئ السمعة مفرط التجاوزات والذى حلته ثورة يوليو - ظاهريا - لبعض الوقت قبل أن تدمجه مع المباحث العامة ليعاود بعدها نشاطه تحت اسم جهاز مباحث أمن الدولة «الأمن الوطنى حاليا».
اللواء إمام حاد الذكاء عميق الثقافة المتابع بدقة متناهية ومذهلة لشئون مصر الحزبية والدينية والسياسية والعارف بكل صغيرة وكبيرة داخل هذه الكيانات والتنظيمات سواء المعلن عنها أو الخفى من خلال شبكة عنقودية هائلة من العيون والجواسيس فى مصر ما قبل الثورة ومعه البكباشى - المقدم - الجزار النموذج المثالى لضابط البوليس السياسى الكفء - بغض النظر عن سمعته - كلاهما كان من أول ضحايا المحاسبة بعد الثورة واحتلا معا - بحكم منصبيهما - رأس الكشوف المزدحمة بقائمة طويلة من «فلول» النظام الملكى المطلوب إبعادهم وتطهير الجهاز الشرطى منهم ثم محاكمتهم ومعاقبتهم وخلال أيام قلائل - بل ساعات - أعقبت حركة الجيش المباركة جاء الدور عليهما لينتقلا فى غمضة عين - وليس أكثر منها - من العز والصولجان والحرس وجميع مظاهر الفخامة والأبهة إلى زنازين تأديبية ضيقة داخل أسوار السرية الرابعة أو ما كان يعرف باسم معتقل الكلية الحربية حتى صدرت ضدهما أحكام قضائية من محاكم الثورة العسكرية والتى نقلا على إثرها إلى السجن.
إمام والجزار كانا هما الأكثر شهرة مثلما كانا الأشد صلابة وثباتا من بين أكثر من ثلاثين ضابطا آخر ونحو خمسين صف ضابط تم اعتقالهم تدريجيا وصدرت ضد معظمهم فيما بعد أحكام متفاوتة وقد أكدا وهما رهن الاعتقال والتحقيقات المبدئية أن كل ما ورد فى الاتهامات الموجهة إليهما حول أعداد المعتقلين بأوامر منهما، أكدا أنه صحيح وأنصب دفاعهما داخل دائرة نفى ادعاءات التعذيب التى زعمها البعض، وكذلك تأكيدهما على أنهما موظفان داخل آلية جهاز أمنى مهم أنشأته الدولة نفسها وبحكم موقعهما كان عليهما اتخاذ الإجراءات الضرورية لحماية أمن الوطن والملك والشعب وأكدا أيضا فى أقوالهما الرسمية أنهما نجحا فى اختراق جميع الأحزاب والتنظيمات المختلفة من غير استثناء واحد وكان لهن ما بين خمسمائة وستمائة مرشد داخل هذه الجهات تراوحت وظائفهم ما بين السعاة وجامعى القمامة وصولا إلى رؤساء الأحزاب والوزراء وأن الجميع كانوا يحصلون على أجر مادى أو عينى أو معلوماتى - لقاء خدماتهم كما أشارا إلى وجود خط اتصال مباشر مع القصر الملكى من خلال ثلاثة محاور، أولها للمسائل المهمة مع رئيس البوليس الملكى وثانيها مع رئيس الديوان فى حالة الأمور الخطيرة وآخرها مع الملك نفسه حال المسائل البالغة الخطورة أن هذه الاتصالات كانت تتم دون المرور على متسلسل القيادات التقليدى المتبع فى وزارة الداخلية كما اتفقا على إيمانهما بكل ما قاما به من إجراءات - وصفاها بالمجهودات - التى انصبت من وجهة نظرهما لمصلحة البلد كما سخرا من الاتهامات الموجهة إليهما وإلى الجهاز ككل بالاشتراك فى حريق القاهرة الشهير فى 26 يناير 1952 وقبل قيام حركة الجيش ببضع شهور.
.. المحصلة النهائية أن إمام والجزار كانا الأصل الذى تم استنساخ متهمى جهاز الشرطة الحالى منه مع تشابه - إن لم يكن تطابق - الكثير من الاتهامات والوقائع وكذلك تطابق الدفع والدفاع.
من الزنازين التأديبية للكلية الحربية إلى معتقل ماقوسة بالمنيا ومدرستها القانونية والتى كانت فى الأصل مقرا لقيادة قوات الجيش الإنجليزى بالصعيد، حيث جرى اعتقال ومحاكمة صالح عدلى لملوم صاحب موقعة الجمل الميناوية فقد كان لملوم شابا فى مقتبل العمر وابن واحدة من أكبر وأشهر عائلات الصعيد ومصر كلها وأحد كبار الملاك الذين سرت عليهم أحكام قانون الإصلاح الزراعى وهو الأمر الذى رفضه الشاب بطبيعة الحال مظهرا العجب من أن تصادر الدولة أملاك آبائه وأجداده لتعطيها للفلاحين والتابعين الذين يعملون فى مزارعه وعزبه فما كان منه إلا أن ركب حصانه وسط مجموعة كبيرة من أتباعه وحاصر مركز بوليس مدينة مغاغة، حيث يعيش وأطلق وابلاً من الأعيرة النارية على مبنى المركز الذى احتمى به المأمور وضباط المباحث وقوة الشرطة ولم تنته المسألة سوى بحضور سريع من بعض قوات الجيش التى تعاملت مع المسألة بحزم واعتقلت صالح لملوم وأتباعه.. لم يدرك صالح أن الدنيا قد تغيرت، وأن المسألة لا تقف عند حدود المأمور ومدير المديرية وكلاهما كان يتمنى قبل أسابيع رضا الرجل حتى يضمن البقاء فى موقعه.. لم يستوعب لملوم سوى بعد فوات الأوان أنه قد وقف دون أن يدرى أمام هيبة دولة ناشئة وهددها بالإضعاف وسيق الشاب إلى السجن، وتحدد موعد عاجل لمحاكمته عسكريا فى فناء مدرسة المنيا الثانوية بعاصمة المديرية - المنيا - وصدر الحكم بالإعدام، ولكن والدته صاحبة الشخصية الأسطورية والعزيمة الفولاذية قادت حملة دبلوماسية مضادة هائلة أسفرت عن تدخل العديد من الملوك العرب لدى اللواء نجيب والبكباشى عبدالناصر كان من نتائجها تخفيف الحكم من الإعدام إلى الأشغال الشاقة ثم أفرج عنه بعد سنوات.
وكان من دعائم هذه الحملة تدخل الملك إدريس السنوسى ملك ليبيا، حيث كانت هناك علاقات مصاهرة بين الأدارسة وآل لملوم كما تزوج آخر ملوكهم فيما بعد من إحدى بنات العائلة، فضلا عن أن عم صالح نفسه كانت تربطه علاقات وثيقة مع بعض أعضاء مجلس قيادة الثورة، وبخاصة عبدالحكيم عامر الذى ترتبط عائلته أيضا بصلات نسب مع آل لملوم أصحاب الجذور العربية والمقيمين على أطراف الوادى حول البحر اليوسفى غرب مركز مغاغة.
نموذجان سريعان استدعتهما الذاكرة للعبة تبادل الكراسى الناشئة عن غدر الدنيا وتبدل الأحوال وما أكثر ما تفعله الدنيا بأهلها !
السنوسى
عبد الحكيم عامر
صالح عدلى لملوم اثناء اعتقاله