السعوديون أكلوا «رز ولحمة ومهلبية» فى التكية المصرية

حسام عبد الهادي
التكية المصرية هى الصدقة الجارية التى حرصت الأسرة العلوية على إقامتها منذ أن تولى رأسها (محمد على باشا) الحكم لتكون من الآثار الإنسانية والخيرية الجليلة التى صنعتها تلك الأسرة خلال فترة حكمها لمصر. خصص «الباشا» التكية لخدمة الذين يكابدون الفقر المدقع، ولا يملكون مأوى ولا طعاماً، خاصة فى شهر رمضان الكريم.
وكان الفقراء يقصدون (التكية)- التى كانت تستوعب أكثر من 4000 شخص - يومياً قبل الإفطار- وهى (التكية) الرئيسية التى كان موقعها الأصلى بمنطقة القاهرة القديمة، بخلاف التكايا الصغيرة التى كانت موزعة على جميع أنحاء مصر، والتى كانت تستوعب ما بين 300 - 400 شخص- ومع انطلاق مدفع الإفطار الذى كان ينطلق يومياً من القلعة- كطقس احتفالى ارتبط بشهر رمضان- كان يوزع على كل فقير رغيفان وصحن من «الشوربة» والأرز واللحم وطبق من المهلبية أو الأرز باللبن، وذلك طوال أيام شهر رمضان المبارك.
مفعول (التكية) لم يتوقف فقط عند شهر رمضان، بل كان يمتد طوال أيام السنة ليصرف لكل فقير مقرراته اليومية من الخبز والأرز والقمح واللحوم والسمن، وتزيد الكمية كل يوم (خميس) على اعتبار أنه يوم بهجة تتجمع فيه الأسر المصرية على مائدة عائلية واحدة.
وللتكية ناظر ومعاون وكتبة يقومون جميعا بخدمة الفقراء، وبها طاحونة لطحن القمح، وفيها مطبخ واسع به ثمانية أماكن يوضع عليها أوان من الحجم الكبير (قزانات)، وفيها مخبز يخبز فيه العيش ومخزن كبير واستراحة للمستخدمين.
لم تقف (التكية) عند حدود مصر، بل امتدت لتشمل بلاد الحجاز، وذلك مع دخول جيوش الوالى (محمد على) الأراضى الحجازية بداية من عام 1811 م، وكانت بداية التكايا بـ(مكة المكرمة)، ثم قام (إبراهيم باشا) ابن (محمد على) بعد ذلك بإنشاء (تكية) فى (المدينة المنورة) بمنطقة (المناخة) على يسار باب العنبرية، بمساحة تبلغ 4500 متر مربع، وقد زودها (إبراهيم باشا) بالمخازن والأفران والمطابخ وكانت المؤن من القمح والأرز واللحم وغيرها تأتيها رغداً من ديوان الأوقاف بمصر، وكذلك رواتب ناظر التكية وموظفيها الذين يعينون من قبل الحكومة المصرية.
وكان الغرض من (تكايا) مكة والمدينة إطعام حجاج بيت الله الحرام. الجميل أن (التكايا) هذه المرة لم تقتصر فقط على المصريين، بل شملت أيضاً جميع الجنسيات من حجاج بيت الله الحرام، ورغم خروج مصر من شبه الجزيرة العربية عام 1840 م، وانتهاء السيطرة السياسية لمصر على أرض الحجاز، إلا أن حبال التعاون ظلت ممدودة، وظل الحجاز يعتمد على ما ترسله مصر سنويا من خيرات ومخصصات للحرمين الشريفين وللأشراف والقبائل العربية فيما عرف باسم مخصصات الحرمين والصرة الشريفة حتى عام 1962م.
كانت خدمة تكيتى (مكة) و(المدينة)، والإنفاق عليهما ميداناً للتسابق بين حكام الأسرة العلوية، وكان للخديوى (عباس حلمى الثانى) و(سعيد باشا) واليا مصر فضائل على (التكيتين)، ففى عهدهما تمت زيادة الكميات من اللحم والأرز والغلال بالإضافة إلى زيادة رواتب موظفيها.
كما أصدرا أوامرهما بأن يكون الإنفاق على (التكيتين) من إيرادات أملاكهما الخاصة، وأن ترسل الغلال من الأرض التى يملكونها. وليس عن طريق ديوان الأوقاف، والإنفاق على (التكيتين) سنوياً كان يصل إلى 1960 جنيهاً.
ورغم تسابق حكام الأسرة العلوية على عمل الخير والإنفاق على (التكيتين) وزيارتهما فى السعودية عند قيامهما بأداء (فريضة الحج) أو (العمرة) إلا أن الملك (فؤاد) الوحيد من بينهما الذى كان لا يؤدى تلك المناسك لضعف إيمانه ولتواضع ثقافته الدينية، وكانت علاقته بـ(التكيتين) معدومة ورغم محاولة المقربين منه إقناعه بالسفر إلى الأراضى الحجازية لتكفير ذنوبه، إلا أنه كان يعتذر فى كل مرة بحجة كثرة مسئولياته وانشغاله بأمور الحكم، ولتحسين موقفه الديني- هكذا ظنوا وظن هو أيضاً - اقترحوا عليه تعيين أحد الأفراد فى التكية يقوم بأداء الصلوات الخمس، مقابل أن يقوم بالدعاء له، ويتقاضى مقابل ذلك راتبا شهريا 25 جنيها، ووقع الاختيار على الشيخ (على الغزالى) للقيام بهذه المهمة.
دور (التكيتين) الخيرى استمر حتى هدمتهما السلطات السعودية عام 1983 فى عهد (حسنى مبارك) الذى قيل إنه فرط فيهما نظير مصالح مشتركة مع السعودية. والسبب فى هدمهما كان سياسياً فى المقام الأول، فالمملكة تريد محو التاريخ القديم، وألا تتذكر الأجيال الجديدة أن مصر كانت تطعم سكان (مكة المكرمة) و(المدينة المنورة) وكذلك حجاج بيت الله الحرام.
خاصة وأن المملكة العربية السعودية سعت فى فترة ما لكى تتولى قيادة العالم الإسلامى وإحياء الخلافة الإسلامية بعد سقوطها على يد (كمال أتاتورك) فى تركيا عام 1924، ودار صراع سياسى حاد بين الملك (عبد العزيز) والملك (فاروق) ملك مصر والسودان، وتنافس عاهلا السعودية ومصر فى إقامة القصور استعداداً لاعتلاء كرسى الخلافة، فأنشأ الملك (عبد العزيز) سلسلة من القصور فى مدينة (الخرج) القريبة من العاصمة (الرياض)، وتوسع (فاروق) فى قصوره بـ(الإسكندرية) و(القاهرة).
ومع اشتداد الصراع على منصب الولاية والخلافة تدخل الإنجليز وفضوا الاشتباك بين العاهلين، بابتكار فكرة الجامعة العربية عام 1945م ، وبالتالى انطفأ الصراع على منصب الخليفة الديني.
ولأن مصر كانت المنافس القوى للسعودية دائماً، لهذا قامت بهدم كل الآثار المصرية فى الجزيرة العربية، خاصة (التكيتين) فى (مكة) و(المدينة)، لكى لا تتذكر الأجيال الجديدة الدور القيادى لمصر فى أرض (الحجاز)، لدرجة أن السلطات السعودية كانت تمنع المصريين من زيارة (التكيتين)- كمعلم من معالم مصر- قبل هدمهما فى سرية تامة!